«إنها مدينة وليست مدينة، مدينة لها تاريخ وشيء آخر غير هذا التاريخ، مدينة مهددة في أسطورتها وآيلة للاختفاء لمّا يغمرها البحر.» (إدموند عمران المالح/ حوارات) العديد من الفلاسفة تخيلوا حلما و طوباوية مدنا فاضلة. «الجمهورية» لأفلاطون و«المدينة الفاضلة» للفارابي، و«حي بن يقظان» لابن طفيل واعتمدوا في ذلك على أحلامهم وتصوراتهم وطموحاتهم. كذلك الأمر لدى العديد من الروائيين ك «مدن الملح « لعبد الرحمن منيف و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ و«قلعة الموت» لأمين معلوف، و«أناس دبلن» أو «عوليس» لجيمس جويس... خماسية الأول تتحدث عما قبل المدينة في شبه الجزيرة العربية ثم بداية اكتشاف النفط والتحولات الكبرى التي لحقت بالصحراء: فالتيه والأخدود وتقاسيم الليل وبداية الكلمات والمنبت كلها لحظات درامية للقضاء والقدر ومصير بقعة من الصحراء، وهي أيضا لحظات نقد للتحول واستشراف لمخاطر الارتماء في أحضان الشيطان والحلم بمدينة بدوية طبيعية بسيطة تلقائية صادقة متخلقة صافية ... حارة الثاني.. حارة أونطولوجية تقف على مدى ظلم وجور القدر الذي حل بالبشر وخصوصا الضعفاء منهم منذ أن طرد لله آدم من الجنة طردا إلى أن أصبح الرب عجوزا لا يقوى على شيء أمام عبث الأشرار وقهر الطغاة. و الحلم بحارة عادلة خيرة قوية بات أماني فلسفية فنية. قلعة الثالث... مدينة الحشاشين الذين رفضوا السلطة المركزية وشيدوا لأنفسهم قلعة/مدينة لا يصلها إلا من أحبه هذا الحصن الحصين. كان زعيمها ومؤسسها حسن الصباح صديقا حميما لعمر الخيام وكان شيخا تقيا يملك مكتبة بها أسرار وكتب... أما مدينة «دبلن» فيقول عنها جويس نفسه ما يلي : «هاجسي كان هو كتابة فصل عن التاريخ الإيطيقي لبلدي إيرلندا واخترت دبلن للقيام بذلك. حاولت تقديم المدينة في مختلف أعمارها وكانت القصص المتضمنة في «أناس دبلن» مرتبة وفق تلك الأعمار. ليس لي من ذنب إذا فاحت رائحة الموت من الرميم والعشب السقيم عبر هذه القصص...» . ولئن تحولت «جمهورية» أفلاطون الآن إلى نظام «كلياني» برئاسته الواحدية وتربيته الحديدية وجيوشه النظامية، وتحولت «المدينة الفاضلة» إلى دويلات تيوقراطية... فإن الطوباوية الفلسفية قد تحولت إلى ديستوبيا ظلامية مزعجة كمدينة «الأخ الأكبر» والصوت الإذاعي الهلامي الأعظم والوشاية المراقبة لأنفاس الناس العزل في رواية «1984» لجورج أورويل أو رواية «فهرنهايت 451» لراي برادري، الهولوكوست الحارق للكتب والمتلف للذاكرة والأحلام . الحديث عن عفراء ينتمي إلى هذا الصنف من الحلم المغتال.. حلم سياسي طوباوي مصاغ في قالب فني تقني تطغى عليه تقنيات جديدة في المجال الروائي يمكن وصفها بالما بعد حداثية. الحداثة وما بعد الحداثة ليست مفاهيم زمنية ولا حقبية بالضرورة، بقدر ما هي براديغمات تشير إلى جماع خصائص متميزة في مجالات شتى كالمعمار والفلسفة والرواية والفن عموما. هكذا فالرواية العربية الحديثة هي تلك التي انفصلت عن الاقتباس والتقليد وتجاوزت تقنيات المقامات والكتابات البلاغية والأسلوب السجعي القديم، وانفتحت على الحبكة وحددتها في الزمان والمكان وربطتها بمصير شخصيات حقيقية أو مفترضة ووصفت وما اختزلت وعبرت عن المشاعر والأحاسيس وما بالغت ولا غالت (قنديل أم هاشم – الحي اللاتيني...). أما الرواية الما بعد حداثية فهي التي تنتقد الزمان ذو البعد الواحد والمكان المسطح المألوف وترفض الأحداث والمحكيات الكبرى وتميز بين المِؤلف والكاتب والسارد، وتشذر اللغة والشخوص والحوادث، وتزهد في المعنى الجاهز وتعتبره مستحيلا. السرد الجزئي أو اللعب أو السيمولاكر هي الإواليات المبتغاة، والسخرية والفكاهة والمزاح هي الأساليب المنتقاة، والتقطيع والاختلاف والتهجين هي التقنيات المصفاة. وتركز كل لذة النص بفصوله وتداخلاتها في الحلم باعتباره رؤيا واستشراف وبوح واستيهام وإمكانات تتجاوز الواقع وشروطه المضنية القاسية القاتمة القائمة (اللجنة – ذات – مدينة اللذة ). في هذا السياق تندرج رواية عبد الحفيظ مديوني «الحكاية الأخيرة» (2015). الكتابة حسبه حلم. ومن أبهى الأحلام. قصديته في بهائه الخلود. وعفراء في هذه الرواية مدينة من أبهى المدن. فيها تتحقق أبدية الحلم وأزليته. عفراء مفتاح الرواية ومدينة الحلم. هي في اللغة العربية من عفّر يعفّر معفّرة أي مرّغ وضمّخ ونفث التراب أو الألوان خاصة اللون الأبيض منها. و عفراء هي الأرض البيضاء التي لم تطأها قدم بعد. وهي أيضا من ليالي الشهر، الليلة الثالثة عشر من الشهر بالضبط. وتطلق على الحيوان كما تطلق على الإنسان. فعفراء هي الظباء ذكرها هو الأعفر. وهي علم مؤنث عربي ويهودي (أبناء العمومة) : عربيا مثل عفراء العذرية الشاعرة حبيبة عروة بن حزام. وعبريا هي عفراء هزاع (أو عوفرة حازة) مغنية يهودية من أصول يمنية كانت جميلة بتقاسيم عربية. ولا علاقة لعفراء- الرواية- بمدينة عفراء السعودية الآن إلا الإسم. جاء وصف عفراء بمستويات عدة مختلفة ومتصاعدة طيلة مسارات السرد في الرواية. بدأ بوصف غور عفراء الأرض الخلاء الموحشة (ص14) وأكد أن من ينتهي إليها يرى العجب العجاب: مباني ترابية موقرة، سفوح وتلال وهضاب خضراء بها زرع وضرع وماء مدرار زلال وهواء معتدل (ص15). لم يقصدها من قبل سوى المغامر التاجر أو صاحب نفس مطاردة أو من ضل الطريق أو مسه جان أو له رهانات كرهانات الحكواتي. ثم مع ارتدادات الزمن ستنكشف عفراء عذراء في التخوم الجنوبية لإمارة تسمى «ميسان» عاصمتها ذات النجذين. لها حدود مع البحر والشواطئ من جهة ومع الصحراء الكبرى من جهة ثانية ( ص35 ). عفراء أرض قابعة بين سلسلة جبال، خصبة هادئة بكر لم تطأها بعد قدم إنسان... عبارة عن فردوس لا يحلم به إلا من كان له حظ الاتقياء ( ص70 م71). كانت عفراء شامخة برجالاتها وبمثلها وأحلامها لكن عوادي الأيام ستخنقها كحلم في المهد لولا سارد مختار أو حكواتي مصطفى سيستنبت ذكراها من وحي خيال خلاق أو إلهام براق..( ص75). عفراء مدينة سياسية مدنية مبنينة مثلما بنين أفلاطون «جمهوريته» والفارابي «مدينته» وحسن الصباح قلعته. لها علم يغطي الأصفر كل مساحته بدائرة خضراء في الوسط وبها مجلس تدبير يحكمه ميثاق شرف بموجبه تؤول الرئاسة لوالي يرشحه ويصطفيه مجلس الحكماء المكون من سبعة أعضاء، مدة الولاية أربع سنوات، وتتخذ القرارات بالطرق الديمقراطية.. هذا على المستوى السياسي، أما على العمراني فقد تم تشييد مركز عام للحكم ودار للقضاء ودور للتعليم وبيت للمال العام ومارستان وإقامات للاستقبال وأماكن للعبادات المختلفة ومحلة للجيش والفروسية وفنون الحرب.. واستقر الاقتصاد على مناجم النحاس والفضة والذهب والمرمر، وسكت العملة المسهلة للدورة الاقتصادية تحت اسم «عفرة». وكما تلاشت كل الجمهوريات والمدن الفاضلة والقلعات والمحميات، كذلك تلاشت عفراء، عانت من جفاف لا عهد لها بمثل قساوته وامتد حر شمسها الحارق إلى الخريف والشتاء، نضبت العيون وانزعجت النفوس.. وسويت معالم عفراء بالتراب. كانت عفراء تحمل موتها في اسمها. كل أحداث الرواية الأساسية والثانوية تتقاطع وعفراء.. تمر عبرها أو تلامسها أو تريد بها شرا وتنكيلا أو خيرا و تبجيلا.. - أحداث سياسية (السلطة/ الاغتيالات/ الحرب/ الدسائس..): كسلطة الأمير أشرف المعتدلة، ثم سلطة ابنه المغير الجائرة واغتيال الأمير من طرف ابنه، وحروب ودسائس هذا الأخير وقتل فيصل مسموما على يد الطبيب الماكر سحنون.. - أحداث إنسانية (الحب/ الصداقة/ الوفاء...): كحب شاهد لعابرة، وصداقة أبي الفضل لفيصل ووفاء شاهد لأبي الفضل.. - أحداث تجارية (التبادل التجاري/ القوافل...): كتجارة أبي الفضل والوفود التجارية التي كانت تزور أسواق عفراء. - أحداث أخلاقية (اللطف/ النبل/ الصدق..): كلطف عماد و نبل عمار وصدق الحكواتي .. كل هذه الأحداث عادية بسيطة مألوفة في الرواية وبالتالي لا تشكل أي تميز لروايتنا حول عفراء. لكن ما يميزها حقيقة كونها الحكاية الأخيرة (السابعة) لسلسلة من ست حكايات يحكيها الحكواتي وهو من الشخصيات الأساسية في الرواية .. والتميز المقصود هنا لا يتوقف على الحكاية والحكواتي كتقنية فنية، ولا على الراوي راوية، ولا على المؤلف والسارد واستعانته بهذه المعينات، التميز يكمن في التباس شخصية الحكواتي، وتضعيفه، فهو شيخ يناهز الخمسين من عمره قوي البنية رشيقا أنيقا (ص19)، ثم هو شاب غلام يسمى شاهدا ذكيا نبيها وسيما، كثير المطالعة والبحث في التواريخ المختلفة (ص64): «سأمتع أهلها (عفراء) بأحداث حكاية من حكاياتي السبع «... (ص183)، وهو مخلوق سماوي تارة ومخلوق أرضي تارة أخرى، ثم هو أيضا المؤلف الذي ألف الحكاية الأخيرة.. هذا التضعيف الإمكاني نلمسه أيضا في حدث موت أو اغتيال الأمير أشرف، وفي حمل أو عدم حمل عابرة بنت فيصل، وفي تسمم هذا الأخير من عدمه... هكذا تتداخل الأحداث والأزمنة والأمكنة بحيث يبدأ الحدث هنا على لسان السارد ولا ينتهي إلا هناك على لسان راوية.. كما يبدأ من سرد السارد ويتممه بطل من أبطال الرواية (علاقة شاهد بعابرة يسرد جزء منها شاهد ثم فيما بعد يكملها عماد صديقه). نفس التضعيف والالتباس والغموض نعثر عليه في ملحمة الحكواتي، فهي تتألف من سبع حكايات وكل حكاية تتكون من سبع فصول.. وكل فصل يتطلب سبع جلسات. أحداث الرواية تحكي الحكاية السادسة ما قبل الأخيرة والرواية في حد ذاتها هي الحكاية الأخيرة السابعة. لكن هذه الأخيرة تتكون من تسعة فصول، ربما الفصل الأول هو مقدمة والفصل الأخير خاتمة، وتبقى لنا الفصول السبعة متوارية.. أو ربما لكي تتميز الرواية عن الحكايا السابقة ويتميز السارد عن الحكواتي، زد على ذلك أننا نجهل الحكايا الخمس ولا نعرف السادسة إلا شذرات، والحكاية الأخيرة لا تقدم نفسها منسوبة للحكواتي ولا للراوي إنما هي للسارد وهي السابعة. يبدو أن الحكواتي يتبوأ المكانة الثانية من حيث الأهمية في رواية «الحكاية الأخيرة» بعد عفراء. ورغم أن اسمه قد أختصر في «الحكي» إلا أن هذه الصفة الأخيرة ما هي سوى وظيفة واحدة من وظائفه العديدة.. فهو تقي رحال شاعر علاّمة مبدع حكيم.. حكاياته ليست للتسلية، إنما هي «اختزال لتاريخ البشرية بأمجاده ومهاناته..»، و«تنطوي على المفاتيح الكفيلة باختراق مغاليق الكون و ألغازه..» (ص 24 ). إنه حكيم متصوف يملك مفاتيح المدينة وسر أسرارها (ص 18)، سره هو المتصوف الذي لا يحده سن ولا عمر.. له مشروع ثقافي يتأسس على الرقم سبعة. في كل الحضارات والديانات للعدد سبعة رمزية عالية : سبعة عروش، سبع سموات، سبع كنائس، سبعة أبواب لجهنم، أيام الأسبوع السبعة، اليوم السابع بعد الخلق، ألوان قوس قزح، الآيات السبع للفاتحة، الجمرات السبع، القصائد السبع، الفنون الرئيسية السبعة، الفن السابع، القارات السبع، الأعضاء السبعة لتسيير مدينة عفراء. الحكواتي هنا هو تضعيف للمؤسسين الحقيقيين للمدن أمثال عوليس والحسن الصباح والجبلاوي. وأولئك الذين سحرهم الرقم الرمزي «سبعة» من أمثال مولانا جلال الدين الرومي في مؤلفه «المجالس السبعة» وهي عبارة عن مواعظ روحية ألقاها في سبع مناسبات، أو الإشارات اللبيبة «لأودية السلوك السبعة» للمتصوف الجليل صاحب منطق الطير سيدنا فريد الدين العطار ومنها وادي العشق ووادي المعرفة ووادي التوحيد... ورغم أننا لا نعرف للشاعر عمر الخيام من مؤلف في العدد «سبعة»، هو الرياضي المحنك، إلا أننا نعلم أن العلماء الذين ساعدوه في استنباط التقويم الشمسي كان عددهم «سبعة»... الشاهد الشيخ مولانا الحكواتي في هذه الرواية من طينة هؤلاء الشيوخ، هو مؤسس مدينة عفراء الفاضلة فضاء «الحكاية الأخيرة»...