لم يكن مخرج الأفلام التسجيلية السوفياتي الأصل تزيغا فيرتوف مبالغا عندما فضل، في عشرينات القرن المنصرم، العين السينمائية، وهي عدسة الكاميرا، على العين البشرية، لأنها حسب فيرتوف تمتلك ميزة تسجيل تفاصيل مهمة من الواقع اليومي لحياتنا بعد أن تفصلها من الواقع وتضعها في إطار فاصل (إطار الصورة) لتصبح بعد ذلك تحت مجهر وعينا كي نتأملها و ندرسها بعناية، تماما كما يفحص عالم الأحياء تحت مجهره عينات مختبرية فصلها من الطبيعة. أن فيرتوف فهم «العين السينمائية» عى أنها ما لا تراه العين وهي ميكروسكوب وتلسكوب الزمن وهي إمكانية الرؤية بدون حدود وأبعاد. في ذلك التاريخ كان فيرتوف منبهرا بالماكنة التي أخذت تحرك حياة البشر بسرعة فائقة. فهو تصور أنها، وهو لم يكن مخطأ في ذلك، ستنقل الأنسان من عالم العبودية إلى عالم يكون فيه البشر مرفهين وأحرار. هذا الأندفاع «الثوري» دفع بصانع الأفلام التسجيلية إلى القيام في تلك الحقبة من بدايات الفن السابع بتجارب كبيرة على الكاميرا. أراد فيرتوف أن يثبت في بحوثه السينمائية الجديدة أن عين الكاميرة تتفوق على العين البشرية، فأخذ يبحث في مختبره على تلك الآلة الخارقة التي ستسجل ومن ثم تعيد تنظيم المرئي على شريط السيلوليد... إنها وبإختصار الكاميرا السينمائية! من كل هذا العرض نرى أن فيرتوف أراد أن يقول شيئا مهما، وهذا ما إستوقفني في هذا المقال، مفاده أن هنالك تعارض بين «الحياة كما هي» من زاوية العين البشرية الناقصة و»الحياة كما هي» من وجهة نظر الكاميرا. هذا التفوق «الفيرتوفي» (نسبة إلى فيرتوف) فيه شيء من النبوءة خاصة عندما نرى في أيامنا هذه هوس البشر الكبير بالصورة التي كثيرا ما نجري خلفها بعدسات هواتفنا النقالة، وهو هوس أن نصور أي شيء يقع تحت أعيننا مهما كبر أو قل شأنه: طفل يجري في حديقة عامة، طاولة مأكولات بيتنا، نافذة مفتوحة على الفضاء، سماء زرقاء أو قطة تعبر شارع عام... أو أن نصور وبكل بساطة أنفسنا (سيلفي) في كل الحالات والإحتمالات، الأمر الذي لم يتوقف على النساء وحدهن وإنما نافسهن الرجال أيضا في حب الظهور أمام عدسة الكاميرا! ولا أدل على ذلك ما يحدث اليوم لملايين السياح عبر القارات اللذين لا يرون المشهد الذي أمامهم إلا بعين الكاميرا خاصة وقد أصبحت اليوم كاميرا في كل جيب مع أجهزة التلفونات الحديثة. أليس في هذا إذن إنتصار لفيرتوف عندما تنبأ بسلطة وتفوق «عين الكاميرا» على العين البشرية، أليس فيرتوف محقا عندما قال بإنتصار «الحياة كما هي» من وجهة نظر عين الكاميرا وليس من زاوية عين الإنسان؟ وأخيرا أليس في كل هذا إنتصار حقيقي للسينما في شكلها التسجيلي (الوثائقي) الصافي، وهو بداية مبشرة بالخير لسينما «الحقيقة أو الواقع»، هذا المصطلع الذي أعاد الآن للسينما التسجيلية الحياة من جديد والذي سجل براءة إختراعه صانع الأفلام الكبير تزيغا فيرتوف منذ بدايات القرن المنصرم. *مخرج سينمائي وأكاديمي