الناس، لكثرة حنقهم وغضبهم بسبب كل الفضائح التي نكتب عنها يوميا دون أن يروا أن ما نكتبه تتبعه تحقيقات واعتقالات في حق الذين يثبت تورطهم في اختلاس المال العام، أصبحوا يتساءلون عن الجدوى من وراء ما نكتبه. «لمن تعاود زابورك أداود». هذا ما يقولونه في جلساتهم داخل المقاهي وفي مقرات العمل وفي البيوت. الناس يعتقدون أننا، كصحافيين، مطالبون بالقيام بواجبنا في مراقبة طرق صرف المال العام، وفوق ذلك يطلبون منا أن نمارس سلطة الشرطة القضائية. وهذا طبعا غير ممكن، لأن سلطة الصحافي تنتهي عند حدود النشر. أما فتح التحقيقات والمتابعات والاعتقالات فتلك أمور تدخل في اختصاص سلط أخرى يجب أن تظل مستقلة عن سلطة الصحافي. السؤال الذي يؤرق الناس هو لمن نكتب، وما جدوى أن نكتب إذا لم يكن هناك تكامل بين سلطة الصحافة والسلطة التنفيذية التي بيدها إعمال القوانين وتفعيل قوتها. وبما أنني أحد الذين يواظبون على الكتابة يوميا منذ أكثر من ست سنوات، فإنني أتلقى بشكل مستمر عنف هذا السؤال. بعضهم يقول لي ناصحا أن أترك المغرب وألتحق بهم في كندا لكي أعيش في المجتمع الذي أحلم به كل يوم. فهنا اللصوص ينتهون في السجون، والمال العام مقدس وكل من يغامر بوضع يده في جيوب المواطنين يقطعونها له بالقانون. آخرون يقولون، بيقين العارفين، إن الأمور كانت دائما هكذا في المغرب ولن تتغير مادام الناس مصرين على الوفاء لعاداتهم السيئة وأمراضهم الاجتماعية الخبيثة. ولذلك فكثيرون يسألون حائرين لمن نكتب، ولماذا نكتب كل صباح. البعض يعتبرنا مواطنين صالحين يهتمون بمشاكل أشباههم من المواطنين، وآخرون يعتبروننا خطرا عموميا، وسببا من أسباب مشاعر العدمية واليأس التي بدأت علاماتها تظهر على وجوه المواطنين وسلوكياتهم. لذلك فمن المفيد التذكير بملامح وأنواع المواطنين الذين نتوجه إليهم كل صباح بكتاباتنا، والتذكير أيضا بملامح الذين لا نتوجه إليهم ولا يعنينا أن يقرؤوا ما نكتبه كل صباح. الذين ينامون بلا مشاكل ولا يحتاجون وساطة الحبوب المنومة وملاعق المحاليل الصيدلية. الذين لا يحلمون بالكوابيس ولا توقظهم ساعة المنبه إلا بمشقة بالغة. الذين لا تهتز شعرة واحدة في رؤوسهم كلما اهتز مكان ما من العالم. الذين يبتسمون كلما شاهدوا نشرة أخبار فيها الكثير من الجثث والجرحى، الذين لا يمارسون أي نوع من الرياضات ومع ذلك تجد أعصابهم فولاذية كأعصاب المصارعين اليونانيين. الذين يعتنون بأسنانهم جيدا كل صباح، لأنهم يحتاجونها كاملة وناصعة في كل ابتسامة صفراء. الذين يملكون لكل كتاب النظارات المناسبة، ولكل لقاء جماهيري ربطة العنق والابتسامة الملائمتين والتدخل غير الملائم تماما. الذين يقدمون التعازي دائما لأنهم لا يموتون أبدا، والذين يواظبون دائما على حضور حفلات التأبين لأنهم يتلذذون بتعداد مناقب الموتى، لأن هذا يطمئنهم بأن الشرور من نصيبهم ولا يزاحمهم عليها أحد. الذين يملكون أكثر من موقف في قضية واحدة، والذين من فرط تغييرهم لمعاطفهم أصبح لديهم دولاب كبير من المعاطف الحزبية، ومن فرط تغييرهم لجلودهم انتهوا عراة بالكامل. الذين يجلسون دائما في الصفوف الأمامية والذين تلتقطهم عدسات المصورين دائما آخذين في التفكير مثل تماثيل الحكماء في المتاحف اليونانية. الذين يعطون التصريحات في كل مناسبة بأثمان معقولة، ويشرحون الأمور دائما بسبابات مرفوعة في الهواء وحواجب مبعثرة. الذين يبرمجون دائما أوقاتهم نكاية في أوقات الآخرين، ويبنون شهرتهم فوق أنقاض المتواضعين الذين اختاروا فضيلة الصمت. الذين يملكون ما يكفيهم لكي يعيشوا حتى آخر يوم قذر من أعمارهم الطويلة، ومع ذلك يبحثون لكي ينغصوا على الآخرين عيشتهم النظيفة والقصيرة. الذين يتجولون بين كل التيارات بأفكار متخمة وقناعات مصطنعة، والذين لا يملكون غير حقارتهم يدافعون عنها في كل مناسبة، ولا يضيعون في دفاعهم المستميت هذا غير القليل من وضاعتهم. الذين ليست لهم مياه في وجوههم يحرصون عليها وليست لهم ذمم يخافون على طهارتها. الذين لا يتعهدون أي نباتات في شرفات بيوتهم ولا يربون أي حيوان أليف في بيوتهم، لأن أزهار الشر التي تنمو في دواخلهم والحيوانات الضارية التي تتزاحم داخل أقفاصهم الصدرية تأخذ منهم كل وقتهم الثمين. الذين لا يذهبون إلى البحر مخافة أن تبتل مواقفهم الوسخة، والذين لم يكملوا تعليمهم إلى المستوى الذي يجعلهم قادرين على تركيب كلمة «وطن»، والذين بسبب ذلك بعثروا الحروف بلا رحمة، فأصبح الوطن بسببهم عسيرا على النطق والعيش. الذين يدافعون عن قضايا المرأة برجولية نادرة في الخارج وينددون بأعداء الأمة في الداخل بصوت خفيض وبنبرات أنثوية للغاية. الذين لا يعلقون المرايا داخل بيوتهم مخافة أن تلتقي نظراتهم بوجوههم المخيفة فتفزعهم. الذين لم يحاربوا عدوا في حياتهم ولم يحرروا وطنا ولم يشاهدوا سلاحا طوال عمرهم غير بنادق الصيد المعلقة على حيطان بيوتهم الفسيحة، ومع ذلك يستطيعون أن يحكوا عن الحرب أكثر مما يستطيع المقاومون الحقيقيون أن يفعلوا. أولئك المقاومون الشرفاء الذين ماتوا دون أن يغيروا نوع تبغهم ولا موجتهم الإذاعية ولا ماركة شايهم الرخيص. الذين لا حول لهم ولا قوة كلما تعلق الأمر بمصير الشعب في الشوارع والساحات، والذين يتحولون إلى وحوش كاسرة في القاعات المكيفة وأمام ميكروفونات الجرائد المأجورة. الذين ما إن تحتك بأحدهم في الشارع حتى يستعرض أمامك لائحة طويلة بأسماء معارفه في الوزارات والدواوين. الذين يسكنون داخل المغرب عوض أن يسكن المغرب داخلهم. هؤلاء لا نكتب لهم ولا يعنينا رأيهم في ما نكتبه كل صباح. نكتب للذين لا ينامون إلا بعد أن يمر شريط طويل بأحداث يومهم أمام أعينهم، شريط بطيء وقاس يمر أمامهم فيصيبهم بالأرق ولا يركبون سفينة النوم إلا بعد أن يكونوا قد فاوضوا طويلا كوابيسهم المخيفة. نكتب للذين ينامون بلا حراك وبصوت مطبق، بحيث لا تستطيع أن تميز بينهم وبين الجثث في مستودعات الموتى، رغم أن أعماقهم يقظة أبدا. نكتب للذين تفزعهم ضربات قلوبهم كلما اضطجعوا على الجانب الأيسر، والذين يستفيقون قبل ضربات ساعة المنبه بساعات. نكتب للذين كلما نشبت حرب ما في مكان ما من العالم أحسوا بالذنب بسبب أيديهم المسدلة مثل أيدي الجبناء. نكتب للذين يكرهون ابتسامات المذيعات البلهاء وهن يحصين أعداد القتلى والجرحى في انتفاضة ما من هذا الوطن العربي الجريح. نكتب للذين يمارسون رياضة الركض وراء الأوهام بلا توقف. نكتب للذين أعصابهم متلفة دائما مثل لعب الأطفال وأسنانهم في تساقط مستمر. نكتب للذين يملكون نظارة طبية واحدة تصلح لقراءة كل الكتب وتصلح لرؤية كل المواقع. نكتب للذين أعمارهم قصيرة مثل جبل الكذب ومواقفهم راسخة مثل الوشم على سواعد الريفيات. نكتب للذين يملكون معطفا واحدا يستعملونه في كل الفصول وربطة عنق واحدة تذكرهم دائما بحبل المشنقة. نكتب للذين خلقوا بجلد واحد لم يغيره شيء سوى شمس غشت على شواطئ البحر. نكتب للذين يجلسون في الصفوف الخلفية دائما بحيث تعفيهم آلات التصوير والكاميرات من أضوائها الكاشفة، وفي المساء يعودون إلى بيوتهم بأيديهم في جيوبهم رفقة ظلالهم فقط. نكتب للذين لم يقدموا أبدا تصريحا حول قضية ولم يرفعوا سبابتهم يوما لطلب شيء سوى أمام زحام المحلات التجارية لطلب حليب الرضاعة لأطفالهم. نكتب للذين لا يشيدون شهرتهم فوق أنقاض أحد ولم يشيدوا في حياتهم شيئا آخر غير قصور الرمال خلال لحظات شرودهم الطويلة. نكتب للذين تنظر إليهم فتخيفك الصفرة التي على وجوههم ونحول أجسادهم، والذين إذا تكلموا تركوك بفم مفتوح من الدهشة ومضوا برؤوس منحسرة إلى الظل. نكتب للذين يعيشون في وحدة قاسية ومع ذلك لا يستطيعون الحديث عن الغربة، لأن هناك من يعيش في ألفة دافئة ويستطيع أن يتحدث عن الغربة أحسن منهم بعد أن يستعيروا ألم الآخرين. نكتب للذين تحتقرهم موظفات الاستقبال في الإدارات الفخمة، والذين يشكك الباعة في المحلات الراقية في طلباتهم مخافة ألا يكون معهم ما يكفي لتسديد أثمان مشترياتهم. نكتب للذين لا يحتاجون أوراق هوية تثبت انتماءهم إلى هذا الوطن، لأن عيونهم تفضح عشقهم المخيف له. نكتب للذين تخذلهم عفويتهم أمام أبواب السفارات، الذين يخجلون من أنفسهم عندما لا يجدون في جيوبهم ثمن البوربوار فيتركون النقود فوق الطاولة ويغادرون خلسة مخافة أن تلتقي نظراتهم بنظرات النادل. نكتب للذين يقفون أمام المستشفيات العمومية متأبطين الصور الإشعاعية لصدور آبائهم المخنوقة والملطخة بالألم. نكتب للذين لا يملكون ما يسددون به ثمن التحاليل الباهظة، والذين يملكون بالمقابل ما يكفي من دموع تحت الأغطية عندما ينصرف الجميع إلى النوم. نكتب للذين يرتبكون عندما يسعلون في مقصورة القطار مخافة أن يكتشف الآخرون أن مكانهم الطبيعي يوجد فوق سرير أبيض في مستشفى الأمراض الصدرية وليس فوق مقعد في مقصورة قطار. هؤلاء يهمنا رأيهم كثيرا، لأنهم المعنيون بما نكتبه كل صباح.