«إنني ذاهب لأرقص!.. إنني ذاهب لأرقص»!.. هكذا كان محمد علي كلاي يرتفع أعلى قليلا من الحلبة كي يصير الموت أكثر احتمالا. كان يطير كالفراشة ويلسع كالنحلة.. وأنا أزعم بأنني رأيته واقفا تحت ضوء قليل في منتصف السبعينيات. لم يكن وقتذاك زنجيا، ولم ينتم بعد إلى جماعة «أمة الإسلام»، ولم يصبح رمزا لحركة مناهضي حرب فييتنام. كان شابا أبيض في العشرين من عمره، يتفرج على مباراة في الملاكمة بإحدى دور الشباب بمدينة الدارالبيضاء. كنت جالسا على مقربة منه، وكان الملاكم الضخم الذي أمامنا يصيح بصوت أجش: «أنا الأقوى».. يضرب الحائط بكل ما أوتي من قوة في ذراعيه، ويزمجر بالقدر الكافي ليرعب الجميع. كان يتحرك إلى الخلف ويسدد قذائفه نحو الهواء. «أنا الرجل الوحيد في هذا المكان، كلكم نساء». نهض الشاب من مقعده، وخاطب الجبل اللحمي الذي أمامنا: «أنا سألاكمك». كنا مأخوذين بالمفاجأة والشفقة عليه، ولا بد أن البعض منا فكر أن ما ينتظره على الأقل هو غرفة العمليات لإصلاح فك مكسور أو لعلاج ارتجاج في المخ. خرج الشاب من قاعة الملاكمة، وظل الجميع يترقب عودته مترعا بالحيرة، ولا بد أن البعض منا فكر أيضا في أنه هرب. مرت دقائق، وانفتح الباب الأشد فداحة على مصراعيه: كان الشاب ملاكما جذابا ولافتا للنظر.. وبدأ يتحرك برشاقة على الحلبة. لقد كان لتناسق جسمه وقدرته على الحركة السريعة ومهارته في تسديد اللكمات وقع كبير علينا، ولم نكن بحاجة قصوى إلى لغة لنغدق عليه اسم «كلاي»، ولا إلى فطنة لندرك أن الملاكم الأخرق الذي تحدى الجميع وضع نفسه في مأزق في هذا النزال الوشيك. كان «كلاي» يدرك تماما ما يفعل، وبدا واثقا من نفسه وهو يشن هجوما عنيفا ومتكررا على كتلة اللحم التي بدت كجراب رمل تحت السيطرة التامة. ظل لجولتين يسدد ضربات خاطفة ومبرحة إلى خاصرتي خصمه جعلته ينكمش من الألم ويتعثر في حركته وقد تدلت يداه، وما إن أوشكت الجولة الثانية على الانتهاء حتى عالجه بضربات عالية وساحقة بيمناه أدت إلى انكفائه إلى الأمام وسقوطه بدون حراك على أرضية الحلبة كما لو كان كيسا ضخما من البطاطا. وانتهت المباراة بأن رمى الشاب قفازتيه إلى المشجعين، وحدث أن سقطت قفازة «كلاي» على رأسي.. فاشتبكت، منذ ذلك الحين، تلك الذكرى بثدي امرأة سوداء تدعى أوديسا.. وبالمعنى الأسود الذي بدأ يبحث عن موطء قدم على خط الاستواء. لم يكن محمد علي كلاي مجرد حالة زنجية تحارب كثيرا كي لا تكون جديرة بمقبرة، بل كان ثمرة غامضة لمعركة مقاومة الرق وإلغاء الفصل العنصري، وارتدادا أخلاقيا لحرب أدرك مبكرا أنها ليست حربه. تلك حكايتنا نحن أيضا.. نشحد أجسادنا بالقوة يوميا كي نعود إلى أكواخنا سالميين، نهرب إلى الشمس، نرتدي وجعنا القديم ونتدرب لساعات على تحمل الضربات. كان هناك دائما من يوسعنا ضربا.. المجرمون والشواذ ورجال الشرطة.. والحرب التي نشعر كأنها حصاة في حذاء. كلنا كان «كلاي» على نحو ما: لقد كان كلاي هزيلا قليل المهارة، وكذلك كنت. وتعلم الملاكمة لأنه أراد أن يلقن سارق دراجته درساً.. وكذلك فعلت، ودخلت في عراك مفتوح لم ينته إلى حد اليوم، وامتلأ جسدي بالخدوش والجروح والكدمات.. وما انحنيت. كلاي مرتفع و»العالي لا ينحني».. ومن هذا الشيء المألوف الذي اسمه «أوكسيد الظلم».. عرف المدرب جو مارتن كيف يصنع أسطورة « الأعظم الذي لا يقهر». لم يكن ثمة مكان للمواء المتقطع في الظلام.. وكان «كلاي» يتدرب لساعات طويلة.. وعند بلوغه الثامنة عشرة، كان الشاب القادم من الجنوب الأمريكي المعزول سريعا بالقدر الذي يكفي ليكون الأمهر في أولمبياد 1960، حيث مكنه أسلوبه الطائر وغير المسبوق من إلقاء البطل البولندي بيترزوفسكي على الحبال خائر النفس.. وهكذا بدأت الحكاية قبل أن أولد بأكثر من عقد. ولد البطل وأنا لم أهتز أو أصرخ بعد في إرغام الولادة.. ومع ذلك، أتصور أن حربنا كانت مشتركة. هو يحارب الحرب، وأنا أحارب الكلمات؛ هو يرتفع في منتصف الصورة، وأنا أرتفع في القصيدة؛ هو يزور حي هارلم بنيويورك ويتلقى الدعم من «مجموعة لويس فيل الراعية» وأنا أزور سوق العفاريت بالدارالبيضاء وأتلقى الدعم من الجرذان والصراصير والقمل. وصار كلاي يقطف الانتصار تلو الانتصار، وبدأ منسوب شهرته يرتفع في أوربا وانجلترا.. إلى أن وقع لقاؤه المفصلي بالزعيمين « إليجا محمد» و»مالكوم إكس».. فاعتنق الإسلام وغير اسمه من «كاسيوس مارسيليوس» إلى «محمد علي» ليتدفق عليه التوبيخ والإهانات، واتهمته وسائل الإعلام بالخيانة. لقد كان محمد علي عنيدا بلا هوادة، ومن هؤلاء الرجال الذين يستحوذون على الوجدان بسهولة، بفكرته الواضحة تماما: «لماذا يطلبون مني أن أرتدي زيا عسكريا وأذهب بعيدا عن الوطن عشرة آلاف ميل وأقوم بإسقاط القنابل والرصاص على شعب ملون، بينما يعامل الناس الملقبون بالزنوج في لويس فيل معاملة الكلاب؟». كان كلاي يريد أن يعيش بما يراه صوابا بدل أن يتحيز للأذى المتعمد لشعب فييتنام، والثمن كان هو وقوع أقصى عقوبة عليه: 5 سنوات سجنا وغرامة عشرة آلاف دور، ثم أطلق سراحه وسحب منه جواز سفره، كما سحبت منه الجمعية الدولية للملاكمة بطولة الوزن الثقيل. ولم تستطع العقوبة «البيضاء» أن تطفئ لمعان كلاي الذي كان بحجم سماء صيفية، حيث التف حوله الشباب الذين كان يعتقدون أن أمريكا في حاجة إلى الخروج من حرب فييتنام، وأنه يتعين عليها أن تجد حلا أخلاقيا وسياسيا لجدار الفصل العنصري. بدأ علي يغرد خارج نطاقه، أي خارج الملاكمة؛ فظهر في دجنبر 1969 في إحدى المسرحيات في برودواي، وكان أداؤه جيدا، فأدرك مروجو المباريات أنه ورقة رابحة ما دام يعتبر، الآن، رمزا لتحدي بنية السلطة الأمريكية.. لهذا حتى وهو ينهزم أمام جو فرايزر أو كين نورتون لم يتوقف المشجعون عن الاستمرار في تعظيم الأسطورة، وفي تدعيمها على نحو كامل بالتأييد الفرح والغامض.. كلاي لم يكن ملاكما وحسب، بل كان لونا وعقيدة و»طفلا يكبر وهو يلهو على الحلبة وتحت الأضواء».. وكذلك كنا، أطفالا نلهو داخل المنفاخ الذي نسميه حياة، نصنع أسطورتنا الخاصة بالذهاب على نحو مبكر إلى «سوق شطيبة» يلبدار البيضاء، لنمارس الملاكمة في إحدى «حلقات الفرجة» التي يزدحم بها المكان. كل واحد منا يريد أن يكون «كلاي»: أن يطير كالفراشة ويلسع كالنحلة، أن يرقص وهو يسدد نظرات ثاقبة إلى خصمه، أن يحول الحلبة إلى غابة وأن يكون هو سيد ضواريها.. وها هو جسد فورمان الوقح يتحول إلى جراب للتدريب معلق في الهواء الطلق. كان كلاي يحمل شيئا في يده اليمنى:جرة من الخزف الأخضر بدأ يسكب ماءها على رأسي، بينما كان بريق حاد يملأ عيني. لساني شبه متحجر، ولا أقوى على فعل شيء غير التطلع إلى الوجوه الكالحة من حولي. كنت فقط أشعر بصرخة صامتة تجوب أنحاء جسمي بارتياح تام. كنتُ البطل الذي تلقى قفازة على الوجه، وكنتُ البطل المغطى باهتزاز أجوف، والغارق في بركة مياه، وكنت البطل الذي يتسع لأكثر من هزيمة.. وظل كلاي، رغم الرعاش والمرض والبطء المعتاد، أعظم رياضي في القرن العشرين على وجه الإطلاق.