«نفحة يتحدث «كتاب للواء جبريل الرجوب المناضل الفلسطيني الذي قضى 17 سنة في السجون الإسرائيلية ،كتاب يؤرخ ويوثق لمعركة الأمعاء الخاوية التي خاضها المناضلون الفلسطينيون في هذه السجون الخالية من أي معاملة إنسانية ، ويؤرخ هذا العمل الذي خرج إلى حيز الوجود بعد 35سنة مرت عن هذه المعركة إلى هذه المرحلة من حياة فلسطين والفلسطينيين. اللواء جبريل الرجوب وفي حوار سابق أجرته معه جريدة «الاتحاد الاشتراكي» على هامش تكريمه من طرف جمعية المحمدية للصحافة والاعلام، وافق على نشر هذا الكتاب على صفحات جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، وهو كتاب نشرته دار المناهج للنشر والتوزيع السنة الماضية. عن هذا الكتاب يقول اللواء جبريل الرجوب لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» إن السجون في إسرائيل، تمت صياغتها بهدف إيقاع الأذى النفسي والجسماني بالأسير الفلسطيني من خلال شروط حياة مادية صعبة وقاسية، ومعاملة عنصرية وحشية، العنف الجسماني والإذلال النفسي. فالسجون ظهرت كبدائل موضوعية لأعواد المشانق لتجريد المناضل الفلسطيني من إنسانيته. حوالي الحادية عشرة ليلا، خيم على زنازين سجن نفحة جو من الصمت والتفكير العميق حول مصير الذين غادروا وماذا سيجري لهم. فقد بقي في نفحة ثمانية وأربعون أسيرا، وزعوا على عشر زنازين. ثم لم يلبث أن بدأ جدار الصمت يتحطم، حين اختلط صراخ السجانين مع صرير أبواب الزنازين الصاج عند فتحها أو إقفالها الواحد بعد الآخر. ولم يكن أحد داخل الزنازين المقفلة يعلم بما يجري حتى يصل دور زنزانته ويفتحها السجان، ويقتاد مجموعة من الحرس أسيرا إلى الغرفة المخصصة لاستقبال المسحوبين من زنازينهم. وهناك يجد الأسير أمامه الملازم الأول مسؤول العيادة كوبي كوهن وممرضا آخر، وعددا من الحراس يحملون القيود. وكان الأسير يؤمر بالجلوس على الكرسي الموجود في وسط الغرفة. وفي الحال كان يتم ربطه بالكرسي ويمسك أحد الحراس رأسه ويجذبه إلى الخلف، ويطلب منه فتح فمه، حيث يقوم الملازم كوبي كوهين والممرض بدس أنبوب الزنده، وبعد تأكده من استقرار الأنبوب في المعدة يطلب الملازم من الممرض أن يبدأ بسكب سائل التغذية الإجبارية في القمع المتصل بالطرف الآخر من الأنبوب. هذه العملية اكتملت خلال 90 دقيقة من الزمن لا يغر، دون حدوث أي مضاعفات ودون استعمال عنف جسدي مباشر، اللهم إلا بعض الصرخات والتهديدات في جو من الإرهاب المعنوي. إن إبرازنا هذه التفاصيل ضروريا لمعرفة الأسباب التي جعلت العملية المماثلة التي كانت تجري في نفس اللحظة ذاتها في سجن بيت معتسار مختلفة تماما. وهذا ما سنعود إليه بعد عرض ما جرى للمضربين المنقولين إلى بيت معتسار، والذين تركناهم في الشاحنة أمام بوابة ذلك السجن الحديث جدا في مبناه وتجهيزاته، القاسي جدا في معاملته وطاقته. فتحت أبواب الشاحنة. وتمكنا، ولأول مرة منذ أربع ساعات، من استنشاق الهواد النقي. وحتى قبل أن نتمكن من معرفة المكان الذي توقفنا عنده، أمرنا بالنزول من الشاحنة بأسرع ما نستطيع. وما أن ترجلنامن لاشاحنة، حتى رأينا أمامنا صفين طويلن من السجانين بكامل معدات القمع: رشاشات الغاز، والعصي، والراوات البلاستيكية، والدروع، وقنابل الغاز المسيلة للدموع، والأقنعة الواقية من الغاز التي يستخدمها السجانون. حرس الشرف، هذا، كان مصطفا بنظام لا تخترقه سوى الصرخات المنبعثة من أفواه أفراده تهدد وتأمر وتتوعد.. إلخ، لم يكن ممكنا لنا، حتى لو أردنا ذلك، تنفيذ أمر السير بسرعة ونحن على الحال الذي كنا عليه. ولكن الذي جعل غير الممكن ممكنا هو انهيال حرس الشرف علينا بالضرب الشديد الذي رافقته أفظع المسبات. استمر سير الموكب دقائق. وانتهى الأسري في غرفتين صغيرتين، أمرنا بالاصطفاف حول جدرانهما ووجوهنا نحو الحائط، لتبدأ مرحلة جديدة من تجربتنا الحسية مع قيم العدالة والديمقراية والتقاليد الإنسانية اليت يمتاز بها الكيان الصهيوني. فلقد روعيت العدالة بأدق معانيها، عندما وزع الضرب بالتساوي على كل واحد منا. كما روعبت الديمقراطية بدقة، عندما كان الحرس يتشاورون فيما بينهم لاختيار أفضل الأماكن التي يجب أن يتركز عليها لاضرب. وربما كان الوحيد من الحراس الذي لم يراع الأسلوب الديمقراطي لاتخاذ القرار هو العريف كيفو، أحد المرتزقة الدروز من قرية يركة، الذي اختار أسلوبه الخاص بتركيز الضرب على القبضات المكبلة خلف الظهور. أما التقاليد الإنسانية فقد روعيت بمنتهى الدقة. وتجلى ذلك أكثر ما تجلى في استعمال الماء البارد لإنعاش الذين أغمي عليه، بدلا من تركهم في حالة غيبوبة، كما حدث مع الشهيد علي الجعفري الذي أنعش أكثر من مرة، ينهض بعدها متثاقلا، يحاول الوقوف علي قدميه، كي يتهاوى. وفي مرة ثانية سقط معه زميله في الأصفاد.. استمرت تجربتنا الحسية هذه أكثر من ساعة، بعدها قام السجانون بفك الأصفاد من أيدينا وأوجنا كي يقتاد كل منا بمفرده إلى قاعة كبيرة عارية إلا من طاولة وكرسي في الوسط. في هذه القاعة، كان الواحد منا يؤمر بأن يتعرى تماما، تمهيدا لتفتيش جسماني مهين بين نالضربات والركلات، ثم يرمى إليه بقميص وبنطلون وسروال داخلي ويشكير. وقبل أن يتسنى له ارداؤها كاملة يفاتادها إلى الطاولة التي يقف عندها القاتل السادي روفائيل رويمي، الذي يحمل رتبة ملازم أول، وهو ممرض قانوني وصل إلى فلسطين في العام 1965 من المغرب العربي حيث كان إسمه روفاني رومي، وهو في آن واحد مسؤول عيادة بيت معتسار، وأداة قمع رئيسية، وذلك بفضل ساديته، من جهة، وبفضل بنيته الجسمانية المتينة للغاية، من جهة ثانية، وبفعل الدعم الكبير الذي يحظى به من مدير السجن، من جهة ثالثة. يرى الأسير الطاولة، ويرى شخصا يرتدي القميص الخاص بالممرضين، ويرى علي الطاولة جهاز قياس للضغط وسماعة طبية و ميزانا طبيا. الطبيعي في هذه الحالة هو أن يقتنع الواحد منا بأن الواقف أمامه هو الممرض الذي سيقوم بقياس ضغطه ووزنه، فيبادر بالجلوس علي الكرسي، فيفاجئه الممرض بالصفعات والركلات والطمات الي يتتخللها الشتائم البذيئة على العرب الذين لا يفهمون اللياقة، والذين يجلسون دون دعوة. يبادر الأسير رلى الوقوف، فيصفع ثانية، ويضرب ثانية، ويؤمن بالجلوس كي يقوم القاتل بقياس ضغطه. بعذ هذا، يقتاد كل أسير مر بهذه المعاناة إلى خارج القاعة، ويطلب مه أن يقف ووجه إلى الحائط على بعد متر مر زميله الذي سبقه، ويحذر ببضعة ضربات من التحدث مع زميله، فيلتزم الأسير بالأمر، ولكن ذلك لا يعفيه من ضربات غادرة جبانة توجه إليه من الخلف، أو من دفعات قوية تؤدي إلى اصطدام رأسه بالجدار. والويل كل الويل لمن يسأل عن سبب الضربات، وللحقيقة فإن أحدا لا يدور بخلده أن يسأل سؤالا سخيفا كهذا. بعد أن اكتملت هذه العملية، تم البدء بتوزيعنا على زنزانات منفردة في قسمين منفصلين من السجن. قبل أن يدخل الواحد منا إلى زنزانته، كان عليه أن يتلقى، بين الصفعات والضربات، درسا في كيفية التصرف داخل الزنزانة. وهذا الدرس يتلخص بالتالي: ممنوع الجلوس أو النوم على السرير الموجود داخل الزنزانة. وممنوع التحدث بأي كلمة مع الزنازين الأخرى. وممنوعة محادثة السجان، إلا رذا كنت تريد إخباره بأنك تنوي وقف رضرابك عن الطعام، عليك أن تنام على الأرض. وهناك ثلاث بطانيات تكفي لهذا الغرض. بالرغم من كل ذلك، كان دخول الزنزانة نعمة حقيقية لا يقدرها إلا من مر بالتجربة، وذلك لأن الزنزانة فيها ماء لشرب. وقد كان الماء خصوصا في تلك اللحظات أعز وأندر وأروع شيء في العالم. شرب كل منا ما شاد قدر سعة معدته وألقى جسده المنهك على الأرض، حذرا من رصدار أي صوت قد يستفز السجانين المحتشدين في الممر أمام الزنازين. في اللحظان القليلة التي أعقبت إغلاق الأبواب، ظن كل منا أن الأمر اكتمل عند هذا لاحد، مستبعدا ذكريات رحلة العذاب الويلة الشاقة التي مر بها. مرت دقاذق قليلة متوترة دونما أي صوت يسمع سوى صوت صرخات السجانين وشتائمهم وفجأة، سمع صوت باب يفتح ووقع خطوات أسير يقتاد بين سجانين الي خارج الممر دقائق صمت قليلة أ]رى تم بعدها شق الصمت بأصوات فيها الألم وفيها التحدي هذه الأصوات كانت نبعث من القاعة التي جئنا على ذكرها قبل قليل.