في جو حار و تحت أشعة شمس حارقة ، تتوزع مجموعة من النساء في إحدى أكبر الساحات بمدينة «زايو»إقليمالناظور ، محتميات من هذا الطقس الذي يحبس الأنفاس، ببعض الشجيرات المتناثرة في هذا المكان، الذي يعاني الإهمال مثله مثل حالة الجالسين فيه. فلا يكاد المرء يوقف سيارته بالقرب من هذا الفضاء، حتى يجد أمامه العشرات من هؤلاء النسوة متصارعات من أجل الظفر بعمل مؤقت قد يمتد لساعات، وذلك في سبيل توفير لقمة عيش كريم، تقيهن مرارة التسول وذل مد اليد. الساعة تشير إلى السادسة صباحا، كانت وجهتنا إلى إحدى أكبر الساحات بمدينة زايو، التي تشبه سوقا تعرض فيه اليد العاملة، ليأتي المشرفون على الضيعات الفلاحية لاختيار عدد العاملات اللواتي يرغبن في العمل، وما هي إلا دقائق معدودات حتى بدأت سيارات «البيكوب» بشحن النساء والرجال معا، حيث تلاصقت الأجساد، واختلطت الأنفاس، وغاب هواء نقي يستطيعون تنفسه. اقتربنا من بعض النساء لنسألهن، إلا أنهن تحاشين الحديث معنا حينما علمن بالمهمة الصحافية التي جئنا من أجلها، وبعد عدة محاولات استطعنا أن نقنع بعضا منهن بالحديث معنا. سألنا إحداهن لم نستطع تحديد سنها، لأنها كانت تغطي وجهها: كم مضى عليك من السنوات في هذا العمل؟ أجابت ضاحكة «عشر سنوات ولم أستفد شيئا غير المرض، والسب والشتم، والنعت بأقبح الصفات من طرف «الباطرون»، إذا وجد تقصيرا ما في العمل. ومضت تسرد لنا معاناتها من حمل الصناديق التي تملأ بالخضروات والفواكه، قائلة: «الباطرون» لا يفهم إلا لغة السب والإسراع في العمل، أما التحرش فحدث ولا حرج». في السياق نفسه تحكي أخرى، يبدو من حديثها معنا، ومن خلال ملامحها أنها مازالت في ريعان شبابها وتقول عن أسباب لجوئها لهذا العمل إن والدها لم يعد يقوى على العمل بعدما أصيب بمرض مزمن، فاضطرت للعمل لإعالة نفسها ومساعدة أسرتها على ما تحتاج إليه، تقاطعها زميلة لها في العمل قائلة: «لانجني من هذا العمل سوى الشعور بالقهر والظلم، وتابعت: إنها الظروف القاسية التي دفعتنا لهذا العمل والاستيقاظ في السادسة صباحا، فمنذ أن كنت في سن الخامسة عشرة ، وأنا أعمل في الحقول والضيعات الفلاحية، ولكن الحمد لله على أي حال، نحن صابرات إلى أن يأتي الفرج من عنده سبحانه وتعالى، أو من ولد الناس لي يخرجنا من هاد لحالة لي حنا فيها، باش نرتاحو بحال كاع النساء بالراحة والسعادة...». فتاة أخرى تقول إنها في عقدها الثاني وأنها لا تعرف الكتابة ولا القراءة وأنها منذ سنوات خلت وهي تعمل في الحقول، تارة تجني الطماطم وتارة أخرى الخضروات، وتردف قائلة: «كنخرج في الصباح بكري قبل متشرق الشمش، باش نضمن فرصة عمل ، كنظل اليوم كامل كنخدم ، كثر من 10 ديال ساعات من 6 ديال صباح حتى4 ديال لعشية، ومن دون راحة، ومنين كنرجع للدار في لعشية كنحس بالعياء، وكنفيق في اليوم لي موراه باش نخدم عاود وهكذا»، وتضيف قائلة: «آش غادي دير، حكمات علينا الوقت أخويا، ولمعيشة غلات بزاف، ضروري من لخدمة إلى بغيت تعيش...». ضيعات للخضر فضاءات للاستغلال بعد وصولهن إلى الحقل، يبدأ المشرف بتوزيع العاملات، حيث يصطفن في خط مستقيم في أحد أطراف الحقل، ويبدأن بعد ذلك في جني الخضر، ويتم ذلك يدويا من خلال إمساك الخضر من «ساقها» وسحبها بقوة لاقتلاعها من التربة، ووضعها في صناديق، ونظرا لأن اليدين تستعملان في عمليات جني الخضر، فإن هذا يسبب الجروح والشقوق، لذلك تلجأ بعض العاملات لارتداء القفازات والتي غالبا ما يجهزنها من قطع الأقمشة الموجودة لديهن في المنزل ويخطنه يدويا، حسب ما أكدته لنا بعض العاملات. تقول فاطمة، 44 سنة، عاملة، «من خلال عملنا في الضيعات تصاب أيدينا بتشققات وخشونة في جلد اليدين وتضخم في سمكه، لهذا تفضل بعض العاملات وضع قفازات»، وتضيف «أنا شخصيا لايمكنني أن أعمل دون أن أخفي يدي في قفازين». أما عن حكايات التحرش الجنسي والاستغلال سألناه ما إذا تعرضت يوما ما له؟، أخذت نفسا عميقا، قبل أن تجيبنا بنبرة صوت خافتة وحزينة»، ما عساي أن أقول لك: «تعرضت لذلك مرارا وتكرارا، فإن لم يكن من قبل المشغل، فيكون من قبل بعض عمال الضيعة الذين يشتغلون معنا، هناك من أرباب الضيعات من يستغل عوز بعض الفتيات جنسيا، من خلال التهديد بالطرد من العمل». في نفس السياق دائما تحدثت نجاة 33 سنة، أرملة، وأم لثلاثة أبناء، عن معاناتها نفسيا لحظة بدأت تبحث عن عمل في الضيعات الفلاحية، حيث أنها كانت لا تستطيع التصريح بالضغوطات والمساومات التي كان يمارسها عليها مشغلها قصد تلبية رغباته، لذلك تركت العمل في الضيعات والحقول لسنوات، حيث ضاقت ذرعا من العمل كخادمة في البيوت والمقاهي في المدن المجاورة لمدينة زايو، لتقرر أخيرا العودة للضيعات الفلاحية، تقول: «المشكل لي كنعانيو منو كعاملات في الحقول هو التحرش الجنسي اللي كيتمارس علينا من طرف بعض المشغلين، والرجال لي كنخدمو معاهوم ، زيد على هاد شي كنتخلصو 60 درهم في نهار، عشنا بكري...». في سياق ذي صلة تقدمنا إلى إحدى العاملات التي تشتغل مع نجاة بالسؤال، رفضت في البداية الحديث معنا وبعد عدة محاولات منا وبمساعدة نجاة، قبلت الإجابة عن أسئلتنا على مضض، وكانت تغطي وجهها بالكامل لا يكاد يظهر منه شيء سوى عينيها: كم مضى عليك من السنوات وأنت تعملين في الضيعات الفلاحية؟: سبع سنوات. وهل تعرضت يوما ما للتحرش؟: نعم، مرات عديدة. هل لك أولاد؟ أجل، خمسة أبناء، وهل يتابعون دراستهم بالمدرسة؟ نعم، إثنان منهما والثلاثة الآخرون لايزالون صغارا. وتابعت تقول: «يؤلمني أن أحرمهم من حقهم في التمدرس بعد أن توفي والدهم الذي لم يترك لنا من حطام الدنيا أي شيء، فما دمت على قيد الحياة وبصحة جيدة، لن أتركهم يتضورون جوعا أو يحتاجون لأي شيء، فبالرغم من بعض المضايقات، إلا أنني أصبر من أجل توفير لقمة العيش لي ولأولادي، فأولادي لا قوت لهم إلا ما يأكلونه من شقاء عملي المضني، الحمد لله على أي حال..». ثم صمتت وهي تلتفت يمينا وشمالا ربما خوفا من أن يراها المشغل فيكون مصيرها الطرد، وتابعت: «الحياة مرة، ومسؤولية الأبناء صعبة، وتعليمهم أمر شاق، في ظل حياة الفقر والعوز وضيق ذات اليد، فلا يخفى على أحد ظروف الحياة في زايو، حيث تقل فرص الشغل، إلا من هذا النوع من العمل أو خادمة في البيوت». ثم سألتها عن عدد الساعات التي تعملها في الحقول في اليوم؟، أجابت «عشر ساعات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس». وكم تتقاضين أجرا عن هذا العمل؟، تجيب: «60 درهما». قلت لها: «حين لا تجدين عملا، بماذا تجابهين مصروف البيت والأولاد؟» تنهدت بصوت مسموع وقالت: «أقوم بشراء بعض الحلويات من المحلات التجارية بالناظور، وأعيد بيعها في سوق الخميس بزايو». وأردفت: «نكابد قهر الزمان بسبب فقدان المعيل، وحتى في قيد حياته كان رحمه لله «على قد عيشته البسيطة»، وعلى أي حال الخير في ما اختاره لله». بؤس وتضحية تشهد مدينة زايو يوما بعد يوم تزايدا ملحوظا في عمالة النساء والفتيات، حيث يلاحظ كل متتبع لوضع المرأة بالمدينة، أنهن اقتحمن معظم مجالات العمل وميادينه وأصبحن ينافسن الرجال، كالفلاحة والتجارة...، -وذلك في مسعى سد حاجاتهن وتحسين المستوى المعيشي لأسرهن، لذلك فهن يقاسين بالحقول والضيعات الفلاحية، أشكالا وأنواعا من التعسف وهضم الحقوق، بالإضافة إلى تعرضهن للتحرش الجنسي في صمت، من قبل بعض المشغلين والعاملين معهم في نفس الضيعة، فعمل النساء في الضيعات والحقول الفلاحية يعود أساسا إلى الظروف الصعبة التي تعيشها الكثير من العاملات في زايو والأجور التي يتقاضينها ضعيفة، ولا توفر الحاجيات الضرورية لهن ولأسرهن، ومع ذلك يخرجن باكرا كل يوم بهدف العمل، يتكدسن داخل سيارات «البيكوب» إلى الضيعات الفلاحية. تقول عاملة، رفضت الكشف عن اسمها وسنها، «إنها وجدت نفسها مضطرة للعمل في الضيعات الفلاحية، مقابل أجر يومي جد قليل لمساعدة أسرتها على تأمين احتياجاتها، والمكونة من خمسة أفراد، موضحة أنها تكدح نحو عشر ساعات يوميا، مقابل ستين درهما، ومع ذلك فهي تشكل رافدا أساسيا لأسرتها سيما وأن دخل زوجها غير قار في «البناء»، إذ لا يسمن ولا يغني من جوع، وتضيف أن الوضع المادي لكثير من الأسر في مدينة زايو ضعيف، لهذا تضطر النسوة للعمل، فظروفهن لا يمكن وصفها إلا بالمأساوية، في ظل غياب أي حق سواء من ناحية التأمين الصحي، أو الضمان الاجتماعي أو حتى وجود حد أدنى للأجر الذي يتحكم به أصحاب العمل. وتردف قائلة: «إن من أكثر الصعوبات التي تواجهنا هي الحاجة لقوة عضلية في جني الخضر والحوامض والبواكر أو محاصيل زراعية أخرى، إلى جانب بعد الحقول عن مناطق السكن، والذي يسبب الإرهاق للعاملات». رغم صعوبة العمل وكل المضايقات التي يتعرضن لها هؤلاء العاملات، إلا أنهن سعيدات حسب ما أكدنه لنا، إذ تربط العاملات ببعضهن البعض علاقة طيبة وقوية، كونهن يتوجهن إلى الحقل معا، ويعملن معا، يجلسن على مائدة طعام واحدة، يمزحن ويغنين معا، إلى جانب مساعدتهن لبعضهن البعض، فعندما تنتهي عاملة من عملها، تساعد العاملة التي تجاورها، هكذا حتى ينتهين. تقول حكيمة في هذا السياق: «تربطنا علاقات قوية، نساعد بعضنا البعض على الرغم من مشاق الزمن، وطبيعة عملنا المتعب، نحن سعيدات مع بعضنا البعض، رغم كل شيء، نحن راضيات بعملنا لأنه يغنينا عن مد يدنا لغيرنا أو اللجوء للحصول على لقمة العيش بطرق غير مشروعة». إنها حكايات كثيرة.. بالرغم من اختلاف تفاصيلها.. إلا أن الألم يوحد بينها.. والحرمان هو القاسم المشترك.. و«الفقر» هي الكلمة التي قد تلم شتات هذه القصص.