في محيط المحاكم يتحرك أشخاص مريبون، يتربصون بالمتقاضين أو يطلقون وسطائهم لاصطياد الراغبين في خدمة خاصة، شروطهم كثيرة وأجورهم تختلف، وهم مستعدون لتبني قضيتك بقوة حسبما تجود به جيوبك، شهود الزور ظاهرة قديمة/ جديدة، لكنها حرفة خطيرة تنضاف إلى الأوبئة المتربصة بالقضاء في المغرب. في سيارة بأحد الأسواق الكبرى بحي عين السبع يجلس (م) يحتسي قهوة سوداء ويتحدث إلى شخصين أحدهما يعرفه جيدا والآخر يلتقي به للمرة الأولى، صديق(م) هو وسيطه وصائد زبنائه، بينما يبدو الشخص الآخر في وضعية المتوسل وهو يخرج من ظرف كبير بعض الوثائق.. (م) شاهد زور محترف، يعرف الشيء الكثير عن المسطرة الجنائية والمدنية والتلبس، وهو يلعن الزمان لأنه لو كان أكمل دراسته لكان قاضيا أو محاميا، يدرس (م) الملف جيدا ويسأل عن تفاصيل كثيرة، وهو يتقاضى حسب نوعية القضية ويأخذ فترات استراحة كي لا ينكشف أمره، (م) متأكد من أن الشرطة القضائية وأفرادا من النيابة العامة يعرفونه جيدا، لكنه اتخذ كل الاحتياظات الازمة، وهو يجعل من موقف السيارات بهذا السوق محل عمله، أو المكتب كما يسميه، ويقول «إن هذا العمل له أصول وقواعد!..» يخبر (م) زبونه بما يجب عليه أن يفعل، ويتحدث معه في تفاصيل كثيرة، ويمده بمعلومات عنه حتى يبدوا وكأنهما «معرفة قديمة»، ثم يأخذ جزءا من المبلغ قبل الشهادة والجزء الثاني بعد الإدلاء بها أمام القضاء.. ألا يتذكرك القاضي؟، يجيب (م) «القاضي لا يتذكر حتى عشاءه لأنه يفصل في آلاف القضايا»، «ثم ينطلق (م) في سرد أمجاده وكيف كانت شهادته سببا في براءة البعض، وإرجاع حقوق البعض..!!» صاحب التخصص في مقهى يعرفه جميع المتقاضين خلف محكمة الدارالبيضاء، يجلس شهود جاهزون وسماسرة رشوة ووسطاء غير شرعيين، يدخل (س) إلى المقهى وهو يبحث عن شخص معين، يشير إليه الشخص بالاقتراب من الطاولة، يدس في يده مبلغ 400 درهم، وينطلقان في اتجاه المحكمة، الشاهد المحترف سيقسم أمام القاضي بما رآه وشاهده بأم عينه !! وسيقول بأنه سافر مع المتهم ليلة اتهام زوجته له بالاعتداء عليها إلى مدينة مجاورة حيث سيقضون هناك يومين كاملين، مؤكدا أن الزوجة المدعية ضربت نفسها لتلصق التهمة «بصديق عمره» الذي تعرف عليه منذ أقل من أسبوع !!.. شاهدنا مختص في الملفات الجنحية وهو لا يشهد في القضايا المدنية أو العقارية، لكنه بين الفينة والأخرى يشهد لدى العدول في عقود يعتبرها عملا صغيرا وغير مذر للربح، يتذكر كيف أنه أول مرة شهد لدى عدل أن شخصا يعيل عائلته من أجل الإفلات من الخدمة العسكرية، وتلقى مبلغا ماليا وهو ما جعله يكتشف هذا المورد. المتاهة النفسية في اتصال ب«فبراير.كوم» يحلل الدكتور عبد الرحيم عمران المختص في علم النفس الاجتماعي، «حالة شاهد الزور على أنها حالة معروفة لدى علم النفس تسمى «لعبة الأدوار»، وهي وضعية تتطلب من الشاهد القيام بمهام التلاعب والغش مقابل غرض اجتماعي، كالشهادة زورا نزولا عند رغبة قريب أو صديق، أو مقابل أجر مادي، وهو في كلتا الحالتين يجب أن يدخل في مفاوضات نفسية داخلية مع ذاته لإقناعها إما بالتضحية، أو بمنطق السوق والبيع والشراء، وهو سيكولوجيا يضع المقابل المادي قبالة الشعور بوخز الضمير، يطلب شاهد الزور داخليا الراحة النفسية مغيبا المرجعية الوجدانية للخروج من أي ألم وإن كانت شهادته حاملة لضرر جسيم. الدكتور عمران يستطرد في موضوع الآثار النفسية لشهادة الزور قائلا: «وهو عادة غير معني بمخلفات السلوك ويضع شهادته في ميزان السوق، بعدها يستطيع القيام بهذه الشهادة لسهولتها من الناحية المادية حيث لا يكلفه الكلام أي شيء، ويندمج في دوره، دون أن ننسى أن شاهد الزور لابد له من الدخول في خطة وقائية هدفها تبرير هذا السلوك المرفوض، باستعمال آليات دفاعية تنعكس على تأنيب الضمير، وليتخلص من الإحساس بالذنب». أثرياء الزور في الملفات العقارية، غالبا ما يكون الشاهد رجلا قد اغتنى من شهادات سابقة، لذلك ستجده يتجول بسيارته وقد انتقل إلى مرحلة البحث عن المتقاضين بدل الجلوس وانتظارهم في المقاهي أو أمام بوابات المحاكم، لشاهد الزور المحترف مخبرون وأعوان في مختلف المصالح المرتبطة بالمجال العقاري، وبمجرد ما يصل إلى علمه أن هناك مشكلا حول قطعة أرضية ذات قيمة، يباشر اتصالاته و يبدي استعداده لتقديم خدماته، مصدر مقرب من الدوائر القضائية يقول ل «أخبار اليوم»، «الغريب في طريقة عمل هذا الشاهد أنه يلعب على الحبلين، وقد يغير شهادته مقابل مبالغ أكبر، وهو شخص يشتغل بطريقة المخبر الخاص، يجمع معلومات، ثم يبدأ في التفاوض، لكنه لا يعتمد على وثائق مزورة أو يمارس النصب»، ثم يعقب ساخرا إنه شاهد زور يحترم مهنته.. هذا الشاهد لا يشتغل إلا مرتين أو ثلاثة في السنة وإذا كنت محتاجا لإثبات ملكية أو طرد مكتري ستجده جاهزا للشهادة حسب المبلغ الذي يقدره كما تستوجب قيمة العقار، ينشط كثيرا في المناطق التي لم يصلها التحفيظ أو تستعمل أوراق ملكية تقليدية، حيث يتسع هامش شهادة الزور.. صعوبات قانونية المحامي والباحث أحمد تبري، في تصريح ل«أخبار اليوم»، أشار إلى الصعوبات التي تكتنف عمل رجال القانون سواء كانوا محامين أو قضاة، في ضبط شهادة الزور المدلى بها شفويا أمام الشرطة أو المحكمة، عكس الزور الفرعي الذي يمكن كشفه أو إثباته ما دام يتعلق الأمر بالوثائق، حيث يمكن إجراء خبرة أو التحقق من صحة الوثيقة المدلى بها، وقال الباحث في القانون العقاري، إن إشكالية أخرى تتعلق بتحقق شهادة الزور والمتمثلة في اليمين الذي يعد أول أساس ننطلق منه لتحديد شهادة الزور، فالناس يستغلون اليمين لتغيير مناحي القضايا وهنا تضيع حقوق وقد يسجن أبرياء. اليمين يبيح لشهود الزور التصرف في مصائر الناس، لأن شاهد الزور يستهين بالقسم الذي يعد في نظره كلمات ينطقها فقط، هنا يجب على المشرع مراجعة قيمة اليمين في الشهادة.. ويرى المحامي أحمد تبري أن المحكمة المغربية لا تعرف عرض شهود الزور إلا نادرا لسببين، أولا صعوبة التمكن منه، ثانيا كون المحكمة تركت للمتضرر رفع دعوى الطعن في الشهادة. لكن يبقى من حق المحكمة تحريك تهمة الشهادة الزور، إذ خول المشرع الجنائي للمحكمة السلطة الجوازية في تحريك الاتهام الفوري ورفع الدعوى الجنائية ضد من يرتكب جنحة أو مخالفة أثناء الجلسة، ومحاكمته على اقترافه تلك الجريمة، وذلك بموجب المادة 244 من قانون المسطرة الجنائية، «وفي جميع الأحوال يحرر رئيس المحكمة محضراً، ويأمر بالقبض على المتهم إذا اقتضى الحال ذلك». وتندرج شهادة الزور ضمن ما يصطلح عليه بجرائم الجلسة التي تخضع لعدد من الإجراءات، فقد قضى المجلس الأعلى سابقا بأن: « للمحكمة بمقتضى القانون أن توجه في الجلسة تهمة شهادة الزور إلى كل من ترى أنه لا يقول الصدق من الشهود وأن تأمر بالقبض عليه، وذلك على اعتبار أن شهادة الزور من جرائم الجلسة» ( نقض في 5/11/1957 – (مجلة أحكام النقض س 8 ق 237 ص 872). القانون والعقوبات والمجتمع كلها عوامل تتربص بشهادة الزور، شهادة الزور التي ضيعت حقوقا، وزيفت وقائع، وأعلت الظلم والباطل على الحق والعدالة، لكن التجربة أثبتت أن كل هذه العوامل مجتمعة، لا تساوي لحظة واحدة من عذاب الضمير، وفي انتظار أن يصحو ضمير شاهد الزور، سيبقى محيط المحاكم السوق الممتاز الذي تستطيع فيه شراء شهادة على مقاسك.مواقف فاضحة عندما وقف الشاهد أمام المحكمة كان قد تزود بكل المعلومات التي تقوي شهادته، وتجعله يتمم الاتفاق بينه وبين طالب الشهادة الذي دفع مقابل شهادته مبلغا محترما، ولكن التضييق في أسئلة القاضي الموجهة إليه جعلته يرتبك، ويصرح بأنه لا يتذكر وجه المدعى عليه جيدا، مما جعل مستأجره يستشيط غضبا ويقول أمام المحكمة إنه لا يعرفه وإنه دفع له مبلغ ألفي درهم مقابل تثبيت التهمة على خصمه، وكاشفا أنه اتفق معه بواسطة شخص يرابط بالمقهى المجاور للمحكمة، وأنه شخص يبيع شهادات الزور، ضجت القاعة بالضحك، وصيحات الاستهجان، وطلبت النيابة العامة إثبات ذلك في محضر المحاكمة، واعتقل الشاهد المزيف في عين المكان.. لكن في أغلب الأحيان إذا اكتشفت المحكمة زور الشهادة يكون على المتضرر رفع دعوى بمساندة النيابة العامة.. في جلسة أخرى، طلب القاضي من المتهم الذي كان يستعين بشاهد زور، أن يختم كلامه، ونظرا لأن المتهم رجل أمي وينحدر من قرية نائية، طلب من القاضي أن يعفى من مصاريف الدعوة بما فيها ما تبقى في ذمته للشاهد !! عندما يتحدث القضاة همسا فيما بينهم، يزداد توتر شاهد الزور، وهذه تقنية غالبا ما يلجأ إليها القضاة عند الشك في وقائع يرويها الشاهد، يطلب من الشاهد مغادرة القاعة إلى حين المناداة عليه، فإذا كان محترفا، صمد وأصر على أقواله، وإذا كان مهزوزا أو مبتدئا، هرب من المحكمة خشية اعتقاله. شروط تحقق شهادة الزور 1 - يتعين أن يكون الشاهد قد حلف اليمين، لأن الشاهد الذي يعتد به في المحاكمات الجنائية وغير الجنائية هو من حلف اليمين، إعمالاً لنص المادة 283 من قانون المسطرة الجنائية، فبهذا القسم تكون للشهادة قيمتها، و يجعل للشاهد ذكرى بحرمتها عند الله تعالى، و يجب أن يكون حلف اليمين والشهادة أمام المحكمة، لأن الشهادة المعاقب عليها هي التي تحصل أمام القضاء وليس أمام أي جهة أخرى. ولذلك لا عقاب على شهادة الزور التي لم تحصل أمام القضاء، فإذا شهد شاهد أمام النيابة العامة أو غيرها من الجهات بشهادة الزور فلا يعد مرتكباً لجريمة شهادة الزور. فقد قضى المجلس الأعلى أو محكمة النقض حاليا في ذلك بأن : «.. و إذ كان ذلك وكان الثابت من الشهادة المسندة إلى المطعون ضده أنها لم تحصل أمام القضاء، وإنما أدلى بها في تحقيقات النيابة، فإن الواقعة لا تتوافر بها العناصر القانونية لجريمة شهادة الزور» ( نقض في 2/5/1972 – أحكام النقض س 22 ق 94 ص 384). 2 - يجب على المحكمة التي وقعت شهادة الزور أمامها أن تقوم بتحريك الاتهام حال انعقاد الجلسة وقبل قفل باب المرافعة في الدعوى، فإن تراخت حتى انتهاء المرافعة أو لم تكتشفها إلا بعد قفل باب المرافعة لم يكن لها الحق في تحريكها، وإنما تحرك الدعوى حينئذ بالطريق العادي لرفع الدعوى وفقاً للقواعد العامة، أي عن طريق النيابة العامة ، فإن حركتها رغم ذلك وقع ذلك الإجراء باطلاً، فقد نصت المادة 246 من قانون الإجراءات الجنائية على أن: ( الجرائم التي تقع في الجلسة و لم تقم المحكمة الدعوى فيها حال انعقادها يكون نظرها وفقاً للقواعد العامة).