حركات الآلة (الكاميرا) وتعديلات البؤرة كلها مجرد تدخلات للإنسان على ظاهرة تمت ملاحظتها. وعلينا أن نفترض أن هناك كاميرات متعددة تعمل في وقت واحد، لنأمل أننا في المونطاج، نستولي كليا - تحليليا وتركيبيا- على الواقع. لكن عملية المونطاج التحليلي والتركيبي هاته، هي في آخر المطاف، من نفس طبيعة العملية الفكرية التي تفرضها كتابة مقال أو كتاب. وفي كل الأحوال، فالحقيقة التي قد تمتد إليها السينما لا يمكنها أن تغض الطرف عن انشغالات الشاهد أو الباحث. هل تثير اللغة السينمائية مشاكل أكثر إزعاجا من اللغة المكتوبة عندما يتعلق الأمر بمعالجة ظاهرة أمبريقية؟ بداهة، يمكننا أن نعتبر العكس: فالصورة السينمائية يبدو أنها تلغي هذا الوسيط الذي يقوم بالتجريد ووضع خطاطات ويترجم- إذن يخون- هذا المعطى الحساس. والصورة السينمائية هي وثيقة – أي انعكاس لما يبدو أكثر إخلاصا من ملاحظة تم تدوينها على مفكرة. ولكن في الواقع، لا تتوفر الكاميرا على حركية عين الإنسان، على الرغم من أنها تسجل بدقة أكبر. هذه العين الضخمة التي ترتكز على عكازات ما زالت تمثل إعاقة، ويلزم أن ننتظر إلى أن تحصل على الخفة والقدرة على المناورة الشاملة، لتتحول إلى زائدة دودية (تابعة) لعين المصور. وهذه المناورة، فضلا عن ذلك، لن تحل جميع المشاكل، ذلك أن حركات الآلة (الكاميرا) وتعديلات البؤرة كلها مجرد تدخلات للإنسان على ظاهرة تمت ملاحظتها. وعلينا أن نفترض أن هناك كاميرات متعددة تعمل في وقت واحد، لنأمل أننا في المونطاج، نستولي كليا - تحليليا وتركيبيا- على الواقع. لكن عملية المونطاج التحليلي والتركيبي هاته، هي في آخر المطاف، من نفس طبيعة العملية الفكرية التي تفرضها كتابة مقال أو كتاب. وفي كل الأحوال، فالحقيقة التي قد تمتد إليها السينما لا يمكنها أن تغض الطرف عن انشغالات الشاهد أو الباحث. وهذا معناه، وعلى المنوال نفسه، أن ليس بوسعها الهروب من التجريد الذي يمارسه العقل البشري على الواقع من أجل فهمه؛ فالفهم يعني دائما إسناد الواقع، على نحو متبادل، لبنيات العقل البشري، وبينات العقل البشري للواقعي. وهذا يسمح لنا بإلغاء ذلك الحلم المجنون لأولئك الذين كانوا يأملون في توثيق سينمائي، وبحث سينمائي، وسوسيولوجيا سينمائية، خالية من النزعة الإنسانية، ومن الذاتية، ومن شخصية السينمائي/المخرج. وبالتالي، فأي مشكلة تتحول من الوثيقة المصورة ( filmé) إلى المخرج نفسه. إذ تعتمد الصلاحية الموضوعية للفيلم على صدق السينمائي، وعلى دقته وذكائه وفطنته. وإذن، فهذا هو التعريف الإطنابي للفيلم العلمي: الفيلم العلمي هو الفيلم الذي أخرج (صور ووضب) بحس من التوضيح والتثبت العلمي. هذا التعريف ليس هناك أي ميزة سوى إزالة المثال المستحيل لسينما خارج ما هو إنساني. ولكن ما زالت هناك مشاكل. ليس فقط المشاكل التي تطرحها كل عملية فكرية - وأي فيلم هو عمل فكري – ولكن تلك المشاكل المحددة التي يطرحها البحث السينمائي حول الحقيقة. هناك مشاكل تقنية: ذلك أن تقنية التسجيل السمعي البصري تنجز، باندفاعات متعددة، تطورات حاسمة؛ فالكاميرا الإلكترونية عازلة للصوت، وهناك أنواع جديدة من الميكروفونات (الميكروفونات المحمولة، ما يسمى الآن «الميكرو كرافاط» أو الميكرو فيزي)، إلى جانب طرق التقاط الصوت عبر المسجل المحمول- أو أفضل من ذلك عبر جهاز الإرسال البالغ الصغر، كما أن هناك شرائطا للأفلام فائقة الحساسية ومضادة للإضاءة. وكل هذا، يجعل الباحث يتوجه كغواص نحو الأعماق المجهولة للحقيقة، فاتحا أمامه، على نحو حقيقي، بعدا ثالثا. هناك مشاكل جمالية في مستوى الصورة: صورة تحمل صفات الحياة غير المتمايزة، بما في ذلك صفاتها الجمالية. فلنأخذ على سبيل المثال رقصة: سيتم شحن صورة الرقص بشعر يعود أصلا إلى الرقص، بينما تميل اللغة المكتوبة دائما نحو القضاء على هذا الشعر لتحليل الإيماءات والحركات. في الحياة، هناك دائما شعر محدد يُمجِّد غالبا صورة، كما يحاول المصور تمجيدها بوسائله الخاصة (زاوية الالتقاط، التأطير/الكادراج). وأي رغبة في إلغاء هذا الشعر ستكون، ليس فقط همجية فقط، بل سخيفة وعبثية. كما أن الخطر ليس في هذا الشعر، بل في إغراء تجميل، أي منح الأفضلية للصور الممتعة للعين على حساب الصور الأخرى، ذلك أن التجميل يؤدي إلى الفيلم المزور، وإلى الصورة من أجل الصورة. ذلك أن الشيء «الخلاب» يميل ، بشكل طبيعي، إلى تدمير الواقع، وهذا هو الخطر الذي يتربص بالإثنوغرافيين وعلماء الاجتماع الذين يذهبون بحثا عن الحقيقة، لكنهم يتعرضون على طول الطريق لإغواء حوريات الجماليات- بل في كثير من الأحيان الجماليات الأكثر تقليدانية. هناك مشاكل جمالية على مستوى المونطاج. وهنا أيضا، يلعب إغراء إظهار ما هو جميل دورا. لكن مع إمكانية غير محدودة من التزوير وتشويه الطبيعة. يضاف إلى ذلك كله المشاكل النحوية على مستوى المونطاج. هناك قواعد للمونطاج، التتي تعتبر بالفعل بلاغة أساسية ظهرت وفقا للاحتياجات التجارية للسينما المتعارف عليها: وهذه البلاغة تتحكم في نوع من المونطاج مرتبط بالمُشَاهد الذي يرغم المخرج، حتى ولو لم يرغب في إخراج فيلم تجاري، على الامتثال لهذه البلاغة. ذلك أن ليس بوسعه أن يصنع بلاغة أخرى، ولأنه خاضع لمدرسة الموضبين (مهنيي المونطاج) المحترفين. وبالإضافة إلى ذلك، إذا كان لديه طموح - مشروع – لتسويق فيلمه، فإنه سيقدم تنازلات أكثر خطورة: القضاء على ما يفترض أنه يزعج أو يبعث على الاستياء، بل الإسراف في إضافة «قصة» اصطناعية على فيلمه. هذا يقودنا إلى الاستنتاج التالي: يجب إعادة التفكير جذريا في مشاكل المونطاج على مستوى السينما/ الحقيقة؛ ليس من أجل القضاء على الشعر والفن – وهذا ما قلته سابقا. فكل فيلم علمي- وهذا ما أضيفه الآن- ينبغي أن يتقبل، بسعادة، الشعر والفن. ولكن يجب علينا أن نرفض التجميل، والإعداد الاصطناعي، وقواعد المونطاج بأسلوب «بيرتوميو»، ومعجم المونطاج. إن المشاكل المذكورة حتى الآن تطرح بأشكال مختلفة على مستوى الكتابة نفسها: وهنا أيضا هناك اختيار للمعطيات، ومحاولة تقديم واقع متمايز أو منمق، ومواجهة بين الكاتب والبلاغة التي تعلمها. إن هذه المشاكل هي أقل وضوحا، لأن هناك تمييزا واضحا بين اللغة العلمية واللغة الأدبية، ولكن أيضا لأننا نقوم بخنقها (المشاكل). أما إذا كنا نريد أن نتعرض لمشكلة السينما المحددة حقا، فهي أساسا التشويش الذي تسببه الكاميرا للظاهرة الموضوعة تحت الملاحظة. وبالتأكيد، فإن الإثنوغرافي في الميدان يعطل، حتى بدون وجود كاميرا، الحياة التي يريد فهمها في موقعه الطبيعي. كما أن عالم الاجتماع الذي ينكب على العالم الصناعي يثير، في المصنع (ميدان البحث)، الريبة أو التراخي. وفي كل الأحوال، فإن عمليات التمويه على الواقع تمارس ضد كل مراقب جاء من الخارج. ويبقى للمراقب أن يموه نفسه. بيد أنه من السهل تمويه رجل عوض الكاميرا. إذ يستطيع الرجل أن يختلط مع الجماهير، ومع الطقوس، ومع العبادات، ووأ، يعبر دون أن يلاحظه أحد إذا كان مقلدا للآخرين. أما الكاميرا فهي دائما مرئية. طبعا يمكن إخفاؤها، أحيانا، وراء زجاج بدون لون، داخل سيارة موظف البريد ... فالكاميرا يمكنها أن تكون للمراقبة ، والصيد مثل كاميرا «دزيغن» و»فيرتوف». ولكن هناك قيودا عملية وأخلاقية لكل تمويه. هناك أماكن وحالات التمويه فيها غير ممكن. هناك حالات حيث تصبح المراقبة الخفية طيش، وبذاءة ومنكر. وهنا تطرح مشكلة: إذا كانت الكاميرا ظاهرة للعيان، فهل معنى ذلك أنها لا تقوم بتحويل الواقع؟ ألن يتظاهر الواقع بذلك، بشكل أقل إتقانا من السينما الخيالية، وأكثر اصالة من السينما الملعوبة؟ ألن يتجمد الواقع، ويتأنق، ويفقد ما هو جوهري بالنسبة إليه، أي الحياة التلقائية، ليصبح ميكانيكيا؟ ألا أيضا يمكن أن يتولد عن هذا اللقاء بين الكاميرا والحقيقة نوع جديد من الحقيقة الذي بإمكانه أن يصبح حوارا بين الراصد والمرصود، أي حين يطلب الراصد من المرصود ان يكشف له عما قد يسفر عنه هذا اللقاء؟ كل هذا ليس ممكنا فحسب ولا مفر منه، بل يقدم نفسه في الغالب، وبشكل خفي، مختلطا بالصور. لذلك ينبغي التفكير في أي نوع من الحقيقة نسعى إليه - وفي حالة الفيلم العلوم الاجتماعية، ينبغي التفكير في النتائج التي تسببها مستويات السلوك الاجتماعي المختلفة. هناك السلوك الاجتماعي الطقوسي /الاحتفالي: وفي هذه الحالة، تتمسرح الحياة بالفعل؛ فالمتعبد التابع لمذهب ورئيس الدولة الذي يلقي خطابا، هما معا في وضعية مسرحية فعلية. وها هنا، فإن الفيلم لا يزعج مطلقا ما تم إخراجه اجتماعيا. هناك السلوك الاجتماعي المكثف: الحرب، العراك، الحدث الرياضي، إلخ ... وفي هذه الحالة، فإن العاطفة الجارفة التي على المحك هي من الكثافة بحيث لا يمكن للكاميرا أن تنسى أو يقع تجاهلها من قبل المشاركين. إذ كلما كان قطب الفائدة أو العاطفة أقوى من الكاميرا، فإنها تتوقف عن التشويش على الظاهرة. هناك السلوك الاجتماعي الفني: ويهم حركات العمل بالأدوات أو الآلات؛ في هذه الحالة، لا تشعر اليدان ولا الجسد بالانزعاج في عملياتهما الأساسية. ولكن وجه العامل وظروف عمله الاجتماعية لن يكونا أصيلين. هناك الباقي، وهو الأشد صعوبة، والأكثر إثارة للمشاعر، والأكثر سرية: فكلما كانت مشاعر الإنسان محط تساؤل، وكلما كان الشخص معني بها مباشرة، وكلما كانت علاقات فردية داخلية للسلطة، والتبعية، الرفاقية، والحب، والكراهية، أي كل ما يهم النسيج العاطفي للوجود الإنساني. هذا هو ما يمكن التعبير عنه ب»الأرض المجهولة» للسينما السوسيولوجية أو الأنثروبولوجية، سينما الحقيقة. هذه هي أرضه الموعودة التي تتحرك في اتجاهها، اليوم، تيارات بحثية متعددة في العديد من البلدان. ويتعلق الأمر- وهذا ما ندركه في الممارسة العملية- ليس فقط باكتشاف الحقيقة، بل أيضا باستخراج الحقيقة أن تنكمش وتتخفى، أو تبقى دائما تحت سطح المظاهر. ويساعدنا لوك دي هوسش، بشكل رائع، على فهم هذه المشاكل. وفي نهاية المطاف، فالأهم في مبحث الحقيقة ليس هو الحقيقة، ولكن طرح مشكلة الحقيقة. فنحن بعد أن نكون قد تجاوزنا جدار صوت الذي يضع الواقع في مواجهة مع الكاميرا، فنحن نكتشف أن الواقع نفسه مصنوع، إلى حد كبير، من الكوميديا. فالسوسيولوجيون الذين قاموا بتحليل العلاقات الاجتماعية، عبر تقمص الدور كما تفرضه ضرورات البحث، «وجدوا فكرة قديمة كانت موجودة عند الفلاسفة وعلماء الأخلاق: «العالم مسرح»، كما قال شكسبير. ويمكن تبعا لذلك لسحر السينما أن يبدد الغموض الذي يكتنف وجوه الحياة، كما يمكنه أن يجعلنا نرى تلك الكوميديا، التي هي الحباة الاجتماعية، بوجوهها المتعددة. فهذه الكوميديا تكشف لنا عن الحقيقة بقدر ما تخفيها: أقنعتنا - أعني وجوهنا - أدوارنا - أعني كلماتنا – تجعلنا نعبر عن أنفسنا وأن نموه عنها في نفس الوقت.