يطالعنا الشاعر الفلسطيني أسامة الحسن « أسامة نصار « بمجموعة شعرية ثانية له تحت عنوان « فارس على صهوة العشق « تحمل في طياتها ما جادت به قريحته الشعرية من نصوص متعددة الأشكال والمضامين ، حيث تحفل مجموعته بالعشق وذكريات الطفولة ، تفجر أحاسيس الشاعر ونبض كلماته المباشرة التي تخرج من صدره المعذب بالعشق والانتظار حيث يحاكي الواقع المعاش، ويلامس همومه وعذاباته اليومية كانسان وكشعب على حدّ سواء ، حيث الذاكرة الجماعية والهّم الجمعي الذي يؤرق الشاعر ويجعله رهين الهّم والوجع والتشظي . يخاطب الحسن معشوقته في قصيدة « فارس على صهوة العشق « والتي حملت عنوان المجموعة معشوقته : « ربيع عشق وأغصان ثمر بساتين في الوفاء شجر رجل يهوى على صهوة الحروف السفر أتوسد الغمام لينهمر عشق مطر « ص 28 هي إذن ، الطيبة الآسرة الجمال ، هي الإشراقة وانسياب العشق من بين يدي الشاعر، وهي تتفوَّقُ على البلابل السَّكرى حيث يسافر بنا الشاعر أسامة الحسن بجزيرة الجمال والعشق التي يتربع على عرشها مليكا ليُشركنا معه في بوحه ونبْضه. وهنا فالشاعر مسكون بسحر محبوبته دون غيرها من بنات التراب، سواء كانت المرأة أو الوطن أو حكايات عشقه التي لا تنتهي فصولها ، تأسرنا اللغة الشعرية بانسيابيتها، فنلهث وراء أشعاره لسبْر أغوارها ولارتشاف لذَّتها ، ونحتاج بطبيعة الحال لقراءة واعية وعميقة لنستطيع الإمساك بالمعنى الثَّاوي في كل مقطع شعري ، ولنحتفي بدورنا برُقِي اللغة الشعرية التي ارتقى بها الشاعر في مدارج كلماته المحلقة في سماء الوجد والسناء كأنها نجومٌ دانية ، فنجد أن لغته الشعرية تَنْهض على الوصف والتكرار والاشتقاق، وغيرها من الأساليب التي تدل على شاعر متمكن ، يمتلك أدواته الإبداعية والإيقاعية ويمتلك مخزونا لغويا متميزا على كل حال . ولعلّ الأسلوب الغالب الذي لجأ إليه الشاعر أسامة الحسن في قصائد المجموعة هو الكتابة الوجدانية التي تعبر عن معاناة وشوق للأحبة وافتقاد للفرح والأمان الذي ينشده في ظل انشغالات وتشظيات الحياة وقسوتها والوقوف على أطلال الماضي في محاولة لمعايشة حلم أو لحظات فرح شاردة ، وكذلك التغنّي بحب الوطن والتصريح بهذا الحب بالتصوير اللغوي والصوتي ، والذي يسميه الناقد د.محمد محمود رحومة بالشعر الجماهيري ، فنجد الشاعر قد اتّخذ من الصوت أداة تعبيرية استقاها من فنون الأداء المسرحي وهو بحق يتبع الشعراء الأوائل لأنهم جميعاً كانوا يُلقون قصائدهم على المتلقين ، والمتلقون ينصتون لهذه القصائد فتعِيَها آذانهم الصاغية استعداداً لروايتها في ما بعد لتصبح جزءاً لا يتجزأ من التراث الشعري المنقول سماعاً عن الشعراء ، وفي هذا الإطار فقد وجدت العديد من القصائد المسجلة بصوت الشاعر والمنشورة على بعض المواقع والتي تقربنا أكثر من نبض الشاعر أكثر بكثير من مجرد القراءة العادية للنص الشعري . يطرح أسامة الحسن في قصيدته « من أين أنا « أسئلة مؤلمة ومسكونة بالوجع ومستفزة : « تسألونني من أين أنا أنا من وطن بلا سيادة وابن لشعب مسلوب الإرادة يحارب الظلم بلا هوادة « ص 79 ورغم المباشرة في ما يطرح ، فإن كلماته تصل بصدقها الفني والتعبيري وبشغفها إلى قلب القارئ / المتلقي ، ويضيف : « لقد سئمنا خطبكم الارتجالية وتاهت في سماء عقولنا المعاني وعلى حسابنا تزف التهاني ونعيش في عالم الأحلام والأماني « ص 80 الشعر يختلف بوهجه ورؤاه ويختلف بأطروحاته اللغوية والنفسية ، وإن كنت رافضاً للعديد من أساليب الشعر المباشرة التي لا تراعي خصوصية الشعر وأحياناً رمزيته وشفافية كلماته ، إلا أنني أيضا ضد كل هذه الطقوس والعادات والضرورات التي يحاول إتباعها بعض الشعراء والتي تؤثر على مستوى النص والإيقاع الشعري ، والاهتمام بما تفرضه ملامح المدارس الشعرية السائدة ، لنأخذ مثالا بسيطا : في الشعر لا يمكن أن تقول لمحبوبتك احبك هكذا ببساطة ولكن يجب أن ترسم صورة فنية تشاركك فيها « النجوم بالرقص والقمر بالعزف والشمس بالدف وأنت تغني باسمها « . وإذا أردنا أن نحكم على أي نص شعري أو على جودة الشعر كشعر ومدى حداثيته، فلا بد من قراءة معمقة للنص الشعري كما نحاول مع مجموعة الشاعر أسامة الحسن " فارسٌ على صهوة العشق " رغم المباشرة التي يبشر بها هذا العنوان ، ومفهوم الحداثة كما يراها د. إبراهيم خليل " مفهوم يخضع لاعتبارات عدة ، فبعضهم يرى الحداثة في الجانب المعرفي للأدب ، شعرا ونثرا وبعضهم يرى الحداثة في الجانب الشكلي ، فيعد الخروج على البنية العروضية التقليدية وحده ضربًا من الحداثة ، فيما ينكر الآخرون ذلك ، وبعضهم يرى الحداثة في الانفتاح على الآخر، فالتأثر بالشعر الغربي ضرب من الحداثة لا يستطاع إنكاره ". وقد تغدو الحداثة لدى بعض الناس عذرا يسوغون به الركاكة ، والإسفاف، والغموض ، الذي يحيل القصيدة لبناء مغلق لا يستطيع القارئ التواصل معه ، فيقال: هذه هي الحداثة ؛ ألا تستطيع فهم ما تقرأ، أما إذا كنت قادرًا على فهمه ، فذلك لأنه يخلو من الحداثة، ولأنه تقليدي ، وكلاسيكي إلخ. ومن هنا وعلى الرغم مما تتسم به الآراء النقدية من تطرف في هذا السياق وتباين في وجهات نظر هذه المدرسة أو تلك ، إلا أنها بنيت على إدراك عقلاني متزن لما ينبغي أن يكون عليه الشاعر الحديث ، وهو أن يتشرب روح العصر دون الانسلاخ عن النسوغ التي يرتوي منها التراث الثقافي ، والأدبي، والمعرفي ككل . يحاول الشاعر الحفاظ على خصوصية جملته الشعرية ، له أبجديته الخاصة في عملية البناء والتراكيب اللغوية ، وأنه يتقن اختزال النص ويعمل جاهداً للحفاظ على صدق فكرته وتطوير الحدث بأسلوبه البسيط المحبب والجذاب حيث يختزل العادي من الكلام في " حكاية زمن " زمن الغدر والهزائم والأهوال ويصدم المتلقي بالحقيقة ، كما هي : " هي طفلة في بلد عربي ما ذنبها زمن وما ذنب ابتسام وحسام وعمر وحسن أطفال بعمر الورد سطروا بجراحهم آهات وطن ... " ص 86 الشاعر هنا يكتب عن واقع معاش والدماء تنزف والحصار يضرب المكان والزمان في تراجيديا وجودية ونزيفٍ يملأ الأرجاء في مشاهد دامية مشهودة في فلسطينالمحتلة وفي بلاد " الربيع العربي " النازفة من الوريد إلى الوريد : " تاهوا في فيافي القدر بين بزوغ الفجر واكتمال القمر وتساءلوا ممن ينتقمون !! ... " ص 89 نجد الشاعر أسامة الحسن وقد قام بعملية تنويع محببة بأساليب الكتابة الشعرية، فجمع بين قصيدة " النثر " وقصيدة " التفعيلة " وأجرى جداول كلماته في نهر الشعر بلا رتوش وبلا محاولات للمزيد من التزويق وافتعال الحالة اللغوية ، فنراه مختلفا في قصيدة " حلمي المنتظر " وهو يناجي محبوبته : " هاتي من نبع عشقك القوافي ومن حنينك سيل زخات المطر وبوحي بما لديك من الخوافي واهجري الصمت وأهات السهر وأثبتي لكل الكون خطيئة النوافي ..." ص 57 ويمضي في قصيدة " أهيم بك عشقا " في انسياب شعري غزلي يعمق قيم وطهارة الحّب حيث يناجي الشاعر " محبوبته " : " ضعي يديك عليّ واقتربي واسمعي صدي همسي واقرئي عليّ آيات تحفظني من نفسي يا سيدة كتبت تواريخي ويومي وأمسي ... " ص 25 وقد استطاع الشاعر أن يوظف التراث والرموز، وأن يستند إلى التاريخ ومحطات مضيئة في التاريخ وقد استعار بعض الأقنعة والأسماء وأبحر إلى ما خلف كل اسم من هذه الأسماء. ودون أدنى شك، فإن الحسن يمتلك أدوات شعرية متكاملة تؤهلُهُ لدخول منطقة الشعر المضيئة ، يتنفس الإبداع تحت ضوء شمس الإبداع الحقيقي بكلماته المُرهفة المقدودة من جمرها الذاتي المشحون بالعاطفة الإنسانية وما يقارب من مشكلات الواقع المأزوم، متنقلاً بين بساتين الكلام والحبّ والجمال والصمود والمواجهة وشحن الهمم في مواجهة قسوة ووحشية المرحلة وتجلياتها ومل يقوم به الاحتلال من محاول لمحو وطمس الذاكرة والهوية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني . يتعامل شاعرنا مع ثنائيات الطبيعة باتزان إنساني ملحوظ فهو يتصّدى للموت والقتل بالحياة والسلام والمقاومة لأعدائها ، وللكراهية بالحب ، وللعتمةِ بالضوء، وللهروب بالثبات والمواجهة والإصرار على الحياة وزراعة الأمل بالغد المشرق . يلاحظ أن الشاعر له قدرات مدهشة في التعبير عن دواخله بحيث يصور الحب وكأنه نورس يحلق في الفضاءات والسواحل وهو يعبر بصدق عن شعوره عند لقاء المحبوب ويقارب نصه الشعري ضمن حالة وجدانية رائعة وشجون ، واستطاع أن يكسر قاعدة التقليدية والرتابة في الكتابة وهو يجوس بنا في خلال آفاق رحيبة من العشق والهوى العذري في عالم القصيدة بلا حدود، وبأدوات شعرية مفعمة بالصدق والفّن وإرادة الحياة. بقي أن أقول بأن الشاعر أسامة الحسن « أسامة نصار « شاعر جاد ويحاول أن يحفر اسمه بإبداعية عالية على صخرة الشعر ، وإن كنا قد استعرضنا ووقفنا أمام مجموعته الشعرية اليوم فإننا ننتظر منه المزيد من التألق والتحليق في فضاءات الشعر ليكون لنا موعد مع تجربة شعرية متفردة له مستقبلاً. * شاعر وناقد فلسطيني