عن دار التّكوين بدمشق صدر قريبا ديوان شعريّ جديد عنوانه «أكواريل» للشّاعرة السّورية سوزان إبراهيم، وإذا كانت القصيدة ماء منسكبا، والماء اسم قديم للشعراء يقول الشاعر المغربي الوامض ابراهيم قازو، ف: أكواريل كون من الألوان المائية.. الألوان الجميلة والشفافة ، وهكذا هو عالم هذه الشاعرة التوأمة الإنسانة، والمغرمة بالماء والحياة، على هامش صدور ديوانها «الآن صرت غابة» كان لنا معها هذا الحوار حول عوالمها الشعرية. سوزان ابراهيم ..شاعرة وإنسانة ...هل من مقارنة ؟ سوزان الشاعرة والإنسانة منسجمتان بدرجة عاليةٍ وهذا أمر مرهقٌ لروحها, سوزان الإنسانة تمارس الحياة بروح الشاعرة, والشاعرة ترى الحياة بعيني وقلب الإنسانة.. هما توأم سيامي قد يكون في محاولة فصلهما خطر يتهدد كلاً منهما. في هذه الحالة تأتي القصيدة بنتاً شرعية لكليهما, وقد تتفوق الشاعرة غالباً, لأن مشاعرها وحساسيتها تطغى كل الوقت وتُبقي تلك الإنسانة بحالة ركض مستمر للحاق بتلك الشاعرة المغرمة بالسباق مع الحياة. ثالثا: ماذا عن القصيدة الأولى؛ وعن الشعلة الأولى كيف اتقدت؟ في أول وعيٍّ لي أتذكر أنني بدأت القراءة في سنٍ مبكرٍ جداً, قصص الأطفال, دواوين الشعر في مكتبة البيت الصغيرة.. والروايات العالمية التي داومت على استعارتها من مكتبة المدرسة. عشتُ طفولتي بين الكتب, وهكذا- ربما- بنيت لنفسي عالماً موازياً للواقع راح يكبر مع الوقت إلى أن صار يشدني إليه معظم الوقت. عالمٌ مُشتهى.. تنتابك فيه مشاعر مختلفة.. فصار هذا العالم ملجئي. أذكر أنني كتبت أول قصيدة- أقصد ما يمكن أن أسميه قصيدة- وأنا دون الثالثة عشر من العمر.. لعل وجود أبٍ قارئٍ وراوٍ بارعٍ للحكايات قد ساهم بإيقاد الشعلة, ثم تابعت, ومازلت, دفع الزيت في سراج اللغة ليبقى مضيئاً. ولا: كيف تلجين القصيدة ..هل تأتيك وحياً أم مراودة؟ وماهي ملامحها؟ في بيتٍ صغيرٍ حميمٍ نقيم: القصيدةُ وأنا, المسافة بيننا مسافة اتصال وانفصال اتوماتيكي يحددها مزاج إحدانا, أحياناً أقتربُ فتبتعدُ, وتقتربُ فأبتعدُ.. وفي معظم الحالات نتوافق على موعدٍ واحدٍ.. الحقيقة هو موعد غير متفق عليه تماماً, فقد أذعنُ لها أو العكس, المهم في نهاية الأمر أن نكون معاً في ذات اللحظة الحارة, جاهزتان لواقعةِ حبٍّ, لنسجِ سجادةٍ لغويةٍ جديدة, حين تهمس الفكرة في رأسي تدوخني, تلجُ كل خلية في كياني الواقعي وكوني اللغوي, تنفتح مرشاتُ الصورة.. تتلاحق وبالكاد أتمكن من التقاطها كلها دفعة واحدة.. تتهاطل عليَّ, كياسمينٍ دمشقي فأسارعُ لالتقاطه قبل سقوطه.. لا هي تهدأ ولا أنا أرتاح حتى نقيم صلاةً مشتركةً نشعلُ خلالها شموع أمنية واحدةٍ: أن تكون عصارة روحينا طازجة وطافحة بالمعنى الأبعد عن الإمساك به بقراءة واحدة. ثانيا: زاوجت بين القصة والقصيدة ؛ فأين تبنين خيمتك وتستريحين؟ أنا قارةٌ لغويةٌ, لها تضاريس مختلفة, من تضاريسي: القصيدة والقصة والمقالة والرواية وغير ذلك, أبني خيمتي دوماً في أرض اللغة المجنحة, متعددةِ المستويات. انبثقتُ بدايةً من برعمٍ شعريٍّ, ورحت أحاول إتقان العالم حولي عبر القصيدة أولاً, وفي مرحلة ثانيةٍ توجهت إلى القصة لتجريب مستوى آخر من اللغة, لكل منهما- القصيدة والقصة- عالمان مختلفان توحدهما لغة ومخيال, ويفترقان في الإيغال في الحالة اللغوية, في الشعر على اللغة أن تحلّق إلى ارتفاعات أعلى, وأن تحفر في طبقات المعنى, الأمر قد يكون مختلفاً قليلاً في القصة التي تقترب من الأرض أكثر. القصيدة هي بيتي الأول الذي قد أنطلق منه في دروبٍ شتى, لكنها بيت عودتي دوماً.. بيت إقامتي وعنواني الدائم. هذا عصر قاتل ..كل شيء ينبئ بالموت والحروب ...فأين الشاعر ؟ في عصر القتل والموت لا صوت يعلو على صوت السلاح, فبأيِّ شيء سيواجه الشاعر هذا العالم الخراب!! مهمة الشاعر رؤيوية استشرافية تسبق كل هذا العالم وتنبئ عما يمكن أن يقع, وقد وقع فعلاً, الشاعر نبيٌّ لا كرامة له بين قومه.. وقد يكون مجرد بهلوان في سيرك الحياة السخيف! العزلة كهف المبدع حيث تختمر لغته, ليغدق على الحياة مما قطّر الحياة نكهة أخرى, كأن تكون حياةً بنكهة القصيدة.. بنكهة الحلم أو الرؤيا. في عصر قاتل كهذا إما أن ينسحب الشاعر إلى عزلته كي لا تتلون لغته بلون الدم والخراب, وإما أن يواكب الواقع ليوثّق بكاميرا روحه فيلماً تسجيلياً يتركه وثيقة لأجيال قادمة.. في كل العصور لم تكن مهمة الشاعر فعلاً على الأرض, بل فعلاً في الذاكرة الجمعية. الروائية الأمريكية «كاثرين هاريسون»..تكتب لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي تعرفه ؛والذي يمنحها الامل لتكون جديرة بالمحبة ..وسوزان لماذا تكتب؟ الكتابة تتيح لي أن أعيش نفسي في أكثر من عمر واحدٍ.. تعطي لحياتي مستويات متعددة, إنها رغبتي الأنانية ربما بمضاعفة العمر هذا أولاً, وثانياً أنا أكتب لأنني منذ وعيت وجدتني أكتب, كأن هذا جاء معي من عالم آخر, من طفولةٍ سابقةٍ.. فالكتابة تبقيني طفلة من الداخل, طفلةً بمعنى القدرة على التواصل مع الماورائيات, مع الإلهام, مع الأحلام, أكتب لأنني لا أملك القدرة على عدم الكتابة, فدونها أشعر باليباس.. وأنا أعشق الخضرة. في الكتابة محاولة لبناء جسر مع آخر لا تعرفه, ولأن في العالم كثير من الجدران, لابد أن نشيد كثيراً من الجسور. عناوينك القصصية والشعرية ملفتة؛ تستفز القاريء إيجابيا ثم تتصيده؛ بالمناسبة؛ من أي حديقة شعرية تأتين بهذه الثريات؟ العنوان أول عتبات الدخول إلى النص, هو موجزٌ لأنباءٍ ستأتي, شمعةٌ صغيرةٌ تلقي على ما حولها بعض ضوء. اختيار العناوين بمهارة أمر أساسي, لأنها أول الفِخاخ –بالمعنى الإيجابي أيضاً- لتصيُّد القارئ! أفضّلُ العناوين القصيرة التي توحي ولا تصرّح.. قد يأتي العنوان من رحم النص الشعري أو القصصي, وقد يكون شاخصة دلالية للمرور نحوه.. نعم أنا أنتقي عناويني من دوح الشعر غالباً. العنوان قد ينبئك عن بيئة الكاتب ثقافياً وفنياً أيضاً. «اكواريل».. كون مائي .. معرض للتشكيل ب المجاز. .أم هو زواج ابيض بين القصيدة والتشكيل والماء ؟ ربما لو لم أكن شاعرةً لكنتُ فنانة تشكيلية, أو أي كائن فني آخر, فأنا أنتمي لهذه العوالم من اللغة والموسيقا واللون والحركة.. هذا الكون المائي شكّلتُهُ زُرقةً زُرقةً.. هذا المعرض المائي التشكيلي رسمتُهُ لوحةً لوحةً بكثير من انسيابية الماء.. من وضوحه ومن قدرته على الإغراق في لجته بآن واحد. في عقلي أكثر من كائن يساعدني أثناء الكتابة: موسيقي أو فنان تشكيلي أو راقص أو صياد لؤلؤ.. أنا أكتب بأناي المتعددة الكثيرة.. كان «أكواريل» متعة تجريبية بامتياز على أكثر من مستوى, فكان معرضاً مائياً يزاوج بين اللغة والفن التشكيلي, وكان بحثاً في إعادة تسمية الأشياء الصامتة وإعطائها الفرصة لتقول عن نفسها, بلسان أنثوي, ما لم تقله حتى الآن. كان المجاز بطل الأكواريل بامتياز. قلت في إحدى حواراتك انك «غصت أعمق في الحالة اللغوية فتكثفت الجملة وتشظى المعنى» .. فهل يمكن أن تحدثينا عن لغتك الشعرية؟ اللغة كائن حيٌّ ينمو ويتطور, يكتسب مهارات جديدة, ويحاول إجادة ما يتمتع به من قدرات, هكذا ألخص تطور لغتي الشعرية. قلتُ إنني كائن لغوي, وهذا ليس تعبيراً مجازياً فقط, فأنا مولعة باللغة وبتفتيح براعمها, كان الاشتغال باللغة وعليها هاجسي في بدايات الكتابة وإكسابها مهارات ربما لم تكن لغتي تتقنها في البداية. حين تكتمل بنية اللغة الجسدية- إن جاز لي القول- تنتقل إلى المستويات الأعلى منها, تنتقل من اللفظ إلى المعنى, من الرؤية إلى الرؤيا وبينهما مازلت أحرث حقول اللغة. أميل إلى الاقتصاد اللغوي, فقليل الكلام يفسح للعقل أن يبحث أكثر.. أن يفكر.. أن يعطي مما لديه للنص.. هكذا تصير حمولة الكلمات القليلة من المعنى أكبر وأكثر ثقلاً نوعياً وهذا ما تميل إليه قصيدة الرؤيا.. قصيدة لا يستنفدُ معناها مكانٌ ولا زمانٌ, فكأنما تمنح نفسها تأشيرة مرور سارية المفعول دون صلاحية محددة. أن يتشظى المعنى يعني أن تعطي للقصيدة عمراً إضافياً لتصل إلى جيل آخر من القراء, وربما أجيال! لا تفلت أي قصيدة من نصوص حاضنة .. فما النصوص الغائبة التي تردد في ذاكرتك وانت تكتبين قصاءد «صرت غابة الآن»؟ لا يمكنني الجزم بماهية القصائد أو النصوص الحاضنة, في خلفية اللغة خيال جائع أحاول إشباع نهمه بالقراءة والاطلاع والسفر والمغامرات الصغيرة.. من طحين اللغة وماء الخيال سأصنع عجينة طرية تحتوي كل ما في إمكان اللغة, وما في وسع الخيال من مساحة ثرة, من كريستال مطحون, من صور قديمة, من هذه العجينة ولدت نصوص «صرت الآن غابة».. أنا بكل ما أملك من خبرة لغوية وثقافية وحياتية الأم التي أنجبت هذه الغابة.. لربما شاركتني بنوَّتِها أمهاتٌ أخريات منغرسات في لاوعيي, لكنهن ذُبنَ فيَّ وصرن أناي. ما قصة هذا العبث .. هذه السوريالية.. وهذا الجنون المعقلن الذي يدب في الكثير من قصاءدك؟ كيف يكون الشاعر شاعراً دون السوريالية! العبث لعبة الحياة الأكثر تشويقاً.. والجنون قمة إبداعية, من الجميل جداً أن يبلغها الشاعر وهو يُخلِّقُ قصيدته, الجنون المعقلن ضروري كذلك كي لا تفلت القصيدة من بين أصابع لغته, وتنأى في شطحات وتهويمات. السوريالية عالم الخيال الأجمل وربما الأكثر تعبيراً عن عالم ما بعد الحداثة, حيث لا خصوصية ولا هوية ولا حدود فاصلة حتى بين الأجناس الأدبية.. إنها الحالة الأكثر صدقاً للتعبير عن واقع قد يفوق عوالم سلفادور دالي سورياليةً. أحياناً يأتي العبث, أو السوريالية, أو الجنون المعقلن, كما أسميته أنت, ردَّ فعل طبيعياً على خواء مادي وروحي في واقع الحياة, إنها محاولة بناء عالم موازٍ آوي إليه لأن هذا الواقع لا يعجبني.. السوريالية عالم للعب والمتعة ولتكسير روتين الأشياء وأشكالها ووظائفها, وبما أنني مولعة بإقلاق راحة الخطوط الحمراء, فأنا أتسيد عالم العبث لألعب وأخلق فيه كينونة أخرى. كتبت قصائد بنفس طويل ..ثم انتقلت إلى كتابة ومضات وندف شعرية ..فهل هو قلق القصيدة ..أم أنك تكتبين وكفى ؟ لالست أكتب وكفى! القصيدة تأتي بكامل كينونتها وكما تشتهي هي, ربما هي الحالة المزاجية للشاعرة أو الإنسانة –أنا في الحالتين- أنا كائن قلق ذو نفَسٍ قصير ومثلي لا يطيق صبراً, ولا تطيق معه اللغة صبراً.. أميل للومضات أو الندف الشعرية.. أحياناً تنسل من بين أصابع اللغة قصائد طويلة نسبياً وهنا تكون الشاعرة الكاميرا هي من تكتب, لأنها تجعل عين الكاميرا تدور حولها دورة كاملة, لتسجل وتوثّق بالصورة الشعرية, وفي معظم الأحيان من يكتب هي الشاعرة الرائية.. مرة أخرى أقول هذه الشاعرة- أنا تنوس بين الرؤية والرؤيا, وأحياناً تحاول التحليق أبعد خلف الرؤيا. الموت اليومي .. الحرب اليومية ..القصيدة .و. سوزان .. اية علاقة؟ عبر خمس سنوات وبضعة أشهر عشتُ- كما كلّ السوريين- يوميات الحرب, يوميات الرعب وانتظار الموت, خبرتُ تجربة النزوح والتهجير والوقوف في محطة مسلوبةً دون هدف, دون مكان, دون أحد... كنت والألم رفيقيَ درب عبر كل هذه السنوات, كانت الفجيعة أكبر من تصوراتنا ومن توقعاتنا.. ومن انتظاراتنا لنهاية وشيكة أو لضوء في آخر النفق. كان لابد لخيوط الألم أن تندمج بخيوط اللغة وتتماهى في نسيج القصائد.. كان أول تفجير وقع في دمشق قد هزّنا وأيقظ كل الجراح الصامتة, فقد شهدت سوريا خلال الثمانينيات أحداثاً رهيبة, ولأن الشعر أقرب إلى الحالة العاطفية والشعورية الطازجة, فقد كان الأسرع في النطق وتعلُّمِ لغة الجراح.. صارت قصائدي تنز دماً وخوفاً.. وكأنني كرّست للوجع مقعداً دائماً في القصيدة, إذ مازال هذا الوجع يحرق خلف ضلوع الحياة اليومية, فقد كنا, ومانزال بنسبة كبيرة, نخرج من بيوتنا ولا ندري هل من رجعة إليها أم لا! في «كثيرة أنتِ» تناولت الهم الوطني ولمّا تبدأ الحرب في سوريا, كنا كشعراء نقرأ أبجديات الوجع القادم ربما.. في «أكواريل» كان الفصل الذي حمل عنواناً فرعياً « أكوا دي جيو= ماء الأرض» مخصصاً للتعاطي مع الحرب ومفرداتها وصورها ووجع الناس, وكان هو القسم الأكبر من الديوان, في ديواني الأحدث «صرتُ الآن غابة» خصصت أيضاً فصلاً كاملاً تحت عنوان «حطب» لهذه الحرب اللعينة.. لم يكن ممكناً لي, كشاعرة وإنسان, أن أتجنب كل هذه الحرائق التي طال لهيبها أبوابَ القصيدة ونوافذها.. لم يكن ممكناً العيش في ترف التأمل والصوفية- وهما الغرض الأهم في شعري- دون المرور بالجحيم اليومي المشتعل على أرض سوريا من أقصاها إلى أقصاها. بأي قصيدة تحلم سوزان ابراهيم؟ الحلم عملتي التي أشتري بها من الحياة كل ما أريد.. زادي.. عصب حياتي.. والقصيدة الحلم فراشة تدور حول قنديل اللغة لتحرق جناحيها مرةً, ولتهرب مرةً أخرى.. القصيدة الحلم, طُعمٌ لاصطياد المحال حالياً الممكن لاحقاً.. لا يمكنني أن أسمّيها أو أن أصفها لأنها مازالت في شرنقة الحلم تحلم باكتمال حريرها ونسج جناحيها الملونين. كل مالم أكتبه حتى الآن هو القصيدة الحلم. قصيدتي تحلم بسلام البشرية في نهاية المطاف.