في بلد يعتبر من أكبر منتجي ومصدري الثروات السمكية بمختلف أنواعها، بلد بواجهتين بحريتين تجودان بالأطنان من الأسماك المغربية، تخلت فئات كبيرة من الأسر عن استهلاك هذه المادة بعد تسجيل أسعارها لمستويات قياسية لم يعد المواطن المغربي قادرا على مجاراتها. أسعار تبلغ في بعض المواسم مستويات خيالية يعجز المستهلك البسيط عن فهم أسبابها وخاصة في شهر رمضان. ثلاثة آلاف و500كلمتر من الشواطئ، 55 نوعا من المنتجات البحرية النادرة، المنتج رقم واحد للأسماك في كل القارة الإفريقية والعالمين العربي والإسلامي، الرقم واحد عالميا في إنتاج وتصدير السردين، يصنف ضمن العشرين دولة الأوائل في العالم المنتجة للثروات البحرية بمختلف أنواعها من رخويات وفقريات وذوات الزعانف وفواكه البحر وأيضا من الطحالب البحرية.... لكن في مقابل كل هذه التصنيفات يبقى المغاربة من بين أقل الشعوب استهلاكا لهذه الخيرات البحرية، أنواع عديدة منها يمنع عليها كليا ولوج التراب الوطني، تهجر من البحر مباشرة نحو دول أوروبا وغيرها من بقاع العالم، يجهل المغاربة أسماءها وأشكالها، وحتى السردين الذي كان يعتبر "كافيار"الفقراء أصبح صعب المنال بعد أن طالته أيادي المضاربين. عن هذه المفارقة التي تدفع إلى طرح سؤال "فين مشى حوت المغرب؟"يقول العسكري، أحد باعة السمك بسوق بوجدور بمدينة الدارالبيضاء، إن ارتفاع أسعار السمك حد كثيرا من إقبال الأسر المغربية على اقتنائه. وأكد أن سمك السردين الذي كان يعتلي عرش موائد الفقراء، أصبح بعيد المنال بالنسبة للفئات المعوزة بعد أن ارتفع سعره بأضعاف مضاعفة مقارنة مع السابق، فلم يعد يقل ثمنه عن 10 دراهم في الأيام العادية في ما يصل إلى 30 و35 درهما في شهر رمضان، وهذا سعر لا يمكن للمواطن البسيط أداءه مقابل كيلوغرام واحد من السمك حسب العسكري دون الحديث عن قيمة "الميرلا"التي يتضاعف سعرها من 40 درهما أو 60 درهما في الأيام العادية إلى 90 وأحيانا 120 درهما للكيلوغرام. تاجر آخر بنفس السوق أشار إلى ندرة بعض الأنواع قائلا "الأسماك لم تعد متوفرة بنفس الكميات التي عهدناها في السابق، نحن نقتني الأسماك من المضاربين بأسعار مرتفعة، علما أن هناك أنواعا أصبحت قليلة شيئا ما حاليا في الأسواق".. وعن سر هذا الخصاص والارتفاع الصاروخي للأسعار، أضاف "المضاربون والسماسرية هم من يقف وراء هذه الوضعية الكارثية التي انعكست سلبا على العديد من الباعة بالتقسيط والذين اعتزل الكثير منهم هذه المهنة..."، مضيفا "بعض المرات تيدخل الباطو تيبيع بالجملة ب 3 دراهم السردين مثلا، المضاربين تيهزوا كلشي جملة تيبيع لواحد آخر يزيد 2 دراهم والثاني يزيد ما تتوصل السلعة عند المواطن حتى كيتزاد فيها 4 ولا 3 المرات هذشي خصو يتقنن والمسؤولين خصهوم يحيدوهذ الاحتكار لأنه يضر بالمواطن وحتى الباعة". وللمواطن رأي، حيث أجمع كل من التقتهم "الاتحاد الاشتتراكي"أن السمك لم يعد يدخل ضمن قائمة الاستهلاك بالنسبة للعديد من الأسر التي استغنت عن هذه المادة الضرورية بسبب لهيب الأسعار التي لم يعد يفهم سببها. خلال جولتنا صرح أحد باعة السمك بأن الدجاج له علاقة بارتفاع ثمن الأسماك وخاصة سمك السردين، هذا طرح غريب نوعا ما لكنه حقيقة يجهلها الكثير من المواطنين، فعكس المواطن المغربي الذي لا يتجاوز استهلاكه للسمك حوالي 10 كيلوغرامات للمواطن العادي، والكيلو غرام الواحد سنويا للفئات المحرومة أي ما يعادل 50 غراما يوميا، أصبحت الدواجن تتصدر لائحة مستهلكي السمك بالمغرب. فهي تحتاج في غذائها اليومي إلى السردين، الذي يتم تحويله إلى دقيق سمك يدخل في تركيبة أنواع علفية خاصة منها "السيكاليم". مادة دقيق السمك التي لا يعرف الكثير عن إنتاجها ويتطلب الكيلوغرام الواحد منها، خمس كيلوغرامات من السردين الذي كان في السابق يشكل وجبة أساسية لدى عموم المغاربة وسيما الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل، ولإنتاج كيلوغرام واحد من اللحوم البيضاء، تحتاج الدواجن إلى استهلاك خمس كيلوغرامات من دقيق السمك، أي حوالي 25 كيلو غراما من مادة السردين خاما، لإنتاج كيلوغرام واحد من اللحم. هذا البائع أكد أن هذا هو السبب المباشر لتفسير ارتفاع سومة هذا النوع من الأسماك الذي يصبح في بعض الأحيان عملة نادرة لا يمكن العثور عليها إلا معلبة، عندما توجه كميات هائلة من مادة السردين القابلة للاستهلاك البشري، نحو معامل دقيق السمك الذي يوجه لإنتاج الأعلاف الحيوانية. هذه الفكرة زكاها تاجر آخر بنفس السوق الذي أوضح أن معامل صناعة دقيق السمك رخص لها إنتاج هذه المواد بغرض تحويل أحشاء السمك ومخلفاته، بعد معالجته وإعداده للتصبير إلى دقيق سمك، إلا أن ما يجري هو استغلال هذه الثروة السمكية بشكل طائش وبمنطق الربح دون المبالاة بتضرر المستهلك والمساس بقدرته الشرائية، موضحا أن ما يزيد عن 80 في المائة من مادة السردين بالجنوب وخاصة بميناء طانطان الذي يعتبر أكبر مصدر لصيد السردين، يتم تحويلها إلى دقيق السمك. بخلاف تصريحات المواطنين والباعة للمؤسسات المعنية بالقطاع رأي آخر، فحسب آخر إحصائيات للمكتب الوطني للصيد, استحوذ حجم الاستهلاك الوطني للسمك على حصة تقارب 40 في المائة من إجمالي محصول الصيد خلال 2012. في ما ذهبت ثاني أكبر حصة، لقطاع تجميد السمك بحوالي 29 في المائة، في الوقت الذي حازت فيه صناعة دقيق وزيت السمك على نصيب يقل عن خمس كميات الصيد، مقابل 13 في المائة لقطاع التصبير. فأكبر كمية استهلاكية للأسماك، تم تسجيلها بميناء الداخلة الذي أسهم بنصيب يقدر بأزيد من 209 ألف طن، وهي الكمية التي مثلث أكثر من 48 في المائة من إجمالي الحجم التي توجه لتغذية الاستهلاك الوطني خلال السنة الماضية، والمقدر بنحو 433 ألف طن. أما أكبر حصة موجهة لعمليات التصبير، فقد سجلت بميناء العيون، حيث ساهم ب 83 ألف طن شكلت 56 في المائة من إجمالي الكميات المخصصة لهذا القطاع، وهو نفس الميناء الذي سجلت به أيضا أكبر حصة موجهة لصناعة دقيق وزيت السمك، وذلك بكمية تناهز 117 ألف طن، مثلث بدورها نسبة 56 في المائة من إجمالي الحجم المخصص لهذه الصناعة. نفس المصدر أكد أن الحجم الإجمالي لكميات الأسماك المفرغة بمختلف موانئ المملكة قد ارتفع مستواه إلى أزيد من مليون و116 ألف طن، وهو المحصول الذي سجل زيادة بنحو 22 في المائة على مستوى الكميات و2 في المائة فقط كنسبة نمو في العائدات مقارنة بالسنة قبل الماضية. سمك السردين الذي يشكل المنتوج البحرى الأكثر طلبا من لدن الأسر، أسهم بحوالي نصف مليون طن في إجمالي المحصول الوطني للصيد المسجل خلال سنة 2012، حيث أشار المكتب الوطني للصيد إلى أن مستوى صيد هذا المنتوج حقق زيادة بحصة الثلث على مستوى الكميات و48 في المائة من حيث المداخيل المالية. منتوجات سمكية أخرى لا تقل إقبالا وأهمية في إعداد الأطباق الغذائية للأسر من قبيل الميرلان والباجو والصول شهدت بدورها تحسنا في محاصيل الصيد بمختلف موانئ المملكة، حيث سجلت هي أيضا ارتفاعا في الحجم وكذا العائدات بنسب تراوحت بين 24 و50 في المائة. إحصائيات المكتب الوطني للصيد، أشارت بالمقابل إلى أن كميات صيد منتوج الأخطبوط، وإن سجلت زيادة بنسبة 34 في المائة، فقد تراجعت عائداته المالية خلال السنة الماضية بحصة 14 في المائة، وهو المنحى الذي ذهب في اتجاهه محصول سمك الكلمار بعدما تقلصت كمياته بنحو 20 في المائة مقارنة بالسنة قبل الماضية، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة المداخيل المالية لهذا المحصول بنسبة 8 في المئة. وبين الأرقام الرسمية والواقع, هناك تراجع ملحوظ بالنسبة لاستهلاك السمك بالمغرب، حيث لم تعد القدرة الشرائية للمواطن قادرة على مجاراة لهيب الأسعار في ظل غياب المراقبة وجشع المضاربين.