تنطلق امتحانات الباكالوريا بالمغرب بدايةَ شهر رمضان، في جو نفسي مشحون، خاصة عندما اقترحت الحكومة اتخاذ إجراءات تصل إلى حد سجن التلامذة بسبب الغش. وهي حملة –لا شك- سيكون له تأثير معنوي على نفسية الممتحنين والممتحنات وأسرهم التي أضحت تخشى أن يعتقل أبناؤها وبناتها، والذين شيطنتهم الآلة الإعلامية الموالية للحكومة وصورته كمجرمين وغشاشين . كان أحرى بالحكومة -وهي التي اعترفت بأنها لم تستطع ضبط الغشاشين الكبار الذين سربوا امتحانات السنة الماضية، والذين جعلوا منها تجارة غير أخلاقية لجني أرباح لا أحد يستطيع تحديدها- أن تعمل على مراجعة منظومة الامتحانات بشكل جذري، يسمح بتقييم علمي لقدرات التلاميذ، ومراجعة المناهج، وطرق التدريس، لأن مجرد كون الطلاب يسعون للغش، يعني أن خللا كبيرا في المنهجية التربوية، وأن بعدا أخلاقيا وقيميا يتهاوى داخل المؤسسات التعليمية المغربية. يشتكي التلاميذ عادة من كونهم يمتحنون في مواد علمية أو أدبية لم يتطرقوا لها من خلال البرنامج التعليمي، ويكون السبب إما غياب بعض الأساتذة أو عدم كفاية الوقت، بسبب الإضرابات التي يعرفها قطاع التعليم سنويا، وتهدرملايين ساعات التدريس بسبب الاحتقان الاجتماعي، وسعي النقابات التعليمية، للدفاع عن مطالب مختلفة، تتطلب كل سنة هدرا زمنيا.فعوض أن تسعى الحكومة لحل المشاكل، نجدها تتسبب فيها وبإصرار عبر قرارات استفزازية. إن الامتحانات ليست فقط أسئلة وأجوبة وحراسة. الامتحانات وسيلة لتقييم مدى استيعاب التلاميذ لما قدم لهم طيلة مسار دراسي استمر لسنوات. وأي فشل ليس للتلاميذ فقط، بل للمنظومة، وهو ما يجعل التقييم العلمي يشمل الأساتذة والإدارة والمناهج والبنية التحتية من ثانويات وإدارات وغيرها . الباكالوريا، تبقى فرصة لتقييم أدائنا التعليمي، أداء يخص الجميع حكومة ومجتمعا مدنيا ومختلف الفاعلين الاقتصاديين، لأن تلامذة اليوم هم طلاب وأطر الغد في مختلف المجالات. o الأستاذ عباس بودرقة، لماذا اخترتم هذه السنة الاحتفاء بالذكرى العشرين لرحيل محمد باهي بالمغرب وبمدينة الرباط على الخصوص؟ n قامت حلقة أصدقاء باهي هذه السنة باختيار الاحتفاء بهذه المناسبة بالمغرب، بالنسبة إلينا في الحلقة أو جميع الأصدقاء أو المناضلين الذين تعرفوا على الباهي سواء بالمغرب، الجزائر أو في المشرق أو فرنسا، هو أن الجميع كان يطالب ويتمنى بنشر كتابات باهي، لأن هذه الكتابات سواء بالنسبة الذين عاشروه أو الأجيال الجديدة هي مواد أساسية وغنية ومدارسة تكوينية حقيقية للأجيال القادمة. هذا الاحتفال اليوم، هو بصيغة جديدة، وهو نوع من الميلاد الجديد للمرحوم محمد الباهي، كما كان يقول عبد الرحمان منيف رحمه الله وهو على فراش الموت، «اوصى بالاعتناء وبنشر كتابات الباهي، لأنه كان يعتبره مدرسة تاريخية، أدبية، فكرية، سياسية صحفية.» o بذلتم مجهودا استثنائيا من أجل جمع هذه الأعمال لراحل محمد باهي خاصة جمع وطبع كتابه حول «رسالة باريس»، هذه المراسلة التي سوف تبقى عملا استثنائيا في الصحافة المغربية والعربية، لكن بالمناسبة، ما هي الخطوة الجديدة بالنسبة لكم من أجل جمع باقي الأعمال التي تركها وهي متعددة وفي مختلف الصحف منها المشرقية على الخصوص؟ n قبل الحديث عن المشاريع المقبلة، لا بد أن أتحدث عن هذا العمل الجديد حول رسالة باريس. عندما بدأت أفكر في جمع هذا العمل، «رسائل باريس» قمت رفقة الأخ شوقي بنيوب بتأسيس مركز فريد في العالم يهتم بحقوق الإنسان والتنمية بمدينة العيون، ولولا ذلك الفضاء مركز النخيل، لما تم أنجاز هذا العمل، لأنه فضاء صحراوي يناسب هذا العمل، رغم أن الإمكانيات المادية كانت بسيطة لكن هذا الفضاء المعنوي بكل أبعاده، وبموقعه الجغرافي بالصحراء المغربية هو الذي سهل القيام بهذا العمل. ففي أقل من ثمانية أشهر تمكنا من توفير أزيد من 2200 صفحة من مقالات رسالة باريس، فباستثناء رسالتين في فترة 1975، فأن باقي الرسائل تغطي الفترة ما بين 1986 و1996وهو ما يعني أن عملنا يغطي فترة جد قصيرة من حياته ومساره الصحفي حيث بدأ الكتابة منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي. عندما بدأت في أنجاز هذا العمل، التقيت العديد من الأساتذة الجامعيين وكذا العديد من اطر الدولة والسياسيين، عندما تتحدث لهم عن أعمال محمد باهي يقول لك الشخص مباشرة قبل أن تتم الجملة «رسالة باريس». احد قراء باهي قال لي لقد كان أستاذا لنا بكل ما في الكلمة من معنى وكنا ننتظر أسبوعيا نشر هذه الرسالة، وبمجرد قراءتها كنا نتوجه إلى المكتبة، لأنه في ذلك الوقت، لم يكن هناك وسائل الاتصال الجديدة مثل الأنترنيت، من أجل الاطلاع على المصادر التي ذكرها الراحل في مقاله، وقبل نهاية الأسبوع كانت تصدر رسالة جديدة وهو ما يدفعنا للبحث من جديد والاطلاع على المصادر المشار إليها، هذه الرسالة يقول القارئ كانت تدفعنا للاجتهاد باستمرار. سي محمد بوستة ، قال لي» عندما كان أمينا عاما للحزب، وعند انعقاد المجلس التنفيذي لحزب الاستقلال، ومن بين الوثائق التي يضمها إلى الملف الموزع على الأعضاء كانت رسالة باريس، التي كان يعتبرها عملا مهما يجب الاطلاع عليه، بمعنى أنها كانت من الوثائق الأساسية لهذا الحزب الوطني. o ما هي المشاريع الأخرى بعد «رسالة باريس» التي سوف تنجزها حلقة أصدقاء باهي؟ n أعتبر أن الطريق أصبحت مفتوحة أمامنا اليوم بالحلقة، هناك رواية ملهمة التي هي شبه جاهزة لنشر، كما أن هناك مشروع جمع كل ما كتب حول الباهي في الصحافة بعد وفاته، من طرف المشارقة والمغاربة وسوف يكون جاهزا في الذكرى الواحدة والعشرين. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الأعمال التي كان ينشرها دون توقيعها. وهنا أوجه نداء إلى كل أصدقائه بمد الحلقة بكل ما يتوفرون عليه من هذه الأعمال. oعندما ذكرت فضاء مدينة لعيون الذي كان وراء دفعك إلى إنجاز هذا العمل حول باهي، ما هي في نظرك، دلالة هذا الفضاء بما يرمز له محمد باهي من نضال طويل حول الوحدة الترابية للمغرب خاصة أنها اليوم تجتاز مرحلة صعبة خاصة بعد تآمر حتى بعض الحلفاء حول هذه القضية؟ n العديد من الأساتذة الصحراويين عندما علموا بهذا المشروع لم يترددوا في طرح الأسئلة حول موعد خروج هذا العمل إلى الوجود. ومحمد الباهي هو رمز لهذه الوحدة بكل معانيها. فهو من مواليد مدينة شنغيط ، توجه إلى الشمال على غرار أجداده المرابطين، وبدأ يبحث عن مواقع جيش التحرير آنذاك من أجل حمل البندقية لإتمام تحرير كل مناطق المغرب .وما قام به الباهي هو اختيار لم يفرضه عليه أي شخص. وعندما كتب احدى رسائل باريس تحت عنوان « لا تجعل من لينين موظفا عند فرانكو « وهو يجادل الشباب الذين اختاروا الأطروحة الانفصالية. كان يقول لهم أنا لا أعطيكم دروسا. ولكن أنا كنت شابا في سنكم، وكان الهاجس الوحدوي هو الذي يقودني، وخرجت من شنغيط في الوقت الذي لم تكن فيه لا طائرات ولا سيارات ولا بواخر، والتحقت بالشمال، وأضاف متوجها إلى هؤلاء الشباب «عليكم أن لا تنغروا ببئر الثورة وهو ليس بؤرة الثورة». باختياراته السياسية اعتُبر باهي رمزا للوحدة المغربية وباختيار إرادي. o يحكى أن الرئيس الجزائري الراحل الهواري بومدين اقترح على باهي أن يكون رئيسا للجمهورية الانفصالية ورفض هذا الطرح بشدة؟ n هذه واقعة حقيقية تؤكدها شهادة لرفيق دربه محمد بنيحي، ففي سنة 1975 حاول الرئيس الجزائري هواري بومدين، إقناع باهي محمد أن يشغل منصب رئيس الجمهورية الصحراوية. وقد رد باهي عليه: بمغادرة الجزائر، وبنشر مقال على صفحات جريد «المحرر» بتاريخ 13 غشت 1975 تحت عنوان» لا تجعلوا لينين موظفا لدى فرانكو»، وأكد مرة أخرى هذا الرفض سنة 1976 في مقالة نشرها بجريدة «23 مارس» بباريس تحت عنوان «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون».(أنظر الكتاب الأول). وعلى عادة باهي، لم ينزلق في رده على هذا الإغراء إلى الجدل العقيم حول المنصب، بل خاض في جوهر القضية، ووضع تصورا متكاملا بمثابة خريطة واضحة المعالم تساعد المغرب على استرجاع صحرائه، في شهر غشت 1975 قبل المسيرة الخضراء. كما دخل في حوار جاد منبها الشباب الصحراوي، إلى عدم الانزلاق وراء سراب الانفصال والدولة، لأنها طريق غير سالكة. وعدم الانجرار نحو الأوهام التي تخلط بين «البؤرة الثورية»و «بئر الثروة» وهذه شهادات تؤكد هذه الواقعة أدلى بها أصحابها إثر وفاة باهي محمد: شهادة المرحوم محمد بنيحيى المناضل الاتحادي ورفيق درب محن محمد باهي: «باهي محمد، اقترح عليه الرئيس هواري بومدين شخصيا، لما بدأت فكرة البوليزاريو، أن يتسلم قيادة البوليزاريو. كان جوابه على أعمدة جريدة «المحرر» وقتها. وقال لبومدين : لي سفر إلى باريس، سآخذ مهلة وأجيبك. ومن باريس بعث مقالته الشهيرة إلى «المحرر» التي نشر مُفْتَتَحَها في أعلى الصفحة الأولى بعنوان « لا تجعلوا لينين موظفا لدى فرانكو». ثم شهادة الصحافي السلامي حسني، عند وفاة المرحوم باهي كان رئيسا للقسم العربي بإذاعة فرنسا الدولية: «كنا في الجزائر في بداية السبعينيات، وكنا خليطا من «صعاليك السياسة العرب والمغاربة» كما كان يقول تحتضننا جزائرهواري بومدين وعالمه الثالث، وكان بومدين يهيئ لولادة جبهة البوليزاريو وجمهورية الصحراء ومن خلالها فتح ملف الخلافات والثأر مع العرش المغربي. وراح قاصدي مرباح مسؤول الأمن العسكري الجزائري في ذلك الوقت يبحثون عن رجل من الصحراء يشارك بومدين نقمته على العرش المغربي، ليتولى زعامة جمهورية الصحراء وجبهة البوليزاريو... ويبدو أن عبد العزيز بوتفليقة ووزير خارجية بومدين ورفيق دربه والذي كان عليما بما يجري، نصح بجس نبض من معارفه تنطبق عليه جميع المقاييس وأكثر... وتم الاتصال بالباهي ودعي إلى لقاء خاص ومطول مع هواري بومدين، وبعد اللقاء التقيناه وكنا جمعا من «صعاليك» ذلك الزمن، في فندق متواضع في شارع «الشريف ذبيح» فأعلن لنا أنه راحل... ورحل الباهي في اليوم التالي إلى باريس وكتب رسالته الشهيرة في جريدة المحرر إلى بومدين ولم يدخل الجزائر إلا بعد وفاة بومدين. فالباهي كان معارضا لانفصال موريتانيا عن المغرب فكيف يقبل باستقلال الساقية الحمراء ووادي الذهب وهو الذي حمل السلاح هناك ضد الاستعمار من أجل أن يكون مغربيا». o وهذا ما أكدته الصحافية والكاتبة زكية داوود رئيسة تحرير مجلة «لام ألف»: n «باهي الذي عرف تقلبات السياسة العربية في أدق تعرجاتها لم يكن يتحدث عنها إلا لماما. «تعرفين قال لي ذات يوم،»لقد عشت حياة معقدة، لقد نجوت من الموت مرات عديدة، من بينها المرة التي رفضت فيها تسيير البوليزاريو « انتظر يا باهي-أجبت-لا نتحدث في الشارع، عَلَيّ أن أسجل هذه الاعترافات ولكن وحدها الرواية يمكنها أن تغطي المعنى الحقيقي لكل الأحداث...» «لكن يا باهي لن تحكي فيما يبدو أي شيء بعد. للأسف، لكنني متيقنة من أنك تستطيع أن تلهمني، ومن هناك حيث أنت الآن. وقتها سيكون من السهل عَلَيّ أن أُبْدع.» رحم الله باهي محمد كان أمام القيم والمبادئ لا يساوم مهما كان الثمن باهظا هكذا كان باهي وظل حتى وفاته. o أحد قادة معركة التحرير الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي يحضر الذكرى العشرين، ونعرف أنه كان من رفاق وأصدقاء محمد باهي، ما هي دلالة هذا الحضور بالنسبة لكم في حلقة أصدقاء باهي؟ n العلاقة التي تربط باهي بالأستاذ عبد الرحمان اليوسفي هي علاقة ود وصداقة أخوية. كانت طويلة وغنية بين الرجلين. ونحكي جزءا منها بالكتاب. وكانت أيضا علاقة فريدة من نوعها حيث إنها تعود إلى 2 ابريل1959 في جريدة العلم، وبعد أن أعلن المهدي بنبركة تأسيس حركة الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال والتي سوف ينبثق عنها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 6 شتنبر 1959، الذي انضم إليه وكذلك إلى الفريق الذي كن يشرف عليه عبد الرحمان اليوسفي من أجل تأسيس جريدة ناطقة بهذه الحركة. ومن أهم المهام التي تم تكليفه بها وهي مرافقة دخول حركة التحرير الجزائرية من المغرب نحو الجزائر عند استقلال هذا البلد الجار سنة 1962 وفي تلك الفترة أيضا كان الراحل بوضياف في المغرب وأراد الالتحاق بوجدة بالحدود الجزائرية وطلب من الإخوان أن يوفروا له وسيلة نقل. وكان محمد منصور ،الله يرحمه، أنذاك رئيس الغرفة التجارية ووضع سائقه رهن إشارة بوضياف ورافقه محمد الباهي الذي التحق بمدينة وجدة بكل من بومدين وبنبلة. وكان محمد الباهي في ذلك الوقت هو الصحفي الوحيد الذي رافق جيش التحرير الجزائري في هذا الدخول. وكانت كل وكالات الأنباء العالمية تؤخذ من تقاريره الإخبارية مصدرا. o ما هي رسالتكم كأحد المؤسسين لحلقة أصدقاء باهي، إلى الشباب اليوم، الذي لم يعش تاريخ حركة التحرير، وبناء بعد الاستقلال بالمنطقة، ومشروع المغرب الكبير، الذي كان جزءا من عمل هذا الحركة بالمنطقة؟ n باهي عندما تقرأ كتاباته، تتأكد أنه كان رمزا للوحدة المغربية والمغاربية، كما أنه كان موسوعة حقيقية مطلع على ما يجري بأفريقيا والشرق العربي وفرنسا واوروبا عموما. وقد كان له أسلوب في السرد جد متميز يغري القارئ ويدفعه إلى القراءة، بالإضافة إلى المعلومات الغنية والمتنوعة التي كانت تضمها كتاباته. كل ذلك، كان يجعل منه كاتبا متميزا واستثنائيا في كتاباته. وكان يقدم للقراء كنزا مفيدا .قال لي أحد المتتبعين إن صدور أعمال باهي مباشرة قبل رمضان ستكون مفيدة، وهي فرصة وزاد، لقضاء هذا الشهر بل إنها تعيدنا إلى فترة معينة في المغرب في عقد الثمانينيات والتسعينيات، عندما كنا ننتظر صدور رسالة باريس» بجريدة الاتحاد الاشتراكي.» o وهل سوف تنشر حلقة أصدقاء باهي سيرة هذا الرجل المتميز والاستثنائي في تاريخ المغرب؟ n طبعا خلال العمل الذي نقدمه، نلقي الضوء على جزء من سيرة الباهي، وذلك لأول مرة. لقد ولد المرحوم باهي سنة 1935 بمنطقة « تُنْبِيعْلي « بالجنوب من بلاد شنقيط بموريطانيا ، ومنطقة تُنبِيعلي هي مركز قبيلة «إِدُوعلي».وهذه الكلمة تتكون من شِقَّيْن: الشق الأول هو «إدو» أو «إد» وهي كلمة أمازيغية تعني أَهْل أو بَنُو. أما الشق الثاني، فهو اسم «علي» نسبة إلى جد باهي الأكبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولهذا السبب، يطلق عليهم الأشراف العلويون. و تشتهر هذه القبيلة الموريطانية الشنقيطية «إدوعلي» بكثرة علمائها وأدبائها وشعرائها، ممن لعبوا أدوارا أساسية في نشر المعارف والعلوم أينما حلوا وارتحلوا، حيث وصل إلينا العديد من مؤلفاتهم في الفقه المالكي والتصوف وعلوم اللغة، بالإضافة إلى الأدب والشعر. وعلاقتهم بالمغرب في كل العصور مشهورة: سيدي محمد ولد رازكة العلوي مع المولى إسماعيل، سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم مع سيدي محمد بن عبد الله، ولد محمدي مع المولى عبد الرحمن...الخ وَالِدُ المرحوم محمد باهي هو محمد حرمة بن محمد أنينه، وهو شقيق السيدة مريم بنت أنينة، والدة الزعيم الصحراوي حرمة ولد بَابَانا. ولقد كان والد باهي فقيها تقياً ورعاً حافظا لكتاب الله، وتزوج من ابنة عمه الشابة زينب بنت محمد ولد عثمان لَكْنِيز التي كانت بدورها حافظة لكتاب الله. وكانت ثمرة هذا الزواج أن أنجبا المرحوم محمد باهي بمسقط رأسه بقرية «تنبيعلي»،وهي التي ولد ودفن بها أيضا ابن عمته وخاله المرحوم الزعيم حرمة ولد بابانا. وقد شاءت الأقدار أن يولد المرحوم محمد باهي بعد انقضاء حوالي خمس سنوات على وفاة ابن عمه محمد فال ولد باب ولد أحمد بيب المعروف ب: أباه بن باب بن أحمد بيب، والذي يُعَدُّ من أكابر علماء شنقيط، وله العديد من المؤلفات في الفقه والتصوف وعلم اللغة والأدب. وعندما أدى هذا الأخير فريضة الحج، سنة 1887، كانت الفرصة للقاء العديد من العلماء والفقهاء ، من المشرق والمغرب. وفي مدينة الرباط، التقى بالعالم سيدي العربي بن السائح، الذي احتفى بضيفه وأعجب بِغَزَارَة علمه وسِعَة اطلاعِه بشتى العلوم والمعارف. وقد أهدى العالم الرباطي لنظيره الشنقيطي «ِسِلْهَاماً» لا يزال إلى يومنا هذا في أسرة آل باه يفتخرون به و يتوارثه أبناؤه خلفا عن سلف. ارتأت العائلة أن يحمل المولود الجديد اسم الشيخ المتوفى، تيمناً وتبركاً به، ،كما جرت العادة في مثل هذه الحالة، وهكذا ولد محمد باهي حاملا لاسمه الحقيقي وهو» أباه محمد حرمة أنينه». تربى باهي الطفل في كنف والديه، وحظي كباقي الأطفال، بالتعليم المبكر داخل خيمة العائلة، بحيث لم يكن هناك في هذه المناطق أثر لأي مدرسة بمفهومها الحديث، إذ كانت النساء يَتَوَلَّيْنَ تلقين الأطفال الصغار حفظ القران ، ومع تقدمهم في الحفظ والتحصيل، يتولى تعليمهم أحد أفراد العائلة ممن يتوفر على مستوى أعلى في المعرفة. وشاءت الأقدار أن يفقد المرحوم باهي، وهو لايزال صغيرا، والده الذي فارق الحياة إثر عاصفة رملية بالصحراء، وبعد سنة من وفاة والده، انتقلت والدته السيدة زينب بدورها إلى رحمة الله. وقد تكفل خاله الزعيم حرمة ولد بابانا برعايته، وتولت الإشراف على تربيته وتعليمه أخت السيد حرمة، السيدة عائشة بنت حرمة ولد بابانا. وهي تحظى بمكانة خاصة داخل المجتمع، كما أنها كانت معروفة بالعلم والتقى والكرم. وظل المرحوم باهي مرتبطا بها حتى عندما انتقلت رفقة أخيها حرمة ولد بابانا إلى الرباط، وكان ذلك في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كان يداوم على زيارتها. أبان هذا الطفل عن نبوغ مبكر، بحيث حفظ القران قبل سن السابعة، وعلى عادة المجتمع الشنقيطي، فتح المجال أمامه ليواصل مراحل التعليم العليا، دائما داخل الخيمة العائلة، التي هي بمثابة جامعة شعبية و التي كانت معروفة في منطقة شنقيط ب:»المَحْظرة». ومنها نهل المرحوم باهي المعارف الأساسية، التي أَغْنَتُه عن الجلوس على مقاعد المدارس بجميع مستوياتها وأسلاكها. بهر الصبي مجتمعه بذكائه و فطنته ونبوغه. تعلم القرآن على امرأة تدعى مريم منت عبد الودود فانبهرت لقوة حافظته، حيث كان يحفظ نصف حزب كل يوم بسهولة تشبه خرق العادة، فقررت أنها لا تستحق أجرة على عمل لا تبذل فيه جهدا. حصل قبل الثانية عشرة من عمره كل المتون. و كان يحفظ عن ظهر قلب، جميع دواوين الشعر الجاهلي و الأموي والعباسي وكتب النحو والمنطق والفلك وعلوم أخرى. لم ينتسب للمدارس النظامية للمستعمر ممانعة ولانشغاله بالتعليم «المحظري»، لكنه تعلم اللغة الفرنسية وحده فأصبح يتقنها. وبعد أن اشتد عوده، وقررت السلطات الاستعمارية الفرنسية، في وسط الأربعينيات (1946) من القرن الماضي، تخصيص مقاعد لممثلي الساكنة داخل الجمعية العامة (البرلمان الفرنسي)، تحت ضغط حركات التحرر التي شهدتها المنطقة شمال أفريقيا وباقي كل أنحاء العالم الثالث، وبما أن ابن العمة والخال في نفس الوقت المرحوم حرمة ولد بابا، كان يواجه السلطات الاستعمارية آنذاك، قرر بعد أن ترشح وفاز بمنصب نائب بالبرلمان الفرنسي إنشاء حزب «الوفاق الموريتاني»، وهنا خطا المرحوم باهي أولى خطواته في الميدان السياسي، حيث كان يرافق زعيم حزب «الوفاق الموريتاني» في الحملات والتجمعات التي يعقدها في المنطقة، كما رافقه إلى دكار عدة مرات. ومن هنا برزت النظرة نحو الأفق والإيمان بالوحدة ونفر التجزئة التي تؤدي إلى التشرد وتفتيت القوى، وبالتالي إلى الضعف والهزال. وعندما شعر بمضايقات السلطات الاستعمارية، قرر خوض مغامرة خطيرةّ : رصد و تسلل خلسة بمرسى نواذيبو إلى باخرة صيد إسبانية متجهة إلى «الطرفاية». وبعد الإقلاع، اكتشف طاقم الباخرة وجود شخص غريب ، وقرروا رميه في البحر. وفتح معهم مفاوضات وعرض عليهم أن يقوم بأعمال الخدمة طوال الرحلة مقابل العدول على رميه في البحر ، فتكفل بتنظيف المطبخ و غسل الأواني و صيانة المراحيض. نزل ب»الطرفاية»، وواصل مسيرته باتجاه مدينة «كلميم» ، وهكذا لبى باهي نداء جيش التحرير والتحق بالشمال، وهو يحمل اسمه الأصلي أباه محمد حرمة النينه، الذي ظل محتفظا به إلى أن أجرى مباراة بشأن الاشتغال بجريدة «العلم» بمدينة الرباط، كما سيرد فيما بعد، وهنا حصل خطأ كاتبة تشتغل بإدارة العلم والتي تَوَلّت رقن أسماء الناجحين في المباراة على الآلة الكاتبة، حيث أخطأت في كتابة اسم مُتَصَدِّر لائحة الناجحين، وعوض أن تكتب أباه محمد حرمة، كتبت باهي محمد حرمة. ومن ذلك الوقت، قرر فقيدنا الاحتفاظ بهذا الاسم، الذي ظل باهيا، أصبح يعرفه الأفراد و العموم. بعد أن خاض باهي محمد تجربة جيش التحرير بالجنوب المغربي، انتقل إلى الرباط، بعد أن ركن بندقية جيش التحرير، جرد قلمه ليتقدم إلى أول وآخر امتحان يشارك فيه باهي طيلة حياته، وذلك بمناسبة المباراة التي نظمتها جريدة «العلم» بالرباط، في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، لاختيار مجموعة من المحررين الشباب. وكان ضمن المشاركين في هذه المباراة، المرحومان عابد الجابري وعبد الجبار السحيمي. وطبعا تصدر باهي قائمة الناجحين. يقول المرحوم العربي المساري-الصحافي والكاتب والسياسي ووزير الإعلام في حكومة اليوسفي- عن هذا الحدث في شهادته إثر وفاة باهي في يونيو 1996: «كان باهي مثالا للصحافي الموسوعي المتشبع بتراث بلاده والمطلع على كل ما يستجد من المعارف والمعلومات. ذات مرة وهو حديث عهد بالرباط التي نزل إليها وهو لايزال ينتعل حذاء جيش التحرير، خطر له أن يتقدم إلى امتحان أجري في «العلم» لاختيار محررين. وكان اجتيازه لذلك الامتحان مجرد تمرين فكري، وحين علم زعيم التحرير علال الفاسي بذلك الامتحان، اعتبره مجرد مزحة من الأخ باهي الذي كان في وسعه أن يقترح أو يطلب ما يشاء من المناصب.» «وحينما مثل أمام لجنة الامتحان، بهر أعضاءها بعمق تمكنه من اللغة وغزير معرفته بالآداب والتاريخ. ولما كان أعضاء اللجنة لا يعرفون من هو، سألوه أين جمع كل تلك المعارف، فأجابهم ببساطة «في الخيمة يا سادتي».» كانت جريدة العلم التابعة لحزب الاستقلال المحطة الأولى التي أبان فيها محمد باهي عن عُلُو كعُبه في مجال الكتابة والتحقيق الصحافي. هكذا ضمه الزعيم علال الفاسي إلى الطاقم الإعلامي الذي يشرف عليه في إعداد البرامج الموجهة إلى ساكنة الصحراء المغربية. وظل يمارس مهامه بنشاطه الدائم إلى أن أعلن المرحوم المهدي بن بركة يوم 25 يناير 1959 عند إنشاء الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال، والتي ستصبح فيما بعد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. في هذه الظروف اختار باهي الانضمام إلى التوجه الجديد، واستقال من جريدة «العلم» والتحق بالفريق الذي ترأسه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، لإصدار جريدة يومية تعبر عن آراء وتوجهات القوى السياسية الجديدة. ويوم 2 أبريل 1959 سيصدر أول عدد من جريدة «التحرير» محمد البصري مديرا لها وعبد الرحمان اليوسفي رئيس التحرير، ولم يُفَوِّت الحاج محمد مرادجي المصور اللامع، هذه الفرصة لتسجيل صدور العدد الأول والطاقم الكامل لجريدة «التحرير» بواسطة آلة عدسته، حيث يظهر باهي ضمن الفريق الجديد لجريدة «التحرير». هذا مقتطف من شهادة المرحوم عبد الجبار السحيمي عن هذه المرحلة: «منذ أن قدمه لنا في جريدة «العلم» أستاذنا الزعيم علال الفاسي، الحفي بكل التحف، الخبير بالمعادن النفيسة الصافية للرجال، ارتبطت بالأخ محمد باهي صديقا حميما، نغادر الجريدة معا، في ساعات الليل المؤذنة بالصباح، لنشرب حريرة ساخنة بمقهى «النقابة» ونشرب القهوة السوداء، وحين يتأخر عن مواعيده أطرق شقته، لأجد ركام الكتب والصحف والمجلات تملأ الأرض، فقد كان لا يتعب من المحاورة، ولا من العمل، إلا أن سَبْقَهُ الذي لا يُجَاريه فيه أحد، كان التهام الكتب بها يتغذى، وهي وجبة عشائه، ورغم أنني كنت يوم ذاك، فَأْر كتب، لكن باهي كانت الكتب نعمته، لا يهتم بلباس صيف أو شتاء، لا يهتم أأكل خبزا بزيتون أم خبزا وعلبة سردين في أحسن الأحوال، فكل ما يكسبه في كل شهر، كان يرصده للكتاب، بالعربية والفرنسية.» «كثيرة هي الذكريات فإننا لم نفترق، رغم أن ظروف الحزب فارقتنا.» «وليس بعد الموت فقط، ينبغي أن نحتفي بالوجه الأسمر لذلك الإنسان الذي كان قطعة منا، وكان رصيدا لنا قد لا نستعمله، لكننا نعرف أنه حاضر يعطي الأمان والطمأنينة. ففي حياته، كان كل رفاق دربه المضيء بالعذاب الشهم، يحسون حضوره ويعرفون أنه الإنسان الذي لا يبدل إلا ثيابه، فهو مقيم على أصفى القيم والمبادئ. وهو قارئ استراتيجي للتحولات، لكنه ينطلق في فك طلاسمها من الثوابت. لذلك كان صحفيا من طراز نادر. لو كان في مصر حيث للصحفي الكبير مقعده المحجوز له في القمة برضى كل الأطراف واعتزازها، لأمكن أن يكون لنا هيكل المغربي باسم محمد باهي». كان المرحوم محمد باهي يزاول مهنة الصحافة بنفس نضالي يطابق بين الفكر والممارسة، بحيث كان صادقا في قناعاته ولا يساوم بمبادئه التي آمن بها وهو سلوك ليس من السهل إدراكه، وهي الخلاصة التي توصل إليها صديقه حميد برادة الذي لايزال يمارس مهنة المتاعب إلي اليوم، وخَبَر أيضا ساحة النضال من رئاسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب إلى المنافي حتى حكم الإعدام حيث قال في شهادته في باهي: «لقد كان باهي صحافيا مناضلا، ومناضلا صحافيا، وإذا كان الصحافيون على العموم- ومن بينهم أنا- نميز بين المهمتين النضالية والصحافية، فإن من خصائص باهي أنه لم يكن يفرق بين المهمتين.» «باهي لم يكن ذلك الصحافي الذي يكتب باستعجال، بل كان يكتب مقالات طويلة يمكن أن ننعتها بكتب مفتوحة. ولكن كان في ذات الوقت يطلق أحكاما على أشياء معقدة، وهذا يدل على أنه كان يستغرق وقتا كبيرا في البحث وجمع المعلومات وقراءة المؤلفات الغزيرة قبل أن يقدم على تحرير أي مقال. ومن هنا تندرج كتاباته جميعها في خانة الأرشيف الغني والنادر، ليصبح جديرا بالقراءة والاطلاع، والبحث والدراسة.»