«تعتبر شهادة الشهود من أقدم وسائل الإثبات، ولها أهمية كبرى في الدعاوى القضائية، خصوصا الجنائية منها. فإذا كانت الشهادة زورًا، قد تؤدي إلى أن يُدان بريء ويعاقب، أو يُبرَّأ مجرم ويفلت من العقاب. ولهذا عاقبت القوانين على شهادة الزور التي عُرِفت منذ أن عرف الإنسان الجريمة والعقاب، في المجتمعات القبلية وفي الحضارات الفرعونية وبلاد ما بين النهرين. وقد عاقب عليها قانون حمورابي بقطع لسان صاحبها. كما نهى الدين عن شهادة الزور واعتبرها من الكبائر». يقول محمد الهيني، نائب الوكيل العام السابق باستئنافية القنيطرة والمستشار القانوني حاليا. شهادة الزور معقدة يتداخل فيها العرف والأخلاق والوازع الديني. يقول أحد المسؤولين القضائيين إنه يصعب إثبات شهادة الزور، فإن لم يردع لا الوازع الديني ولا الأخلاقي شاهد الزور ، فإن الحقيقة تغيب، ولا تظهر إلا مثلا باعتراف من الشخص ذاته أو الشخص الذي استعان به أو تضارب في المعلومات وانهيار شاهد الزور أمام القاضي وأسئلة النيابة العامة. «الاتحاد الاشتراكي» اقتحمت عالم شهود الزور في أماكن متعددة وقضايا مختلفة فكان التحقيق التالي: وجوه شاحبة تقضي ساعات طوالا في المقاهي القريبة من المحاكم ومراكز الضابطة القضائية، ينتظرون المتقاضين كلما أرادوا شاهدا يدعم قضيتهم، ولو كانت شهادته باطلة.. هذا هو حال العشرات من الممتهنين لمهنة «شاهد زور»، مقابل مبالغ مالية تختلف حسب نوعية الملفات، بين ما هو مدني وجنائي وعقاري، ولو كلّفهم ذلك القسَم بالشهادتين أمام الهيئة القضائية أو مصالح الأمن دون علمهم بالوقائع الصحيحة . «مهنة» أصبحت لدى البعض مورد الرزق الوحيد، بعد أن يتذوق الشاهد طعمها مباشرة بعد أدائه الشهادة أمام أعين المحققين أو القضاة، فأصبح الهاجس اليومي لهذه الفئة هو «سقوط» الباحثين عن الإفلات من العقاب بين أيديهم، قصد قلب حقائق ملفات القضايا الجنحية والجنائية والعقارية . الملفات العقارية هي التي تحتل اليوم المقدمة في شهادات الزور، فالزبناء كثيرون و عليهم الطلب بشكل كبير وجل المدن التي تنشط فيها شبكات السطو على العقارات تعج مقاهيها بهؤلاء. وتوجد شبكات من شهود الزور لا تكاد تفارق ملفات العقار، فنفس الأسماء تتكرر في مجموعة من الملفات التي أحيلت على المحاكم المغربية خاصة مدن الجنوب المغربي ودكالة وعبدة .كما أن عشرة أسماء تكررت في الجديدة وحدها في أكثر من 10 ملفات تتعلق بشبكات السطو على العقارات جلهم من الشباب العاطل الذي يبحث عن المال السهل . في البداية حاولنا استمالة أحد الذين يشتغلون في موقف قريب من محكمة الاستئناف بالجديدة من أجل الإدلاء بشهادة في ملف عقاري يتعلق ببقعة أرضية، أبعدني عن الموقف حيث يتجمع الكثير من العمال، حيث طلب مني توضيح نوع الشهادة التي اريد وعدد الشهود ، وبعد أن فبركت له ملفا عقاريا طلب مني عدد الشهود الذين حددتهم في اربعة، حيث أكد لي انهم مستعدون للشهادة بقولهم أمام رئيس الهيئة انني اتصرف في أرض فلاحية لمدة فاقت العشرين سنة وان خصمي مجرد محتل، وهو ما استجاب له أربعة من زملائه، وبدأنا في مناقشة الحيثيات حيث تم الاتفاق على مبلغ 1000 درهم لكل واحد منهم إضافة ل100 درهم عن كل جلسة، وضربنا موعدا بعد الظهيرة من أجل اطلاعهم على الملف وتلقينهم ما يجب أن يقال أمام المحكمة وتسلمت منهم أرقام الهاتف من أجل الاتصال بهم. غادرتهم وأنا أتحسر على ما وصلت اليه أخلاق البعض وما أصبح يسكن أضلع بعض شبابنا بحثا عن المال بكل الطرق. شهود الزور متنوعون، والشائع هم أولئك الذين يشهدون كذبا إما بمقابل أو بالإكراه. غير أن هناك نوعا آخر من شهود الزور يهم فئة المحلفين. ضمن هؤلاء بعض رجال الشرطة الذين قد يصدرون مخالفات ضد مواطنين أو يتهمون أبرياء بالباطل. ينضاف إليهم بعض الأطباء الذين يزورون الشهادات الطبية، و خبراء تعينهم السلطة القضائية لإجراء خبرات في وقائع معينة.خاصة البناء الآيل للسقوط والافراغ، وقد اصبحت شهادة الزور مهنة لأشخاص بعينهم حتى أضحوا أشخاصا يحملون صفة «شاهد زور».. وتحولت الى «مورد رزق» للعشرات من الأشخاص الذين يتخذون من الأماكن القريبة من المحاكم ومراكز الأمن، منطلقا لهم لتضليل العدالة، بدل تنويرها، حيث تقضي ذات الوجوه ساعات طويلة في أماكن قريبة من المحاكم ومراكز الضابطة القضائية. ينتظرون المتقاضين كلما أرادوا شاهدا يدعم قضيتهم. الصحيحة.. أمنيون يتعرفون على شاهد الزور انطلاقا من تناقضاته سعيد وهو بالمناسبة اسم مستعار. شاهد زور جعل من هذه المهنة مورد رزقه الوحيد، حيث يتردد على مقاه واماكن بعينها وهو على أتم الاستعداد للإدلاء بشهادة. فرغم العواقب الوخيمة التي يمكن أن يسقط فيها شاهد الزور، وهو يقوم بتضليل العدالة، فإنه يصبح إنسانا غير طبيعي، حيث يصاب ب«مرض» لا يراعي الأخلاق أو التبعات القضائية ، عندما يثبت القضاء أنه شاهد زور.وتعمل المصالح الأمنية على الاتصال بمخبريها لمعرفة مدى وجود عداوة بين الشاهد والشخص المشهود في حقه، حيث تكتشف المصالح الأمنية في بعض الحالات أن الشاهد يُبيّت تضليل العدالة قصد «تصفية حسابات» شخصية مع الطرف الآخر، حيث يتم طرده من مصلحة التحقيق والتخلي عن تصريحاته، ولو كانت مُتضمَّنة في الشكاية الموجهة للنيابة العامة في البداية، بعدما تتم إحالتها على الشرطة القضائية. وأكد مصدر أمني أن المصالح الأمنية تذكر في المحاضر أن شاهد الإثبات لا يتوفر على معرفة مسبقة بالطرف الآخر ولا عداوة بينهما، في حالة عدم وجود نية تصفية حسابات بين المتقاضي والشاهد، وهو ما يساعد القاضي على الاطلاع المسبق على نوعية العلاقة التي تربط الشاهد والضحية والمتهم. شاهد الزور شخص «قافز» شاهد زور يكون شخصا محترفا، يكون ملما بالمسطرة الجنائية والمدنية والتلبس، يدرس الملف جيدا ويسأل عن تفاصيل كثيرة، وهو يتقاضى حسب نوعية القضية ويأخذ فترات استراحة كي لا ينكشف أمره، هو شخص متأكد من أن الشرطة القضائية وأفراد النيابة العامة يعرفونه جيدا، وهو يعلم جيدا أنه شاهد زور محترف إلا أنه مصر على أن هذا العمل له أصول وقواعد يجب إتقانها والا انكشف أمره، حسب تعبيره. سعيد يخبر زبونه بما يجب عليه أن يفعل، ويتحدث معه في تفاصيل كثيرة، ويمده بمعلومات عنه حتى يبدو وكأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ سنوات خلت، وبعد الاتفاق على التفاصيل المملة يتفاوض على الثمن الذي يأخذ نصفه قبل الشهادة والجزء الثاني بعد الإدلاء بها أمام القضاء. والخطير في أمر هذا الشاهد أنه يفتخر بفتوحاته كإدخال شخص السجن وتبرئة آخر وإرجاع أرض الى صاحبها . قضية ضرب وجرح وعنف ضد زوجة كانت حكاية متداولة بين شهود زور، ذلك أن أحدهم سبق وأن أدلى بشهادة يفيد من خلالها أن الزوج المعتدي صديقه وقد كان برفقته في مدينة أخرى منذ ثلاثة أيام وهي الفترة التي تدعي فيها الزوجة انه اعتدى عليها وأكد امام القضاء ان ما تدعيه الزوجة مجرد وهم ومحاولة منها للإيقاع بصديقه الذي يعرفه منذ اكثر من ثلاث سنوات ،في الوقت الذي لم يتعرف عليه إلا منذ اقل من ساعة . الطب النفسي يصف شهادة الزور بلعبة الأدوار الدكتور عبد الرحيم عمران المختص في علم النفس الاجتماعي، يعتبر حالة شاهد الزور ، أنها حالة معروفة لدى علم النفس تسمى ىلعبة الأدوار، وهي وضعية تتطلب من الشاهد القيام بمهام التلاعب والغش مقابل غرض اجتماعي، كالشهادة زورا نزولا عند رغبة قريب أو صديق، أو مقابل أجر مادي، وهو في الحالتين يجب أن يدخل في مفاوضات نفسية داخلية مع ذاته لإقناعها إما بالتضحية، أو بمنطق السوق والبيع والشراء، وهو سيكولوجيا يضع المقابل المادي قبالة الشعور بوخز الضمير، يطلب شاهد الزور داخليا الراحة النفسية مغيبا المرجعية الوجدانية للخروج من أي ألم وإن كانت شهادته حاملة لضرر جسيم. ويؤكد الدكتور عمران أن شاهد الزور عادة غير معني بمخلفات السلوك ويضع شهادته في ميزان السوق، بعدها يستطيع القيام بهذه الشهادة لسهولتها من الناحية المادية حيث لا يكلفه الكلام أي شيء، ويندمج في دوره، دون أن ننسى أن شاهد الزور لابد له من الدخول في خطة وقائية هدفها تبرير هذا السلوك المرفوض، باستعمال آليات دفاعية تنعكس على تأنيب الضمير، وليتخلص من الإحساس بالذنب». أثرياء شهادة الزور في المجال العقاري ثري الزور في الملفات العقارية، غالبا ما يكون مالكا لسيارة ويعيش حياة البذخ جراء ما يجنيه من شهادة الزور في الملفات الكبرى .فشاهد الزور المحترف يكون معروفا وسط العديد من المصالح المرتبطة بالمجال العقاري، ويتحرك بناء على معلومات دقيقة تتعلق بالملفات العقارية ، خاصة وان مافيات العقارات تعتمد السرية والسرعة في إنجاز وثائق الاستيلاء على العقارات وتحتاج الى شهود وموظفين عموميين وأطر بالمحافظة . الا ان الاعتماد على شهود الزور في إنجاز استمرار الملكية أو تحويل العقود من اسم الى اسم ، كلها تعتمد على الشهود وكلما ارتفعت قيمة العقار ارتفعت قيمة شهادة شهود الزور التي تصل احيانا الى نسبة مئوية من قيمة العقار لكنه لا يعتمد على وثائق مزورة . بعد امتهان الزور من قبل المدمنين على بيع الشهادة، تصبح عملية الربح سريعة في تحقيق أكبر قدْر من المال، حيث تظهر مظاهر حياة الرفاهية على أصحاب هذه المهنة وتتحول بطالتهم إلى شغل منتظم، بعدما أصبح سهلا جني المال من هذه الحرفة، رغم ما لها من انعكاسات سلبية على سير العدالة وعدم تحقيق الطمأنينة للمظلوم. ممتهنو مهنة شهادة الزور «المحترمون» ، على حد تعبير محام من هيئة الجديدة، يعيشون وضعية مريحة ماديا ويختلف مدخولها انطلاقا من درجة «إتقانها»، وبالتالي عائداتها المالية عليهم، حيث تختلف الشهادة حسب الملفات الجنائية والجنحية والعقارية.. ويضيف المتحدث ذاته أن الملفات العقارية أو الأراضي المتعلقة بنزع الملكية قد يجني من ورائها شاهد الزور الملايين مقابل إدلائه بوقائع غير صحيحة.. ويشجع الحصول على مبالغ مالية كعائدات من شهادة الزور ، الشخص الذي يدلي بها على الاستمرار في مهنته، دون تقدير السلبيات التي يتعرض لها الضحايا، بعد أن تحمل الهيئة القضائية على محمل الجد تصريحات الضحايا. تعويض لشهود الإثبات رغم أن المحاكم الابتدائية والجنائية لا توفر للشاهد أدنى تعويضٍ ولو كلّفه ذلك مجهودا في حياته أو تعرض للتهديد، يبقى للشهادة في المحكمة العسكرية طعمها الخاص. فالشاهد الذي يساعد المحكمة العسكرية في الوصول إلى حقيقة ثابتة في الملفات المعروضة عليها من المراكز القضائية للدرك الملكي، توفر له الأخيرة تعويضا ماديا، لكنْ بشرط أن يكون الشاهد ممن لا تتوفر فيه مواصفات شاهد الزور ويسعى إلى تنوير العدالة لفك لغز الملف الموجود بين قضاة المحكمة العسكرية وليس إلى تضليلها ويشجّع هذا التعويض الشهود على الانتقال من مناطق بعيدة في المغرب إلى مقر المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية في الرباط، لتنوير الملفات القضائية المعروضة عليها من قبل الضابطة القضائية. عقوبة شهادة الزور من سنة إلى خمس سنوات لايزال القضاء المغربي يعتبر الشهادة أساسا في الوصول إلى الحقائق المتعلقة بالملفات المختلفة، فكلما تضمّنَ الملف وقائع تتعلق بالشهادة كلما كانت الطريق سهلة للوصول إلى الحقائق، إذ يأمر القاضي رئيسُ الجلسة الشاهدَ بأداء الشهادتين، لقطع الشك باليقين في قول الحقيقة وتنوير الملف الموجود بين أيديهم، قبل أن يأمر الشاهد بمغادرة القاعة، كإجراء احترازي قصد اختباره في الوهلة الأولى، وجعله يعتقد أن الهيئة القضائية تتحرى في تصريحات المتهم والضحية قبل الوصول إلى الحقيقة. يقول أحد القضاة الذين التقتهم «الاتحاد الاشتراكي»، إن القانون الجنائي حدد عقوبة الشاهد بالزور بين سنة وخمس سنوات سجنا نافذا، حسب خطورة الشهادة المقدمة أمام القاضي، وإذا كشف الأخير وقائع مغلوطة قصد تضليل العدالة، فإنه يتم اتخاذ العقوبات طبقا للقانون الجنائي من طرف رئيس الجلسة. وأوضح أن شهادة الزور تختلف بين ما هو عقاري أو جنائي أو جنحي أو مدني.. حيث يتم تدوين تصريحات الشاهد في محضر ويمثُل الشاهد أمام القضاة في الملف الذي أدلى فيه بوقائع غير صحيحة، أو يمكن أن يتحرك المتضرر من التصريحات المغلوطة للشهادة ويسجل شكاية لدى النيابة العامة، التي تأمر الشرطة القضائية بالتحقيق في ثبوت شهادة الزور، لكون تصريحات من هذا القبيل تتسبب في قلب حقائق الملفات، مما يتسبب في إلحاق أضرار بالمتقاضين وبالعدالة. واعتبر المتحدث ذاته أن العقوبة تبقى كذلك مرتبطة بالقاضي، حسب اجتهاداته وسلطته التقديرية في الملف الذي يبت فيه والأخذ بعين الاعتبار الأضرار السلبية التي تسبب للضحية أو المتهم الذي يتحول إلى ضحية بعد كشف ثبوت عملية الزور في الشهادة المُتضمَّنة في محاضر الضابطة القضائية. إن شهادة الزور كثيرا ما ضيعت حقوقا، وزيفت وقائع، وأعلت الظلم والباطل على الحق والعدالة، لكن التجربة أثبتت أن كل هذه العوامل مجتمعة، لا تساوي لحظة واحدة من عذاب الضمير، وفي انتظار أن يصحو ضمير شاهد الزور، سيبقى محيط المحاكم عبارة عن « سوق ممتاز» تستطيع فيه شراء شهادة على مقاسك.