صحيح أن اسمه ورد طويلا كواحد من المرشحين المحتملين للفوز بجائزة نوبل للآداب، إلا أن قطار اللجنة الملكية السويدية، كان يفوته في كلّ عام، لدرجة أن الأمر انتهى بالجميع لأن يعتقدوا أن ماريو بارغاس يوسا، الكاتب البيروفي، سيبقى واقفا على رصيف المحطة ولن يفوز بها، وبخاصة أنه على درجة كبيرة من الشهرة، كما أنه حصل على عدد كبير من الجوائز الأدبية المهمة، في شتّى بقاع العالم. هذه التجربة، يدخلنا إلى ثنايا تفاصيلها مع كتاب «السمكة في الماء». في واقع الأمر، يتألف الكتاب هذا، من «قصتين» متقاطعتين. الأولى، تروي طفولة الكاتب وشبابه، أما الثانية، فتروي مسيرة حملته الانتخابية التي استمرت 3 سنوات وانتهت «بالانزياح»، أي بفشل المرشح ماريو بارغاس يوسا، في 10 حزيران 1990. ثمة صدى في نصّي هذا الكتاب، يجاوب بعضهما بعضاً. صحيح أنهما لا يملكان الهيكل ذاته ولا اللون نفسه، ولكنّ ثمة خيطاً خفياً يجمعهما. في العام 1988، وفي قلب انشغالاته السياسية، فاجأ يوسا، الجميع، بإصداره رواية، تبتعد كثيرا عن اهتمامه في تلك الحقبة. جاءت رواية «مديح زوجة الأب» لتشكل حكاية ايروسية كاملة، أو بالأحرى، حكاية ماجنة. كأننا، في كتابه هذا، نجد أنفسنا أمام أناتول فرانس الذي جاء لينزه شهيته في حمّى أميركا اللاتينية، أكثر من كوننا أمام كاتب بيروفي معاصر. إذ ان «مديح زوجة الأب»، رواية، تسير عبر الاستيهامات والتعاقدات، أكثر من كونها تسير من خلال التهتك والمباهج. إنها احتفاء بالجسد الذي يرسخ بشكل خبيث لاواقعية الجسد نفسه. إذ لربما كانت الإيروسية ومن خلال طبيعتها الخاصة قد تفتحت أو لنقل قد تشكلت، على هيئة سراب من أجل عطشنا كراشدين، مثلما تشكلت في ما مضى، الحكايات الخرافية من أجل احتدامات الأطفال الصغار. الإيروسية بيد أن يوسا لم يكتف بهذه الرواية، إذا أصدر لها «تتمة» بعنوان «دفاتر دون ريغوبرتو»، وهي تنتمي إلى الشريان ذاته، الذي تنتمي إليه: «مديح زوجة الأب» (أو «امتداح الخالة»)، التي نكتشف فيها الحبّ المحرم لشاب يدعى فوفونا، والذي يكنه لزوجة أبيه، دونا لوكريثيا. حين صدرت هذه الرواية، قال الكاتب في حديث صحافي إن هذه «التكملة» لم تكن معدة سلفا: «لم أفكر أبدا حين بدأت الكتابة، في إعادة استعمال الشخصيات نفسها. بيد أنه ذات يوم، جاءتني صورة ما، وهي صورة الصغير فوفونا، قارعاً على باب زوجة أبيه دونا لوكريثيا، بعد عام من انفصالهما. بدأت بتخيل ما قد يكون قد حصل بينهما. فوجدت نفسي عالقا داخل نسيج قصة طويلة». هذه القصة، التي يصفها بالقول إن «البورنوغرافية هي ايروتيكية فقراء الروح والجسد». كما جاء في مقابلة أجرتها معه صحيفة «باجينا 12» الأرجنتينية، بعد صدور الكتاب، الذي اتجه فيه، إلى الغوص مجددا في أبعاد الايروسية، ليضيف بالقول: «انه في زمن المحرمات، كانت للروح البشرية الوسائل لكي تثور وتمارس حريتها وإبداعها من خلال الاستيهامات (الفانتسمات) والاحتفالات السريّة التي كانت تضفي بعدا جماليا على فعل ممارسة الحب». يدفع يوسا، ب«الصغير فونكيتو» (وهو إحدى شخصيات الرواية) إلى التساؤل عمّا إذا كان شخصا انفصاميا. كذلك نجد لوكريثيا، بطلة الرواية، التي تقول إنها تملك نوازع انفصامية مثل «الرسامين والشعراء والموسيقيين». وخلال حديثه إلى الصحيفة الأرجنتينية يتفاجأ يوسا بأنه لم يذكر الروائيين، ضمن هذه السلسلة «المصابة بالانفصام»، لأنهم مثال واضح على ذلك... ويستدرك أن السؤال لم يكن مطروحا إذ انهم كذلك ويضيف: «في غالب الأحيان أشعر أننا نتفتت ونتوه. حينذاك يحمل لنا الأدب نظاما ما. فالكتابة هي البحث عن الطمأنينة داخل اللاطمأنينة. إنها نوع من عصا سحرية جديدة تدمج داخل ترنيمة منطقية وعقلانية ما يمكن أن يكون عليه الخواء المطلق. ومن جهة أخرى، نكتب كي نعيش ما لا نستطيع أن نحياه في الواقع. فكل كائن بشري حتى وان لم يكن كاتبا يحلم بحيوات أخرى، ومن جهتهم، يعطي الروائيون المثال على ذلك. يجعل يوسا من الخيال العنصر الأساسي في حياة بطل روايته دون ريغوبرتو، الذي بفضل استيهاماته (الايروتيكية في غالب الأحيان) يستطيع أن يتخطى كماً من مشكلات الحياة، مثلما يتخطى «عتمة وجوده» المتمثلة في كونه عميل شركة تأمين ويضيف يوسا في حواره: «كان هولدرلن يقول إن الإنسان إله حين يحلم، وبالكاد يكون شحاذا عندما يفكر، لنقل إننا أغنى واكبر وأكثف عندما نحلم، هكذا هو الأمر. فالمخيلة جديرة بإنتاج حياة أكثف وأكثر تماسكا، وهذا هو دور القصص: أي أن تعطينا ما لا نملكه، فبالنسبة إلى ريغوبرتو، تكمن الحياة الحقيقية في استيهاماته وليس في رتابة العمل الذي يجعله مكبوتا. لكن هناك أيضا في هذه الرواية نوعا من القلق الذي يبقى معلقا حين يحلّ الهذيان مكان الخيال». فبرأي الكاتب (كما يقول في مقابلته هذه) يعود ذلك «لكي لا نتخطى الحدود، أعتقد انه لا ينبغي قطع حبل السرّة مع الحياة الواقعية. لقد احتقرت دائما فكرة الكاتب الذي ينعزل، الذي يقطع الروابط مع العالم، مثلما فعل مارسيل بروست في نهاية حياته، ترعبني هذه الفكرة، لان هذه القطيعة هي من دون شك ما يطلق عليها اسم الجنون. لم أحب يوما الأدب الذي ليس إلا هربا صافيا من الواقع». في روايته الأخيرة (بالأحرى ستصدر له رواية جديدة في تشرين الثاني المقبل) «شيطنات الطفلة الخبيثة» يعود يوسا ليصالحنا مع الأدب، إذ استطاع القيام بذلك في هذه الرواية التي قد تبدو للبعض على قدر من الهذر (ظاهريا) إلا أنها في الواقع رواية «فعّالة» بشكل حيوي. لقد استطاع يوسا أن يمزج فيها تقنيات التحليل الاستبطاني الكلاسيكي عبر كتابة «سريعة»، أساسية، ذات إيقاع أدبي صرف. باختصار يمكن القول إنه تمكن في هذا النص من أن يزاوج بين أفضل ما في الرواية الكلاسيكية التقليدية - (انحداره من أعمال غوستاف فلوبير وأدبه، أمر واضح كلّ الوضوح، كما أنه لم يتوقف يوما عن مديح سلفه الفرنسي) وبين الإبداعات التي هي بدون حدود والمناخات الاكزوتيكية والعمق التاريخي. كلّ ذلك يمرّ من أمام أعيننا من دون أن تقع اللُحمة الروائية في أيّ قيمة أيديولوجية أو أن تسقط في درس أخلاقي ما. ربما تكمن حقيقة هذا المشروع بأسره في أن الروائي، يرغب في أن يعود ليشاهد علاقته مع زمنه. ومن دون أن يسقط في الرواية التاريخية وهو نوع يقدره لكنه لا يشكل أي خاصية في خياراته نجده يبحث عن توازن ما في «كاووس» الحياة، عن هذه الحياة المضطرمة وغير المتوقعة، أي عمّا كانت عليه حياته نفسها. من هذه النقطة نفهم هذا المشروع الذي اختاره: زيارة ذكريات طفولته مجددا وكلّ الطوباويات التي كانت سائدة في تلك الفترة. بيد أن الأمر الجميل، المثير، في هذه الرواية «الكوسموبوليتية» يكمن في أن يوسا يجعل الرواية أشبه ببرج مراقبة يسمح له بأن يعود ويرى كلّ شي، بأن يزور مجددا كلّ الأمكنة التي لعبت دورا ما في حياته يوما، هذه الأماكن التي جعلته سعيدا: باريس في الدرجة الأولى التي يضفي عليها سحرا لم نجده من قبل. أضف إلى ذلك إلى أن نعود لنرى مجددا كل الآمال والتطلعات «الأخروية» التي كانت سائدة في تلك الحقب المختلفة مقارنة مع تضاداتها القاتلة، أي من حركة الدرب المضيء إلى الكاستروية، ومن «موت الإنسان» وصولا إلى «الرغبة في الثورة» التي كانت موضة جيل ال68 الأوروبي الذي لم يكن يعرف كيفية إبداع مستقبله مجددا. لكن اللحظات الأجمل والأروع في هذه الرواية، تلك التي تأتي من مناخ آخر، هو المناخ الياباني إذ ينحو إلى سبر أغوار المازوشية الإيروسية، وعلى غير المتوقع، إذ لا بدّ أن تتساءل كيف أمكنه إلى هذه الدرجة، أن يكون خبيرا بهذه الأمور التي كتب عنها جورج باتاي مطولا. في أيّ حال، أن يحز يوسا نوبل للأدب، ليس سوى أمر جميل، إذ انه واحد من الشغوفين بالأدب، وبفضل هذا الشغف استطاع أن يرسم، في رواياته، علاقة أخرى بين المتخيل والواقع، أو كما يقول، بين الحقيقة والكذب، لأنه يعرف جيدا كيف يسحر القارئ عبر بحثه في تجربته الخاصة وعبر اختياره لدروب سردية قد تثير اضطرابا ما، لكن من دون أن يسقط في الاستهجان.