صحيح أن اسمه ورد طويلا كواحد من المرشحين المحتملين للفوز بجائزة نوبل للآداب، إلا أن قطار اللجنة الملكية السويدية، كان يفوته في كلّ عام، لدرجة أن الأمر انتهى بالجميع لأن يعتقدوا أن ماريو بارغاس يوسا، الكاتب البيروفي، سيبقى واقفا على رصيف المحطة ولن يفوز بها، وبخاصة أنه على درجة كبيرة من الشهرة، كما أنه حصل على عدد كبير من الجوائز الأدبية المهمة، في شتّى بقاع العالم. حين اختارت الأكاديمية السويدية يوسا، ليكون صاحب «نوبل للآداب» لهذا العام، وجاء في حيثيات بيان الجائزة أنها اختارته «لبراعته في رسمه المفصل للصراعات على السلطة وتصوير المقاومة والثورة والهزيمة داخل الفرد». وقال بيتر أنجلد الأمين العام الدائم للجنة نوبل، في تصريح لوكالة رويترز «إنه كاتب متميز وأحد أعظم الأدباء في الدول الناطقة بالاسبانية»، وأضاف «إنه من الذين كانوا وراء ازدهار الأدب في أميركا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات وواصل العمل والانتشار»، وفي اختيارها تعطي اللجنة الجائزة لأول كاتب من أميركا اللاتينية منذ العام 1990، أي منذ أن اختارت الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث. ويمكننا أن نضيف أن غالبية أعماله موجودة بالعربية منذ سنين عديدة، ويعود الفضل الأبرز فيها لصالح علماني (بالإضافة إلى آخرين، لا تحضرني أسماؤهم كلهم)، الذي يستحق الشكر، على عمله في نقل قسم كبير من أدباء أميركا اللاتينية إلى العربية. ربما في نهاية الأمر، تأتي الجائزة لتكافئ مسارا متشعبا، وحياة عرفت الكثير من التعرجات والانشطارات، كما الخيبات والفرح، فاسم ماريو فارغاس يوسا (مواليد العام 1936 في مدينة أريكيبا في البيرو)، اسم يحمل الكثير من التفاصيل: صحافي وروائي بيروفي، ترشح للرئاسة في بلاده العام 1990. مدافع لا يتعب عن حقوق الإنسان وعن قيم الجمهورية. كلّ ذلك وبالتأكيد ثمة أشياء أخرى أيضا جعل منه واحدا من أفضل وأشهر كتّاب أميركا اللاتينية، بالأحرى واحدا من أهم كتّاب العالم اليوم. فمنذ أن أصدر روايته «الكلاب والمدينة» في ستينيات القرن المنصرم، والتي كانت السبب في شهرته بين النقاد والقراء، وهو لم يتوقف عن تقديم نصوص تجعلنا نكتشف «سحر» أميركا اللاتينية (لكن بعيدا عن مفهوم الواقعية السحرية الذي انتشر مع غابرييل غارسيا ماركيز، الذي سبقه إلى هذه الجائزة العام 1982) كما مشكلاتها ليتقاسم مع القراء أعباءها وبخاصة تلك التي يصارعها شعبه في البيرو. لقد انحاز ماريو بارغاس يوسا منذ البداية إلى المتخيل وإلى حرية العبارة والى الحق في إعادة إبداع العالم من خلال «الحكاية الخرافية»، مهما تطلب الأمر في أن يظهر ذلك، أمرا شاذا أو غريبا. هكذا هي الحال في غالبية كتبه، أكان ذلك في «بانتالئون والزائرات» (وهو كتاب جميع الاشراقات الهيسبانية) أم في «مديح زوجة الأب» (وهو كتاب جميع العقد الفرويدية). بيد أنه، مع ذلك كله، ظهر للعيان، فجأة، جانب من شخصية يوسا، كان لا يزال مختفيا بين ظلاله العديدة: فهذا «الطفل الفاسد» و«الكاتب الشهير»، انحنى في لحظات كثيرة، في حياته، فوق مصير شعبه. انحنى فوق هذه «البيرو» التي يبدو من الصعب جدا تحديد هويتها. فحاضرها ليس بحاضر مجيد، كما أن مستقبلها، ليس بذلك المستقبل المليء باليقين. مناخات وفضاءات كلّ هذه الأسئلة، تظهر، في أدب يوسا، ذي الاتساع الكبير والمتجذر بشكل جميل، في غالبية أعماله. ثمة كتاب آخرون وفي مناخات وفضاءات مختلفة استطاعوا أن يمدحوا مزايا الخلاسية. أما في البيرو، فنجد الإتنيات تتصارع في ظلّ كلّ غياب لأي توازن محتمل. قد يقول قائل ذو رؤية انه ينبغي إنقاذ هذا البلد. هذا صحيح، بيد أن الأمر، ليس سوى وهم في المحصلة النهائية. من هنا وجدنا يوسا صاحب الأفكار الكريمة أي هذا الرجل اليساري، قد انخرط في السباق إلى سدة رئاسة الجمهورية هناك. انه متحدث لبق، يعرف كيف يأسر المستمعين. في البداية، انتقل من نجاح إلى نجاح. لقد تناسى أنه بالنسبة إلى الفقراء ذو بشرة بيضاء ومثقف وغني. إلا أنه شيئا فشيئا بدأت يقينياته السياسية بالتمفصل، إذ بدا يمينياً، وبدأت الحشود تحذر منه. حين فشل في الانتخابات الرئاسية، عرف يومها ذلك الذل الكبير، فالسلطة ذهبت إلى شخص بيروفي ذي أصول يابانية. في واقع الأمر، نجد أن هذا التحول من «اليسار» إلى «اليمين» (إذا جاز التعبير)، ليس وليد الحملة الانتخابية، للوصول إلى رئاسة الجمهورية. لقد بدأ هذا التحول، قبل فترة طويلة. ففي بداية حياته، عمل يوسا صحافياً، وكان، مثله، مثل غالبية مثقفي أميركا اللاتينية، معجبا بالشيوعية، ومرتبطا ارتباطا وثيقا بفيديل كاسترو. ففي ظل تأثير أفكار جان بول سارتر عليه، اعتقد بوجود التزام الكاتب سياسيا. من هنا، جاءت رواياته الأولى، مثل «المدينة والكلاب» (1963) وهي كانت كتابات نقدية قاسية للدكتاتورية العسكرية التي كانت تعيث فسادا، في تلك الحقبة، في البيرو، وفي عدد من بلدان أميركا اللاتينية. أما «البيت الأخضر» التي تحتوي على مجموعة من القصص المتشابكة، بطلتها بونيفيشيا، التي نشأت عند مجموعة من الراهبات التبشيريات بعد أن التقطنها من بين الهنود القاطنين في الغابة فقد وضعت يوسا في مصاف كبار الكتّاب. فهي، بعيد صدورها في العام 1966، حازت جائزة النقد، كما حصلت في العام 1967 على جائزة «روسو غالييغو» الدولية للآداب. لقد رغب يوسا، بصفته روائيا، أن يشهد على حقيقة أليمة: حقيقة بلاده التي يمزقها العنف والتعصب واللاتسامح. فبالنسبة إليه، من المهم جدا أن يظهر الكاتب «أهمية الحرية للمجتمع، ولكل كائن بمفرده، في الوقت عينه». من هنا، وبحسب ما يقول، جاءه الوعي الذي جعله يرى إلى الاضطهاد الذي مارسه كاسترو والشيوعيون. فتحالف مع القوى الديموقراطية والليبرالية، لدرجة أن الشتائم بدأت تصل إليه، من كل حدب وصوب، في القارة الأميركية الجنوبية. ارتداد المثقف اليساري، الشيوعي هذا، على نفسه وانخراطه مع اليمين الليبرالي، نجده في قلب روايته «قصة مايتا» (1984) التي أثارت جدلاً حاداً، ليس في أميركا الجنوبية وحسب، بل في العالم بأسره، بسبب التحولات الفكرية التي أصابت الكاتب. يروي بارغاس يوسا، في كتابه هذا، سيرة مايتا، وهو شاب، بدأ حياته بالتضامن مع الفقراء، لدرجة أنه كان يصوم أياما، لأن ثمة أناسا لا يستطيعون تناول الطعام. وبعد تعرفه إلى أحد التروتسكيين، يبدأ مايتا، باكتساب الطابع السياسي اليساري، فينضم إلى «حزب العمل الثوري» الذي سرعان ما ينقسم إلى حزبين، بالرغم من قلة أعضائه. ما بين «حزب العمل الثوري» و«حزب العمل الثوري التروتسكي»، يحاول مايتا الاتصال بالحزب الشيوعي، فيطرد من الحزب، بيد أنه، بالرغم من ذلك، يشارك رفاقه بالتخطيط للقيام بتمرد مسلح، عبر مهاجمة سجن «خاوخا». تفشل المحاولة، ويسجن «الثوار». بيد أن يوسا، بالرغم من انقلاباته الفكرية، بقي لفترة طويلة حذرا من السياسة، لأنها «مصدر العنف والاعتباطية والتعسف». لذلك، لم يتخل عن دوره ككاتب وهو دور يتلخص في «البقاء بعيدا عن السلطة كي يستطيع المرء إفشاء تعسفها». ما دفعه إلى قول ذلك، كانت ضخامة الأزمة البيروفية. فشكّل مع عدد من الشخصيات في العام 1987، تجمع «ليبرتاد»، وهو تجمع للقوى الديموقراطية المعادية للماركسية، تعمل لمصلحة «التحرر الاقتصادي والسياسي». لكنه، «بالرغم عنه»، أصبح «زعيما سياسيا وقع في فخ النجاح غير المتوقع للحركة». وفي إطار هذه الأجواء، لم يستطع إلا أن يتحمّل المسؤولية. من هنا، عدم قدرته على القول «وداعا إنني أعود إلى طاولتي لأكتب». فكانت تجربة الانتخابات الرئاسية.