أعادنا مسلسل "أفراح القبة" المصري، خلال رمضان الجاري، والذي يعرض بعدد من الفضائيات، إلى إعادة تمثل قوة علاقة النص الأدبي مع صناعة الصورة، التي تشكلها السينما والتلفزيون. فهو بلا مبالغة، من أفضل ما يقدم هذا الموسم ضمن الأعمال التلفزية الرمضانية، إن لم يكن أحسنها بمسافات. ليس فقط لأنه عمل تلفزي مسنود على نص روائي باذخ ورفيع، صدر سنة 1981، للأديب الراحل نجيب محفوظ، بذات العنوان، بل لأنه عمل إبداعي بالصوت والصورة، مطروز فنيا بشكل بديع. وأن القصة فيه هي البطل الأول والأخير، ما جعل كل الممثلين سواسية في امتحان الإبداعية أمام الكاميرا. وأن كل واحد منهم، بكل ما يحمله معه من تجربة وإسم فنيين، قد أصبح آخر أمام قوة الفكرة وقوة النص. أي أن التجربة الفنية هنا، لأسماء وازنة ومجربة، قد كانت في لحظة امتحان جديدة على مستوى الأداء، وهذا واحد من أكبر التحديات الجميلة (المطلوبة والمرغوبة) التي تواجه كل ممثل أو ممثلة، فنان أو فنانة. لقد استخرج النص الروائي، المحبوك بدقة، لأنه يستند على قصة مركبة، لأبطال في حالة امتحان دائم أمام الذات وأمام حقائقها، الممثلين المشاركين في مسلسل "أفراح القبة" من ذواتهم الفنية الكلاسيكية، ومنحهم، أن يجربوا تجربة في الأداء جديدة. وهذا أمر نجده عند الفنانة منى زكي المصرية، مثلما نجده عند الفنان جمال سليمان السوري، وعند باقي الأسماء المشاركة مثل رانيا يوسف وأحمد السعدني وصبا مبارك، وباقي صف الممثلين المشتركين في هذا المسلسل التلفزي الرفيع. بالتالي، فإن النص المحبوك باحترافية أدبية عالية، المسنود على موضوعة أدبية لها خلفية معرفية، وعلى رؤية فلسفية في معنى الوجود لكل ذات أمام حقيقتها، هو الذي جعل اللحظة الفنية عالية الذبذبات. خاصة وأن عملية الإقتباس والسيناريو، تعتبر لوحدها واحدة من أكبر عناوين النجاح الفني في هذا المسلسل (الذي قامت به الكاتبة نشوى زايد)، مما اعتبر تحديا غير مسبوق في مجال علاقة الأدب والرواية بالتلفزيون. لأنه ناذرا ما نجحت أعمال روائية تلفزيا، قدر نجاحها سينمائيا. هذا يؤكد، مجددا، أن العطب الكامن في ذائقتنا الفنية عربيا، على مستوى الأعمال التلفزية، كامن ليس في النص والفكرة فقط، بل في طريقة إعادة صياغتها بتوابل ثقافة الصوت والصورة، كصناعة فنية مستقلة وقائمة الذات. وهنا يكمن سر نجاح مسلسل "أفراح القبة" في العمق، أنه انتصر للواجب الفني لهذه الصناعة الشديدة التعقيد والمركبة، التي هي ثقافة الصوت والصورة. ما جعلنا نكتشف، بغير كثير من المفاجأة، أن الذائقة الفنية لجمهور المتلقين، لا تخطئ العناوين الجيدة فنيا على مستوى الأعمال التلفزية. مما كذب مجددا، تلك المقولة، التي تفيد أن الذوق العام الفني للجمهور العريض عربيا قد تم تدميره وتشويشه وبلقنته والنزول به إلى حضيض الإسفاف. بدليل، أن الجمهور العام للمشاهدين العرب، في كل الأصقاع حيث للعربية وجود تواصلي عبر العالم، قد تواصل بمحبة مع هذا المسلسل، لأنه يقدم لهم تجربة فنية، تحترم الشروط الواجبة لصناعة الصورة، وأنه في الأول والأخير يحترم ذكاءهم الفني، وأفق انتظاراتهم التلفزية الإبداعية، في أن يروا ذواتهم، بلغة الضاد، من خلال عمل فني مركب وإشكالي، يطرح سؤال الذات أمام حقيقتها. بدليل، أن التلفزيون، قد جعل الناس تعود للقراءة، من خلال حجم ما سجل من عودة للبحث عن رواية نجيب محفوظ لقراءتها أو إعادة قراءتها. وأن أرقام مبيعات تلك الرواية قد ارتفعت بشكل مفرح هذه الأسابيع في بر مصر وفي الخليج وفي سماوات عربية أخرى. إن الدرس، الذي يقدمه لنا مسلسل "أفراح القبة" لمخرجه الشاب محمد ياسين (لم يلج مجال الإخراج سوى في نهاية الثمانيات وبداية التسعينات)، أن الذبذبات اللاقطة للإبداعية عربيا لا تزال سليمة ورفيعة ومحاسبة. وأيضا أن قوة كل عمل فني رفيع عبر التلفزيون والسينما، كامنة في الفكرة والقصة والسيناريو، ثم في شكل تحويل الإخراج لكل ذلك إلى توليفة مركبة فنيا، بذات الشكل الذي يكون لقائد الأوركسترا الفيلارمونية، حيث كل نوطة فيها بميزان، وكل عازف ضروري للآخر، حتى تكتمل صورة الجمال. الأمر الذي يدفعنا أكيد، نقديا، إلى أن نتخلص من ذلك الكسل الرؤيوي، الذي جعلنا نكاد نستكين قدريا، إلى أن "روح الإبداعية" الرفيعة قد انطفأت في دنيا العربي، وأن الفرد العربي غارق في استبلاد فني بلا ضفاف. لقد جاء مسلسل "أفراح القبة"، لكي يقدم العكس تماما. وهذا أكبر دروسه التربوية والبيداغوجية في الواقع. للإجتهاد ثمن، وله صدى وأثر.