مقدمات 1-نواجه في هذه السلسلة من الحلقات موضوع أطوار التاريخ الانتقالية ومآلات الثورات العربية، جبهات بحثية متعددة، إنه يضعنا أمام مسألة التحقيب في التاريخ، ولعله يضعنا أمام حقبة بعينها تَمَّ التواضع على تسميتها بالمرحلة الانتقالية ومرادفاتها، من قبيل الطور الانتقالي، الزمن الانتقالي، زمن ما بعد الثورات ...إلخ وهي حقبة تَرِدُ لتوصيف أزمنة تطول أو تقصر، أزمنة تندرج في سياقات تاريخية متسمة بملامح خاصة. يمكن أن نرتب الملامح الكبرى للموضوع، ضمن مقاربة المدارس التاريخية لتحولات الراهن في حضوره وجريانه، وخاصة في أزمنة التمفصلات التاريخية الحاصلة بعد الثورات والانقلابات السياسية، حيث تساهم التحولات المجتمعية العاصفة، في إنجاز وقائع قد تترتب عنها مسارات جديدة في نمط الشرعية السياسية وما يتصل بها من قيم وثقافات. تشترك معارف تنتمي إلى تخصصات متعددة، في الاقتراب من المتغيرات التي تعرفها أحوال الزمن، في المجتمعات التي تعاني اضطرابات وانفلاتات وزلازل تطيح بالأنظمة السائدة فيها، وتتجه للعمل من أجل إقامة بدائل لها. ويساهم تنوع وتعدد الأبحاث، في إنجاز ما يساعد على الإمساك بالملامح المميزة للأطوار التاريخية الفاصلة وتداعياتها. وقد حاول بعض المؤرخين الذين اهتموا بمسألة التحقيب التاريخي، توطين الزمن الراهن بين الماضي والمستقبل، إلا أن التوطين في واقع الأمر ليس أمراً سهلاً، حيث يظل من الصعب تعيين أين ينتهي الماضي، وأين يبدأ المستقبل.؟ هنا نجد أنفسنا أمام تنظيرات المدارس التاريخية في موضوع الزمن الراهن وحدوده، حيث تتنوع المواقف وتخضع في تنوعها للأنساق النظرية المعتمدة في مدارس بناء التاريخ. تعتبر المدرسة الوضعية في الكتابة التاريخية، أن مجال الماضي يقع على بعد خمسين أو ثلاثين سنة من تاريخ كتابة المؤرخ للتاريخ. وبررت ذلك بمسألة وضوح الرؤية، الناتج عن تحقق مبدأ المسافة الضرورية بين المؤرخ والحدث. كما بررته بلزوم توفر المصادر الرسمية والعمومية، حيث تقوم الدول بوضع أرشيفاتها رهن إشارة الباحثين. صحيح أنه يمكن أن نشير إلى أن التبرير الأول والثاني قد لا يصمدان أمام النقد المنهجي، ذلك أن القرب عكس البعد قد يكون أفضل للمراقبة العلمية. كما أن قوانين الدول في مجال التوثيق، قد تقلص أو تمدد المسافات الزمنية لفتح أرشيفاتها جزئيا أو كليا، وذلك حسب سياقات ونتائج الأحداث المتعاقبة في التاريخ. أما مدرسة الحوليات، فقد اهتمت بالزمن الراهن في بداياتها، حيث حاول مؤرخو الحوليات الربط بين الماضي والحاضر. وكان كل من لوسيان فيبر ومارك بلوخ منبهرين بالحاضر، رغم كون الأول منهما كان مهتماً بالقرن 16، والثاني اشتغل بالتاريخ الوسيط. وقد اعتنت صفحات مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي بالزمن الراهن، واستوعبت مجموعة كبيرة من المقالات، التي كانت تنصب على بناء جملة من أحداثه ووقائعه. ولا شك أن الكتابة التاريخية سواء في أبعادها المنهجية الجديدة، أو في مستوى التداخل الحاصل اليوم بين حقول العلوم الإنسانية، قد أصبحت تخضع لأشكال من التحول لم تُركَّب نتائجها بعد. كما أن الدراسات التي تعنى بمواكبة التحولات المجتمعية والتاريخية، تراكم بدورها تنوعا في الأبحاث والمقاربات، نفترض أن يكون لها في المستقبل نتائج على بنية الكتابة التاريخية ومناهجها. ننطلق في هذا العمل، من الإقرار بصعوبة مقاربة الأطوار الانتقالية في التاريخ، بحكم أنها تندرج في إطار تركيب تاريخ الراهن في جريانه، الأمر الذي يتطلب من جهة، الانتباه إلى تداعيات ما يجري، كما يَقتضي من جهة أخرى، تعليق الأحكام إلى حين التحقق من عمليات الفرز التي ستحصل لاحقا. وعندما يتعلق الأمر بحدث مماثل للانفجارات الميدانية التي ملأت الساحات العمومية العربية في مطالع سنة 2011، فإن المسألة تزداد صعوبة، بحكم أن هذه الانفجارات وبالصورة التي تبلورت بها في المجتمعات العربية، تستدعي كثيرا من الحيطة لحظة معاينة ومتابعة التحولات، التي تلتها في أغلب البلدان العربية. سنتجه في ورقتنا نحو زاوية محددة من الموضوع، يتعلق الأمر ببعض ملامح الطور الانتقالي في كل من مصر وتونس، مع إشارات للتمثيل والتوضيح مستمدة من مشاهد سياسية عربية أخرى، نفترض أن تساهم في إضاءة جوانب من المقاربة، التي نروم بنائها في عملنا. أما الزاوية التي سنركز الحديث عنها فتتعلق بالبعد الثقافي، ذلك أن هيمنة السياسي على كثير من المقاربات المواكبة للحدث، وتداعياته المتواصلة، لا تساعد في نظرنا على الإحاطة الشاملة بما وقع. 2 - يقوم عملنا على محاولة تتوخى في المنطلق تشخيص جوانب مما جرى ويجري في المجتمعات العربية بعد انفجارات 2011، وهي تروم في الوقت نفسه، وضع اليد على ما نعتبره أمرا مطلوبا في الطور الانتقالي الحاصل بعد إزاحة أنظمة الاستبداد، حيث يعاين الملاحظ بروز القسمات والملامح العامة لهذا الطور. ضمن هذا الإطار العام، سنحاول التفكير في مآل الأوضاع العربية اليوم انطلاقا مما نسميه أزمنة المراجعات الكبرى، التي نتصور أنها يمكن أن تفسح المجال لتأسيس قواعد جديدة في الفكر السياسي العربي، قواعد يمكن أن تساهم في بناء أنظمة في السياسة وفي الفكر، تتجاوز الأنظمة التي تمت الإطاحة بها، وتكون قادرة في الآن نفسه، على بناء أسس ومقومات اللاعودة إلى الأساليب الاستبدادية في الحكم. نتجنب في هذه الورقة ما أمكن التفكير بالمثال أو النموذج، وذلك رغم وعينا بأن الأطوار الانتقالية الحاصلة اليوم في المجتمعات العربية، قد يكون لها ما يماثلها في أزمنة أخرى وفي مجتمعات أخرى. إلا أن هذا لا يعني أنه يمكننا أن نجد حلولا لإشكالات التحول في مجتمعنا بالاعتماد فقط على ما حصل فيها، فنحن نعتقد أنه يمكن الاستفادة من تحولات التاريخ، انطلاقا من معاينة جوانب من سيروراته هنا وهناك، ودون إغفال أن الخصوصيات التاريخية المرتبطة بالزمن المحلي والإقليمي والدولي، ينبغي أن تكون واردة في ذهن من يتوخى التفكير في تحولات الراهن العربي.