أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. وكان الصيدلي عباس علاوة عضوا في المجلس البلدي لمدينة قسنطينة ينتمي إلى حزب الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري الذي يتزعمه خاله. الصيدلي الآخر، فرحات عباس. وقد وزع علاوة منشورات في المدينة ضد جبهة التحرير، قال فيها : «نحن المنتخبون الشرعيون للشعب الجزائري ونحن نستنكر القمع الذي يمارسه الطرفان». كما أنه بدأ مع المحامي بلحاج سعيد، وهو نائب آخر ينتمي إلى نفس الحزب، حملة تبرعات لفائدة جمعية العلماء، على الرغم من أن جبهة التحرير منعتها رسميا. وقد جرى اغتيال عباس علاوة في صيدليته من طرف مناضل يدعي تمبكتو (بسبب لونه الزنجي) فيما أصيب صديقه المحامي بلحاج سعيد بجروح خطيرة من رصاصات أطلقها عليه شاب يدعى آيت أحسن، وهو محام متمرن آنذاك، في قسنطينة ولكنه ينتمي كما يدل على ذلك اسمه الأمازيغي، إلى منطقة القبائل الكبرى. في نفس اللحظة التي قتل فيها عباس علاوة وجرح فيها بلحاج سعيد، انفجرت قنبلة في أحد المطاعم، وأخرى في إحدى قاعات السينما. وأسفر الانفجاران عن جرح عشرات الأشخاص، لأنهما حدثا في شارع مزدحم، فانتشر الرعب في المدينة وبدأت المجزرة بمطاردة الفدائيين، وكان ذلك يعني في حالة الفزع العام قتل ما هو عربي. أما في مركز الحالية، وهو مركز منجمي كانت تتعايش فيه خمسون أسرة أوربية مع ألفين من العمال العرب، فقد هجم هؤلاء الأخيرون على الأوروبيين بخراطيش الديناميت وقناني البنزين والبنادق والهراوات وقتلوا من استطاعوا قتلهم، ولكن مدير المنجم استطاع أن ينجو ويلتحق بسكيكدة لإخبار السلطات بما حدث. وهذه الواقعة من وقائع ذلك اليوم شبيهة إلى حد التماثل والتطابق بواحدة أخرى حدثت في نفس الساعة وربما في نفس الدقيقة حين هاجم العمال المغاربة في مناجم آيت عمار الواقعة على مسافة ثلاثين كيلومترا من وادي زم، المهندسين والخبراء والفنيين الفرنسيين، إلا أن النتائج العسكرية والسياسية كانت مختلفة في الحالتين، فبينما سقط في مناجم الشمال القسنطيني حوالي سبعة وثلاثين قتيلا من الأوروبيين تمكن زملاؤهم المحاصرون في المغرب أن يخرجوا من المعركة بسلامة بسبب سرعة وصول النجدات. على صعيد آخر، كانت العواقب الفورية للانتفاضة المتلازمة والمتزامنة في الأطلس الأوسط المغربي وفي الشمال الجزائري واحدة. إذ إنها أحدثت انقلابا عميقا في أوساط الرأي العام الفرنسي والأوروبي، دفع الحكومة الفرنسية برئاسة إدغار فور إلى الإسراع بالتخلي عن السلطان الصنيعة، الإمعة بن عرفة ومخزنه الاستعماري، وتوليف قوة ثالثة أغرقت فيها العناصر الوطنية وسط وجوه ورموز لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بحركة المقاومة وجيش التحرير، حدث ذلك كله من أجل أن تتفرغ الحكومة الفرنسية لقمع الثورة في المغرب الأوسط ومن أجل أن تجهض الوحدة المغاربية الناشئة. وفي ذات الوقت أدت وقائع الانتفاضة في الجزائر إلى دفن مشروع القوة الثالثة إلى الأبد وإلى إبقاء الصراع مفتوحا بين جبهة التحرير الوطني التي تصدت لفرنسا وبين السلطات الفرنسية. في نهاية ذلك اليوم الذي بدأ بهجوم رجال زيغود يوسف على مدينة سكيكدة، كان عدد القتلى الأوربيين حوالي واحد وسبعين شخصا، فيما ارتفع عدد الضحايا الجزائريين إلى ألف ومئتين وثلاثة وسبعين شخصا وبلغ عدد المحتجزين أكثر من ألف. أما في نصف الشهر اللاحق، أي في الفترة الممتدة ما بين 20 غشت و2 سبتمبر 1955، فقد قفز رقم ضحايا القمع إلى ألفي شخص في مدينة سكيكدة وحدها. لقد قام المسؤولون المدنيون الأوروبيون في مدينة سكيكدة بالتقاط كل الشباب العرب الذين كانوا يجدونهم في الشوارع وقاموا بحشدهم في الملعب البلدي، وردوا على الغضبة الشعبية العربية بحملة تصفية مسعورة قادها رئيس البلدية نفسه. مع ذلك، فإن جاك سوستيل الحاكم العام للجزائر آنذاك، الذي توجه إلى عين المكان (أي إلى سكيكدةوقسنطينة والقالة في اليوم نفسه) لمشاهدة آثار الانتفاضة في الميدان، عاد من رحلته وهو يزداد اقتناعا بضرورة الإسراع في تطبيق سياسة الدمج والضم التي كان يؤمن بها، تماما مثلما أن جلبير غرانفال، المقيم الفرنسي العام، الذي لم يستطع مغادرة الرباط إلى خنيفرةووادي زم، خرج من التجربة إياها وهو مقتنع بضرورة التعجيل بفتح المفاوضات لإبطال مفعول الصاعق الذي يوشك أن يدمر كل شيء. لكن قيادة جبهة التحرير الموجودة آنذاك في الجزائر العاصمة، وهي مؤلفة من عبان رمضان وعمار أوزكان، ويوسف بن خدة، وفريق من المثقفين الوطنيين، تصدت لتلك السياسة الاندماجية والابتلاعية بهجوم مضاد عنيف وتمكنت من إحباطها وعملت على أن يكون شعار : «جبهة التحرير هي الممثل الأصيل والوحيد للشعب الجزائري» أمرا بديهيا عند القادة الفرنسيين. لقد أطلقت الجبهة حملة واسعة حول عدم التعامل مع الإدارة الفرنسية في جميع المستويات واعتبرت أن كل الذين يتواطؤون قليلا أو كثيرا مع السلطات أو يوهمونها باحتمال نشوء قوة ثالثة سوف يصبحون أعداء للشعب ويتعرضون لغضب المناضلين، ومعنى ذلك أنهم يغامرون بحياتهم. اتخذت الحملة طابع منشورات ورسائل شخصية واتصالات وزيارات وإنذارات مباشرة وغير مباشرة، أدت على الفور إلى استقالة عدد من المستشارين البلديين، إما عن قناعة حقيقية وإما بسبب الخوف. وشعرت الإدارة بصدمة عميقة أمام هذا السلوك الصادر عن مستشارين بلديين كانت قد اختارتهم أو أجبرتهم على الترشيح من أجل ملء الفراغ. وظل مسؤولو الجبهة يطالبون المستقلين باتخاذ مواقف موالية، وبدأت الثورة تتسع وتتعزز. ثم جاء التحاق السيد فرحات عباس، الذي كان يعتبر أكثر شخصية عربية متفرنسة، والذي كان له نفوذ واسع بين المثقفين، ليقدم دفعة جديدة إلى الجبهة وليعمق القطيعة بين أنصار الاستقلال وأتباع الاندماج وليشكل بالخصوص ضربة قاتلة لمشروع القوة الثالثة. لقد نجحت جبهة التحرير الوطني خلال شهر سبتمبر 1955، أي بعد بضعة أسابيع من الانتفاضة في تحقيق قفزة، بل طفرة نوعية، توجها الملتمس المعروف ببيان الواحد والستين : وهو نص شكل رصاصة الرحمة لمشروع الدمج السياسي الذي كان جاك سوستيل يعمل لتحقيقه. ففي السادس والعشرين من سبتمبر 1955، أي بعد مرور شهر وأسبوع على انتفاضة الشمال القسنطيني، وقبيل افتتاح المجلس الجزائري، عقد اجتماع للمنتخبين والنواب المسلمين بمبادرة من السيد ابن جلول نائب مدينة قسنطينة، وكان ابن جلول هذا واحدا من النواب الذين يوصفون بأنهم «لاحسو أحذية الإدارة» من تلك الفئة التابعة التي كان الجزائريون يطلقون عليها اسم «بني وي وي» (أي أولاد نعم، نعم)، وقد شارك في اللعبة السياسية مقابل خدمات ومصالح وتنفيعات كانت تقدمها له إدارة الداخلية والقسم السياسي فيها، وكان شعاره على حد تعبير المؤرخ الفرنسي إيف كوريير «كتفوني، أربطوني أكثر وأكثر بحبال الإدارة وإلا فإني سوف أصرخ..» وكان يمارس السياسة والنيابة والعمل العام من أجل الحصول على تعويضات مالية يشتري بها أصوات ناخبيه أو يدسها في جيوب المشرفين على صناديق الاقتراع من أجل تزييف النتائج النهائية. لكن ابن جلول، كان في شهر سبتمبر 1955 يسكنه خوف أزرق، ولا بد له من من تلميع صورته أمام زملائه النواب الذين بدأت الثورة تلتهم قناعاتهم، كما لابد له من التلويح بأنه غير ما هو وغير ما عُهد عنه، لإقناع ناخبيه وأزلامه الذين بدأوا هم الآخرون يشرئبون بأعناقهم إلى أولئك الذين يحملون السلاح. لذلك نجده في هذا الاجتماع يعلن معارضة حذرة ويطرح نفسه كمدافع عن العرب والمسلمين، ونجده ينجح في حمل النواب الحاضرين على التصويت للائحة تستنكر «القمع العشوائي وتستنكر تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية على السكان العزل.. وتلاحظ أن سياسة الاندماج التي لم تطبق قط بطريقة صادقة قد تجاوزها الوضع الآن..». هذا النص، هو الذي عرف في تاريخ أدبيات الثورة ببيان الواحد والستين. إشارة إلى عدد الأشخاص الذين وقعوه، ومن بينهم اثنان وأربعون مندوبا في المجلس الجزائري، وعشرة نواب برلمانيين في الجمعية الوطنية الفرنسية، وخمسة من أعضاء مجلس الشيوخ، وأربعة من أعضاء الاتحاد الفرنسي، ولم يتخلف عن التصويت عليه سوى عشرة أشخاص من مختلف الهيئات المذكورة، أي خمسة نواب، وعضوان من مجلس الشيوخ وثلاثة أعضاء من جمعية الاتحاد الفرنسي، وبعبارة أخرى فإن الأغلبية الساحقة (واحد وستون عضوا من مجموع واحد وسبعين، أي حوالي تسعين في المائة) من مجموع المنتخبين الجزائريين وافقوا على السياسة التي أقرتها جبهة التحرير الوطني الجزائري ووضعوا بذلك الموقف حدا لمحاولات بناء قوة ثالثة خارج حركة التحرير الوطني الحقيقية. وهكذا فإن أحداث 20 غشت 1955 قد أدت في الجزائر إلى قتل القوة الثالثة، وهي بعد في المهد، وأسفرت في المغرب عن مولد هذه القوة الثالثة ووفرت لها ظروف النمو واستلام زمام الدولة الوطنية الناشئة وأدت إلى بعثرة قوى المقاومة وجيش التحرير الوطني، ثم فيما بعد إلى تهميشها وإخراجها من دائرة الفعل والتأثير.