دخلت ذات ليلة بمحض الصدفة أحد المطاعم المنتصبة بفضاء المعاريف بالدارالبيضاء ، واخترت الجلوس في زاوية تسمح لي بالتفرج على فنان يعزف على العود ، ويغني خالدات الأغنية المغربية ، كان الفضاء مؤثثا بديكور يمزج بين الفسيفساء التقليدي واللوحات التشكيلية ، وبينما أتناول وجبة عشاء ، وأحتسي مشروبا ، استرعى انتباهي عازف المطعم الذي كان يرسل لي نظرات ثاقبة ، ويغني بصوته الشجي مقطوعة للفنان عبد الهادي بلخياط ، وحاولت في كل مرة أن استرق نظرة إليه ، فأجده يصوب عينيه نحوي مواصلا عزفه الجميل ، ومبدعا في تغيير صوته بين التفخيم والترقيق . النظرات المتلاحقة للمغني خلقت لدي نوعا من الارتباك ، ودفعت بي إلى سبر أغوار يم من التساؤلات والتأويلات ، لدرجة أني شعرت بالحرج ، وتمنيت لو أني لم ألج هذا الفضاء الذي يشتغل به فنان عكر علي صفو اللحظة ، لكن عندما رسمت صورته بمخيلتي ، حاولت أن أربطها بماض بعيد من ذكرياتي ، تأكد لي أن وجه الفنان العازف على آلة العود والمتواجد أمامي ، جمعتني به لحظات لم أقو على استحضارها ، ورغم محاولاتي النبش في ذاكرتي لم أتوفق في استحضار نوع العلاقة التي ربطتني بهذا الفنان ذات زمان . ومباشرة بعد إنهاء المقطوعات الغنائية المبرمجة تلك الليلة ، وجدت الفنان يستأذنني بالجلوس ، فوافقت مرحبا ، وبعد أن أخذ نفسا من سيجارته ، فاتحني بسؤال عاد بي أزيد من ثلاثين سنة إلى الوراء : « هل كنت طالبا بمركز تكوين المعلمين ؟ « . أجبته بحركة رأسية ، ووقفت معانقا مغني المطعم بحرارة عندما ربطت صورته باسمه ، وبزمن التكوين . التزامات مغني المطعم المدعو جمال فرضت عليه اختزال المساحة الزمنية التي خصصها للحديث معي في خمس دقائق ، وبعدها غادر إلى ملهى ليلي يشتغل به حتى الثالثة صباحا كما أكد لي ذلك ، وتبين لي أن هذا الأستاذ الفنان حول إبداعاته في فن التدريس إلى التفنن في الطرب إرضاء لزبناء الملاهي الليلية ، ولعل البون الشاسع بين تنوير عقول التلاميذ الصغار الذين يقطعون المسافات ليلجوا قاعة الدراسة ، والتنويع في الأنغام والطرب ، يبدو شاسعا جدا ، لكن الأستاذ الذي تحول بإرادته إلى مطرب الملاهي الليلية ، لم يكن يعي الفرق بين تلميذ القسم، وزبون المطعم . إن تحول أستاذ بكرامته إلى مغن يطرب رواد الملاهي الليلية ، أمر يحتاج إلى عالم اجتماع، وباحث سوسيو تربوي لفك شفرة هذه المفارقة الغريبة ، لكن الظروف كانت أقوى ، والرياح جرت بما لا يشتهيه هذا المطرب الذي اختار منعطفا أفضى به إلى الطرب والنغم الليلي ، تاركا وظيفته كأستاذ للتعليم الابتدائي بعد تكوين بيداغوجي نظري وتطبيقي ، ولست أدري هل أصاب الاختيار أم أخطاه . زياراتي المتكررة للمطعم لم تكن بدافع النشوة ، ولكن رغبة في جمع معطيات كثيرة عن الفنان جمال ، والاقتراب منه أكثر ، لأن التخلي عن وظيفة التدريس واحتراف الغناء طرح لدي مجموعة من التساؤلات ، فكنت مضطرا إلى التردد على المطعم مرة في الأسبوع بحثا عن جواب ، وحدث ذات ليلة أن رافقته إلى الملهى الليلي على متن سيارتي ، وكانت الفرصة سانحة للإجابة عن تساؤلاتي ، والوقوف على أسباب ودواعي اعتزال هذا الأستاذ مهنة التدريس بمحض إرادته تاركا آذان الأطفال صاغية لتلقي العلم ، ومقاطعا كتابة الحروف الأبجدية على السبورة إلى غير رجعة . عندما سطر جمال مساره المهني وهو يلج مركز تكوين المعلمين ، لم يكن يتوقع أن هذا المسار سيتوقف بعد أربع سنوات فقط من التدريس الفعلي بالقسم ، بل كان يعلق آمالا كبيرة على هذه المهنة ، ليس فقط لتسوية وضعيته عن طريق الترقي ، ولكن لتطوير مؤهلاته المهنية ، إلا أنه فوجئ بأن الظروف لم تسعفه كي يعانق الأهداف التي سطرها . أتذكر ، عندما كنا نستفيد من التدريب البيداغوجي بمركز تكوين المعلمين ، كان جمال يحسن العزف على آلة البانجو ، وكان مولوعا آنذاك بترديد أغاني المجموعات ، وكثيرا ما استمتع الطلبة الأساتذة بفواصل عزفه ، ومقطوعات غنائه ، وكان يحس في هذا التجاوب بنوع من الفخر المعنوي . وخلال حفل أقيم بمناسبة نهاية الدورة الأولى ، كان جمال أحد الفنانين الذين أثثوا الحفل ، ونال إعجاب لطلبة والأساتذة والإداريين ، وأحس آنذاك أنه نجم يضيء بفنه فضاء المركز ، لكن عندما توصل ببطاقة تعيينه بنيابة تارودانت ، أصيب بخيبة أمل حسب حكايته ، فكان أن استجاب لنداء التعيين كالعديد من الزملاء ، الذين عينوا بتخوم الجنوب ، وبالمناطق الجبلية للأطلسين الكبير والصغير. كان على الأستاذ جمال أن يسافر ليلا على متن الحافلة ، وأن يستأجر سارة أجرة لقطع مسافة أربعين كيلومترا ، وأن يقبل بالتنقل عبر سيارة النقل السري ، وأن يقطع مسافة تقارب أربعة كيلومترا مشيا على الأقدام ، كي يصل إلى المجموعة المدرسية التي تم تعيينه بها ، ومن حسن حظه حسب روايته أن المدير احتفظ به للتدريس بالمركزية بداعي الخصاص ، ولم يتم الزج به بإحدى الفرعيات الأربع التي يتطلب الوصول إليها قطع مسافة طويلة مشيا على الأقدام ، أو امتطاء الدواب . استعصى على جمال التأقلم مع الأجواء ، وكان يعاني من سوء التغذية ، ومن التوافق المهني ، ومع ذلك فقد كان عزاؤه الوحيد حسب أقواله هو العزف على آلته الوترية للتغلب على الملل ، وتكسير حائط الرتابة ، لكن عطاءه داخل الفصل الدراسي لم يكن يرقى إلى الحد الأدنى من الأهداف المسطرة ، وذلك بسبب تعدد المستويات ، حيث أسندت إليه مهمة تدريس قسمين مشتركين ، الثالث والرابع ، ثم الخامس والسادس . وأنا أستمع إلى الأستاذ الفنان ، وهو يحكي عن مساره المهني كمعلم ، قبل احتراف الغناء ، تبين لي أن جمال لم يقو على التأقلم مع الحياة العملية بمنطقة نائية ، وهو الذي عاش مدللا وسط عائلته ، ومع ذلك ، فقد تسلح بصبر أيوب حسب وصفه ولعب الزملاء وكذا العزف دورا مهما في انتشاله من قوقعة الروتين اليومي ، وكان ينتظر بفارغ الصبر حلول العطلة البينية للعودة إلى الدارالبيضاء ، وكثيرا ما اضطر إلى تقديم رخصة طبية للاستفادة من أيام راحة يقضيها رفقة أصدقاء الحي . عدم التوافق المهني دفع بالأستاذ الفنان إلى مغادرة سلك التعليم ، والهجرة إلى إيطاليا بحثا عن مصير مجهول ، وهناك اختار العمل بأحد المصانع قاطعا علاقته بالتدريس ، وكثيرا ما نظم أمسيات غنائية نهاية الأسبوع لفائدة المهاجرين المغاربة ، لكن الأستاذ الفنان لم يقو على التأقلم مع أجواء الغربة ، وقرر بعد سنتين فقط العودة إلى أرض الوطن ، ليجد نفسه في مفترق الطرق يبحث عن عمل لسد رمق العيش ، فوقع اختياره على العزف والغناء بالملاهي الليلية . عاش الأستاذ الفنان أزمة مادية خانقة بعدما أنجب طفلين من امرأة ربة بيت ، فكان عليه أن يشتغل الليالي بانتظام لتسديد واجب الكراء لغرفتين صغيرتين ومطبخ مشترك مع أحد الجيران ، وازدادت معاناته عندما اختار الزواج من فتاة تمتهن الغناء بالملهى الليلي الذي كان يشتغل به ، فاضطر إلى استئجار مسكن آخر ، وأضحى معيل أسرتين ، وهو الذي يتقاضى أجرا يوميا ، ويراهن على « الغرامة « من الزبناء . وعندما سألته عن مقاطعته الإرادية مهنة التعليم ، واحتراف الغناء ، أكد لي بأن الندم ينتابه من حين لآخر ، مبديا أسفه العميق على ترك وظيفته كمدرس ، واختياره ألاإرادي العمل بالمطاعم والملاهي الليلية كعازف يطرب رواد هذه الفضاءات ، وينتظر أن يجودوا عليه بورقة نقدية اعتبرها الأستاذ الفنان صدقة مغلفة بثوب « التشجيع « خلال لحظات الانزواء بالنفس ، والتأمل في الذات ، استرعى انتباهي هذا العازف الذي كان يقتسم معي طاولة داخل الفصل الدراسي ، ويشارك مجموعته في العروض المتعلقة بعلم النفس ، وعلوم التربية ، وطرق التدريس، وما إلى ذلك من المواد التي تؤهل الطلبة المعلمين لأداء رسالتهم البيداغوجية على النحو المطلوب ، لكن شاءت الظروف أن يغير هذا الأستاذ مساره المهني ، ويعرج نحو الفن الذي عشقه منذ الطفولة ، واتخذه مهنة لسنوات طويلة يعيل بمدخوله أبناءه الأربعة من زوجتين . مرة أخرى ، وأنا داخل مطعم مصنف أتناول وجبة عشاء على نغمات عازف على آلة البيانو ، استحضرت صورة الأستاذ الفنان الذي لم يكن يتصرف بكامل الحرية ، مخافة أن يطرده صاحب الملهى ، وقد حدث ذات ليلة أن أمطره بوابل من السب والشتم بسبب عدم تلبية رغبة أحد الزبناء الذي طلب أغنية ، وأصر على إعادة غنائها لعدة مرات . علاقتي بالفنان الأستاذ انقطعت ، لكني فوجئت ذات صباح ، وأنا متوقف بسيارتي وسط الشارع العام ، انتظر الإشارة الضوئية بصوت مغن داخل حافلة للنقل العمومي ، التفت بدافع الفضول ، فتأكد لي أن الأستاذ الفنان الذي جالسني وهو طالب معلم ، وجالسته عندما تحول إلى مغن بأحد المطاعم ، اختار هذه المرة أن يطرب الركاب متجولا بين حافلات النقل العمومي .