هل تناسبني ربطة العنق هاته؟ سأل وهو يعدل ياقة قميصه البنفسجي. مناسبة. أجابت باقتضاب، وهي تعيد السؤال داخلها: هل تناسبني ربطة العمر معك؟ نظرت إليه نظرة نصفها عتاب ونصفها اتهام، وجالت ببصرها في غرفة الماضي تبحث عن بقايا صور وأصوات تنعش ذاكرتها المهترئة من فرط الروتين. بلى، لقد تغيرت أشياء كثيرة في غفلة مني ومنك. أنت تضخمين الأشياء كالعادة، علق بكامل الوثوق. لم تجب. كانت تعلم في قرارة نفسها أنه هو نفسه لا يصدق هذه التبريرات، وأنه يختبئ وراء سنة الحياة والضغط والمشاغل اليومية وفاتورة الماء والكهرباء. كانت ترى نظراته الهاربة كلما التقت عيناهما كمن يخاف أن يضبط متلبسا بانتحال صفة عاشق لم تخب جمرة قلبه منذ اشتعلت ذات صباح. انت كاتنفخ في الجمر وهو طافي . بلا ما تكذب على راسك. لماذا تبالغين، ما الذي تغير فيّ؟ أخبريني. ما الذي تغير فيك؟ لقد تغيرت كلك. خيالك المريض ما يصور لك ذلك، ما زلت أحبك بنفس القدر وربما أكثر. لا أحتاج الى اعتراف، بل أحتاج الى إحساس بهذا الحب. علقت بحدة كي تنهي هذا الحديث. لم تكن مستعدة لنقاش بيزنطي جديد لن تخرج منه إلا بمزيد من الخسارات تضعها الى جانب خيباتها السابقة ليظهر هو بمظهر المنتصر البطل، الممسك بدفة السفينة كي لا تغرق. هي تدرك أنه خاسر أيضا بمنطق الحروب والحسابات لأنه هدم كل القلاع والحصون التي بنتها قبل أن تختار الانحياز الى معسكره، وتدرك كذلك أنهما معا خسرا في الجولة الاخيرة من المعركة، لكنها ما زالت تحلم بشوط إضافي قد تسجل فيه هدفها الذهبي فتعود الى دوري البطولة. صراحتها، أو صفاقتها كما يسميها هو، هي سبب مشاكلها وهواجسها وحروبها الداخلية التي تبدأ كما باقي الحروب لكنها لا تحط أوزارها . هل قدرها أن تقتل الإنسان داخلها وتتدجن مثل باقي القطيع... مثل أمها وجدتها وأختها وجارتها وتقبل بفتات العاطفة الزائد عن الحاجة ، أم ترفض الانصياع لأحكام الشرع والشارع؟ تذكرت دفاعها المستميت عن الحرية والمساواة ضد سلطة أبيها أولا قبل أن تكتشف أنه مجرد «شاوش» في معتقل السلطة الكبير الذي تمتد جدرانه من البيت الى الشارع الى مقر العمل ثم الى البيت ثانية في دورة كاملة تحكم قبضتها على إرادتها فتحس بالاختناق يوما بعد يوم. هل أنا حرة فعلا، وهل فعلت كل ما أريد؟، تساءلت قبل أن تستدرك: هل الحرية هي أن أفعل ما أريد، أم ألا أفعل ما لا أريد؟ منذ سنوات وهي تفعل ما لا تريد، ويؤلمها أكثر إدراكها لهذه الحقيقة وإحساسها بالعبودية والاستسلام. لم تخف إحساسها هذا يوما وكثيرا ما صارحته به، لكنه كان يرفض التصديق لأنه كما يقول يحبها وهذا كاف كي تحس بالأمان، أما هي فكانت تبحث عن هذا الحب داخلها فلا تجده ولهذا اعتادت أن تقدم له جسدها البارد فقط دليلا على الضياع. أيقظها صوته القادم من غرفة النوم من جديد: سأغير ربطة العنق هاته، بل سأغير البذلة بكاملها . التغيير أحيانا يكون هو الحل، لكن متى؟ أجابت في قرارة نفسها.