منذ طفولته في الحي العمالي والصناعي عين السبع، بالدارالبيضاء، هناك قرب شاطئ النحلة وشاطئ زناتة، في تلك الفيلات الصغيرة، الجميلة، التي كان يسكنها المعمرون الفرنسيون من الموظفين والأطر قبل مغادرتهم المغرب بالتتابع في نهاية الستينات من القرن الماضي.. منذ تلك الطفولة البكر، كان الفنان الساخر المغربي حسن الفد وعدا لشئ جميل، لشئ ذكي، لشئ مختلف. السر كامن في العائلة أولا، وفي والده الحاج محمد الفد ثانيا. ولعل قوة حسن الفنان، ابن الشعب، أنه لا يتصنع شيئا، هو صادق في عمله فقط، وفي شخصياته التي يتقمصها. ولعل آخر عروضه الفنية العمومية «عين السبع» التي قدمها في عدد من المسارح بالمغرب، ترجمان حقيقي لذلك. فقد كانت نوعا من السيرة الفنية لشخصه وفضاء طفولته وشبابه. هو اليوم، المتعة الفنية الوحيدة (بدون أية مبالغة) في برامج رمضان المغربية. ويكاد المرء يجزم أن لحظة إطلالته في سلسلة «الكوبل»، رفقة الفنانة المتألقة دونية بوتازوط، بالقناة الثانية، تسجل أعلى نسبة مشاهدة في المغرب كله. لأنها اللحظة التي تدار فيها العيون كلها صوب لحظة للمتعة الفنية الساخرة، الغارقة في «تامغربيت»، من أقصى البلاد إلى أقصى البلاد. وبذلك يوحد حسن الفد المغاربة في لحظة فرجة، قصيرة زمنيا، لكنها عالية جدا متعة فنية وصنعة واحترافية. حينها يخرس بلد بكامله لينصت للفنان، لابن البلد الذي تهل عليه الأدعية بالملايين «الله يعطيك الصحة.«. ولعل السر كامن في أن فكرة «الكوبل»، قوتها في بساطتها. ونفاذها في بنائها الفني واللغوي، وفي الشخوص المتقمصة، وأساسا في الرسائل الإنسانية التي تمررها. ولعل التكثيف الزمني الذي يقدم من خلاله كل من الفد وبوتازوط، تلك المتعة الفنية، يقدم الدليل، على أن الأثر الفني وجمالية الأثر الفني، هي في مكر حسن التعامل مع الزمن. فالفائدة ليست في الكثرة، بل في الأثر. العسل دوما قليل، لكن فوائده كثيرة. مثلما أن ذلك التكثيف يعكس الجهد الهائل المبدول لتحقيق متعة مماثلة. وفي تحدي أعمال مماثلة، يكبر الفنان أو يسقط. و»الكوبل» كبر وتسامق وتعالى في دنيا الإبداعية الباهرة الجميلة. حسن الفد، صار علما من زمان في مجال فن الفكاهة الساخر بالمغرب، لأنه جدي مع ذاته. فهو لا يترك قط الأمور على عواهنها، بل إنه يشتغل ويشتغل شهورا بشكل يومي من أجل متعة لحظة يرسمها في وجدان الناس. بذلك، فهو يرسم الأثر الأبقى مثلما يرسم الوشم في ظاهر اليد. بالتالي لن تنساه البلاد قط بسهولة ولا ذاكرة ناسها الطيبين. ومن أكثر ما أحبه في الرجل احترافيته العالية، وجديته في التعامل مع مهنته، التي يمارسها بما يجب لها من ضبط ومن حقوق واجبة، ولا يكذب قط على نفسه، بل إن قدميه راسختين جدا في الأرض. أليس ذلك هو العنوان الأكبر للإحترافية. مصر تعود قوية ب «سرايا عابدين» بدون مبالغة يعتبر مسلسل «سرايا عابدين» المصري، أرفع عمل درامي تلفزيوني يعرض على الشاشات العربية خلال شهر رمضان لسنة 2014. وقوة المسلسل، ليست كامنة في قصته وموضوعها، المتعلق بالخديوي إسماعيل، الذي حاول تحديث مصر في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، بل هي كامنة في قوة الصنعة الفنية التي يصدر من خلالها على المشاهدين العرب. ويستطيع المرء الجزم، أن القيمة الفنية لهذا المسلسل، تدشن لانعطافة غير مسبوقة في كل الأعمال الدرامية التلفزية المصرية. بالشكل الذي يستطيع المرء القول إنه سيؤرخ لما قبل وما بعد «سرايا عابدين» في الدراما التلفزيونية المصرية. ليس لأن التقنيات المتوفرة اليوم أكبر وأكثر تقدما مما كان عليه الحال مع أعمال مثل أعمال أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ الخالدة، بل لأن الرؤية الفنية مختلفة، وهذا أمر فارق. شئ ما تغير في الرؤية الفنية الإبداعية المصرية، مع مسلسل «سرايا عابدين.« لأن لغة الديكور الرفيعة، ولغة الضوء البهية المحترفة، ولغة الموسيقى والصوت الإحترافية، ولغة اللباس العالية الدربة والإتقان، ولغة تحرك الشخوص، ولغة المونتاج الدقيقة، كلها تقنيات مورست باحترافية غير مسبوقة في تاريخ المسلسلات المصرية، ويكاد المرء الجزم، أنه لأول مرة لم يترك شئ للصدفة في عمل مماثل. من هنا، بدأت ملامح فتح باب العالمية واسعة، من خلال أعمال مماثلة، أمام الدراما المصرية، بالشكل الذي يوازي عاليا قيمة ما تنجزه الدراما التركية خلال العشر سنوات الأخيرة. وهي دراما، إذا ما تواصلت بذات الشغف الفني الرفيع، فإنها ستساهم بقوة في إعادة تربية الذائقة الفنية للمشاهد العربي، عبر لغته الأم اللغة العربية. خاصة وأنه قد قدم لنا هذا المسلسل درسا آخر بليغا، عن ما يحققه التعاون العربي إبداعيا من منجزات راسخة في الفنية بمقاييس احترافية. ذلك أن القصة المصرية، القصة التاريخية لخديوي مصري حاول مصالحة أهل بلده مع الحداثة والتقدم والتنظيم السياسي العصري الحديث، مثل الخديوي إسماعيل، حين كتبتها الكاتبة الكويتية هبة مشاري حمادة، وأخرجها المخرج المصري الأصيل، الشاب عمرو عرفة (سلسل عائلة عرفة الفنية، التي نعتز دوما بأعمال عمه الراحل شريف عرفة)، صاحب بعض من أروع أفلام السينما المصرية تقنيات فنية وحبكة قصة مثل فيلم «إبن القنصل» وفيلم «زهايمر»، فإن النتيجة تكون مبهرة. إن «سرايا عابدين» كمسلسل يقدم لنا خدمة فنية أخرى رفيعة، هي أنه يسمح لنا بأن نعيد اكتشاف ممثلين راسخين بشكل مغاير جديد غير مسبوق، مثل ما يفعله مع يسرا، ومثل ما سبق وعمله مع عادل إمام في فيلم «زهايمر» وما فعله مع خالد صلاح في فيلم «إبن القنصل» (بل أكثر من ذلك ما فعله مع أحمد السقا، الذي يعتبر ذلك الدور أول أدواره الفنية الرفيعة بمقاييس الفن لا الفهلوة). والخلاصة، هي أنه مع مسلسل مماثل يكون رمضان هذه السنة ممتعا فنيا. كاتب مغربي