هي مهنة لا يعرف الكثيرون خباياها وأسرارها، بعدما أصبحت مورد رزق للعشرات من الأشخاص الحاملين لمهنة «شاهد زور».. يتربصون بالمقاهي القريبة من المحاكم ومراكز الأمن، لتضليل العدالة، بدل تنويرها، يتلقون مقابل مبالغ مالية، حسب نوعية «الخدمة» المؤداة في الملف، غير مدركين العواقب الوخيمة التي تتسبب فيها شهادة الزور، والتي ترمي بصاحبها في النهاية وراء القضبان بعقوبات حبسية ثقيلة.. وجوه شاحبة تقضي ساعات طوالا في المقاهي القريبة من المحاكم ومراكز الضابطة القضائية. ينتظرون المتقاضين كلما أرادوا شاهدا يدعم قضيتهم، ولو كانت شهادته «باطلة».. هذا هو حال العشرات من الممتهنين لمهنة «شاهد زور»، مقابل مبالغ مالية تختلف حسب نوعية الملفات، بين ما هو مدني وجنائي وعقاري، ولو كلّفهم ذلك القسَم بالشهادتين أمام الهيئة القضائية أو مصالح الأمن دون علمهم بالوقائع الصحيحة.. «مهنة» أصبحت لدى البعض مورد الرزق الوحيد، بعد أن يتذوق الشاهد طعمها مباشرة بعد أدائه الشهادة أمام أعين المحققين أو القضاة، فأصبح الهاجس اليومي لهذه الفئة هو «سقوط» الباحثين عن الإفلات من العقاب بين أيديهم، قصد قلب حقائق ملفات القضايا الجنحية والجنائية والعقارية.. اعتاد «أحمد» على الجلوس بالقرب من مقاهي محاكم سلاوالرباطوتمارة. ينتظر رنين هاتفه، عسى أن تكون المكالمة من متهم أو ضحية في الملف يرغب في البحث عن شاهد له. لقد ذاق أحمد «كاميلة» شهادة الزور مقابل مبلغ مالي، بعدما أدلى بتصريحات أمام الضابطة القضائية لا علم له بها. يتحدث «أحمد» ولون وجهه يتغير بين الفينة والأخرى، قائلا إن مهنة شهادة الزور أصبحت بمثابة «إدمان» بالنسبة إليه للحصول على مورد رزق، فكلما أشرقت شمس يوم جديد واستيقظ هذا الشخص إلا وفكر في التوجه إلى المقاهي القريبة من المحاكم لأداء خدمات للمتقاضين، ولو كانت شهادة الزور، التي أصبحت كخدمة مؤدى عنها. يقول «أحمد»، الذي جعل من هذه المهنة مورد رزقه الوحيد، إن الإنسان المدمن على المخدرات أو الأقراص المهلوسة أو الكحول يستطيع أن يقلع عن إدمانه، بينما لا يستطيع «الشهود الذين يتحولون من شهود إثبات إلى شهود زور التخلي عن هذه المهنة». «مرض» ينخر جسد شهود الزور رغم العواقب الوخيمة التي يمكن أن يسقط فيها شاهد الزور، وهو يقوم بتضليل العدالة، فإنه يصبح إنسانا غير طبيعي، حيث يصاب ب«مرض» لا يراعي الأخلاق أو التبعات القضائية في حالة سقوطه بأدلة قطعية أمام الهيئة القضائية، تثبت أنه شاهد زور. يقول المحامي عبد الهادي المنبري إن المقاهي القريبة من المحاكم أصبحت تعج بالعشرات من هذا النوع، بعدما أصيبوا بهذا «المرض» في تحقيق أرباح مادية على حساب تضليل العدالة عن طريق التصريح أمام القضاة بوقائع غير صحيحة. بعدما يدمن شاهد الزور على هذه المهنة، كلما تمت المناداة عليه من قِبَل أحد أطراف القضية، إلا ويظهر على محياه تناقض في شخصيته، وقد يعاني من انفصام في الشخصية.. يحكي مصدر أمني أن شاهد الزور سرعان ما يرتبك لحظة الاستماع إليه: «أثناء الشهادة، يتم أخد جميع الاحتياطات»، يؤكد المصدر ذاته، مضيفا أن المحققين يعملون على اتخاذ كل الإجراءات والاحترازات، لكون الشهادة هي التي تنير الملف، وتؤدي في النهاية إلى الوصول إلى الحقيقة. قد يستغرق الوقت حيّزا زمنيا طويلا في كشف سر شهادة الإثبات، وتعمل المصالح الأمنية على الاتصال بمخبريها لمعرفة مدى وجود عداوة بين الشاهد والشخص المشهود في حقه، حيث تكتشف المصالح الأمنية في بعض الحالات أن الشاهد يُبيّت تضليل العدالة قصد «تصفية حسابات» شخصية مع الطرف الآخر، حيث يتم طرده من مصلحة التحقيق والتخلي عن تصريحاته، ولو كانت مُتضمَّنة في الشكاية الموجهة للنيابة العامة في البداية، بعدما تتم إحالتها على الشرطة القضائية. وأكد المصدر الأمني أن المصالح الأمنية تذكر في المحاضر أن شاهد الإثبات لا يتوفر على معرفة مسبقة بالطرف الآخر ولا عداوة بينهما، في حالة عدم وجود نية تصفية حسابات بين المتقاضي والشاهد، وهو ما يساعد القاضي على الاطلاع المسبق على نوعية العلاقة التي تربط الشاهد والضحية والمتهم.
قلب حقائق الملفات رغم المجهودات التي تبذلها النيابة العامة والضابطة القضائية، يظل للشهادة دور مهم في تنوير الحقائق المتعلقة بالملفات داخل مؤسسة التحقيق، لكن شهادة الزور تقلب كل الحقائق المرتبطة عندما يشهد الإنسان بغير حق، ومن شأنها أن تُعِين الظالم على ظلمه وتعطي الحق لغير مستحقه. يقول محام من هيئة الرباط إن شهادة الزور تعكس الحقائق المرتبطة بالملفات رغم كل الحجج التي يتقنها الشاهد في تصريحاته، فيدمر كل «المساعي التي تسعى العدالة إلى تحقيقها قصد الإنصاف بين المواطنين». يحكي «أحمد» أن امتهان شهادة الزور لمدة طويلة جعلته يتقن كل الحيّل الماكرة في التصريح بالشهادة الباطلة أمام أعين القضاة والمحققين من الضابطة القضائية، وفي كثيرا من الحالات ساهمت «شهادته» في إصدار أحكام قضائية كان يدرك أنها كانت في غير محلها، بعدما تسلم مبالغ مالية مقابل إيفاء المحققين بشهادة كاذبة.. العيش في «رفاهية» بعد امتهان الزور من قبل المدمنين على هذه «بيع» الشهادة، تصبح عملية الربح سريعة في تحقيق أكبر قدْر من المال، حيث تظهر حياة الرفاهية على أصحاب هذه «المهنة» وتتحول بطالتهم إلى شغل منتظم، بعدما أصبح سهلا جني المال من هذه «الحرفة»، رغم ما لها من انعكاسات سلبية على سير العدالة وعدم تحقيق الطمأنينة للمظلوم. يحكي محام من هيأة الرباط أن المقاهي والنوادي القريبة من المحاكم ليس بين من يمتهنون هذه الشهادة مَن لا يتوفرون على سيارات وعلى سكن يجعلهم في وضعية «مريحة». وأكد المتحدث ذاته أن ممتهني هذه «المهنة» تختلف درجة «إتقانها» وبالتالي عائداتها المالية عليهم، حيث تختلف الشهادة حسب الملفات الجنائية والجنحية والعقارية.. ويضيف المتحدث ذاته أن الملفات العقارية أو الأراضي المتعلقة بنزع الملكية قد يجني من ورائها شاهد الزور الملايين مقابل إدلائه بوقائع غير صحيحة.. ويشجع الحصول على مبالغ مالية كعائدات من شهادة الزور الشخص الذي يدلي بها على الاستمرار في «مهنته»، دون تقدير السلبيات التي يتعرض لها الضحايا، بعد أن تحمل الهيئة القضائية محمل «الجد» تصريحات الضحايا. دور الشهادة ما يزال القضاء المغربي يعتبر الشهادة أساسا في الوصول إلى الحقائق المتعلقة بالملفات المختلفة، فكلما تضمّنَ الملف وقائع تتعلق بالشهادة كلما كانت الطريق سهلة للوصول إلى الحقائق، إذ يأمر القاضي رئيسُ الجلسة الشاهدَ بأداء الشهادتين، لقطع الشك باليقين في قول الحقيقة وتنوير الملف الموجود بين أيديهم، قبل أن يأمر الشاهد بمغادرة القاعة، كإجراء احترازي قصد اختباره في الوهلة الأولى، وجعله يعتقد أن الهيئة القضائية تتحرى في تصريحات المتهم والضحية قبل الوصول إلى الحقيقة. يقول المحامي المنبري إن الضغوط التي يتعرض لها الشاهد عندما تتقاطر عليه أسئلة القضاة تجعل قول الحقيقة صعبا، بعدما يدرك الشاهد أنه سيقع في الفخ عن طريق التناقض في الحقائق. كان «مصطفى»، في يوم من الأيام، في أحد مقاهي مدينة تمارة، وحدث أن شاهد ضحية يتعرض لاعتداء خطير في الشارع العام، وبعدما طلب منه الأخير الإدلاء بشهادته أمام الضابطة القضائية، لم يرفض مصطفى قول الحقيقة. يضيف المنبري أن الشاهد حينما تقاطرت عليه الأسئلة بعد أدائه القسم، تراجع عن تصريحاته وأدلى أمام القضاة بأنه «رأى فقط يدا تقوم بتوجيه لكمات إلى الضحية دون أن يرى المتهم بشكل واضح»، حيث انفجر الحضور في القاعة ضاحكين، وتراجعت الهيئة القضائية عن الأخذ بتصريحات الشاهد للوصول إلى الحقيقة كاملة في شأن تعرض الضحية للاعتداء بالضرب والجرح الخطيرين. تعويض لشهود الإثبات رغم أن المحاكم الابتدائية والجنائية لا توفر للشاهد أدنى تعويضٍ ولو كلّفه ذلك مجهودا في حياته أو تعرض للتهديد، يبقى للشهادة في المحكمة العسكرية طعمها الخاص. «ينتظر الشاهد الذي يوصل إلى الإثبات شيكا في الطابق الأسفل من المحكمة العسكرية»، يقول المحامي المنبري، مضيفا أن الشاهد الذي يساعد المحكمة العسكرية في الوصول إلى حقيقة ثابتة في الملفات المعروضة عليها من المراكز القضائية للدرك الملكي توفر له الأخيرة تعويضا ماديا، لكنْ بشرط أن يكون الشاهد ممن لا تتوفر فيه «مواصفات» شاهد الزور ويسعى إلى «تنوير» العدالة لفك لغز الملف الموجود بين قضاة المحكمة العسكرية وليس إلى «تضليلها». و«يشجّع» هذا التعويض الشهود على الانتقال من مناطق بعيدة في المغرب إلى مقر المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية في الرباط، لتنوير الملفات القضائية المعروضة عليها من قبل الضابطة القضائية. في المحاكم الابتدائية والجنائية يرتبك القضاة في الملفات المعروضة عليهم، والتي تتوفر على شهود في الشكايات الموجهة للنيابة العامة أو للمصالح الأمنية، لكن القاضي غالبا ما يهمس بكلمات في أذن رئيس الجلسة أو أحد أعضائها، لإيقاع الشاهد في الفخ حول بعض المعلومات التي يبدو أنها «غير واقعية» في التصريحات المُتضمَّنة سابقا أمام الأمن. أمر رئيس الجلسة الشاهد بمغادرة القاعة إلى حين المناداة عليه. سأل كل واحد عن تاريخ ازدياده ومقر سكناه، وبعد عملية التقاضي والحصول على المعطيات الأولية في حول الملف المطروح أمام المحكمة، نادى «الشاوش» على شاهد الإثبات بأمر من القاضي، حيث كانت أعيُن القضاة مركزة عليه، وبعد وقوفه أمامهم، ارتبك في الحديث مع القضاة، قبل أن تتخلى الهيئة عن شهادته، بعدما أدركت أنه لا يتوفر على معطيات صحيحة، وبدا عليه أنه شاهد زور. انسحب شاهد الزور بسرعة من قاعة الجلسة وغادر المحكمة، بعدما كان يظن أن رئيس الجلسة سيأمر باعتقاله داخل المحكمة ومتابعته في حالة اعتقال بتهمة شهادة الزور، لكن الحظ حالف هذا الشاهد الذي أفلت من السجن. يقول المنبري إن الهيئة القضائية غالبا ما تتخلى عن الشاهد الذي يظهر على وجهه أن لديه حقائق ثابتة، ولو كانت الشكاية الموجهة إلى النيابة العامة تتضمن أسماء الشهود منذ البداية وتتوفر محاضر الضابطة القضائية على تصريحاتهم. عقوبات تنتظر شهود الزور بعد الإدلاء بشهادة الزور أمام الهيئة القضائية، يتخلى القضاة عن التصريح بهذه الشهادة، حيث لا يتم اعتقالهم من داخل الجلسة إلا في مرات نادرة، حينما يقوم المتهم برفع دعوى قضائية ضد شهادة الزور، حيث تأمر النيابة العامة الشرطة القضائية بالتحقيق في الملف، وتتم إحالة الظنين على المحكمة بتهمة شهادة الزور، كما يتم تدوين التصريحات غير الحقيقية من قبل القاضي وتشرع المحكمة في محاكمته انطلاقا من التباين المُسجَّل في المحاضر. ويرى المحامي المنبري أن خطورة العقوبات الحبسية تختلف على الضحية أو المتهم الذي يتحول إلى «بريء» في نهاية المحاكمة، حيث تختلف العقوبة حسب اجتهاد القاضي الذي يحكم في القضية.
عقوبة شهادة الزور من سنة إلى خمس سنوات قال المحامي التهامي الدكالي إن القانون الجنائي حدد عقوبة الشاهد بالزور بين سنة وخمس سنوات سجنا نافذا، حسب خطورة الشهادة المقدمة أمام القاضي، وإذا كشف الأخير وقائع مغلوطة قصد تضليل العدالة، فإنه يتم اتخاذ العقوبات طبقا للقانون الجنائي من طرف رئيس الجلسة. وأوضح الدكالي أن شهادة الزور تختلف بين ما هو عقاري أو جنائي أو جنحي أو مدني.. حيث يتم تدوين تصريحات الشاهد في محضر ويمثُل «الشاهد» أمام القضاة في الملف الذي أدلى فيه بوقائع غير صحيحة، أو يمكن أن يتحرك المتضرر من التصريحات المغلوطة للشهادة ويسجل شكاية لدى النيابة العامة، التي تأمر الشرطة القضائية بالتحقيق في ثبوت شهادة الزور، لكون تصريحات من هذا القبيل تتسبب في قلب حقائق الملفات، مما يتسبب في إلحاق أضرار بالمتقاضين وبالعدالة. واعتبر المتحدث ذاته أن العقوبة تبقى كذلك مرتبطة للقاضي، حسب اجتهاداته وسلطته التقديرية في الملف الذي يبت فيه والأخذ بعين الاعتبار الأضرار السلبية التي تسبب للضحية أو المتهم الذي يتحول إلى «ضحية» بعد كشف ثبوت عملية الزور في الشهادة المُتضمَّنة في محاضر الضابطة القضائية.