تعيش في دنيا الاغتراب المغربي بفرنسا مجموعة من شباب الهجرة، بعضهم جاء طلبا للشغل بعدما ضاقت أسباب البقاء، وبعضهم سعيا للدراسة بعد أن عز تحصيل العلم والمعرفة في الوطن الأم، والبعض الآخر ممن وفدوا مع ذويهم المستنبتين من بيئة فقيرة فترعرعوا في أحضان الاغتراب وتعلموا في مدارسه ومعاهده كما في أحيائه وأزقته الحبلى بمظاهر التهميش والإقصاء والتمييز. من هؤلاء ثمة شريحة تقيم في باريس وتزاول مهنا لم يكن لهم فيها يوما سابق تجربة، كالعمل في المقاهي والمطاعم لا كنادلين أو طباخين، ولكن كمطربين يترنحون بين الهواية والاحتراف، همهم الترفيه عن أوساط الجالية المغربية والعربية وإخراحها من مخالب الغربة والإحباط. ولعل ما يميز هذه المهنة أنها مغربية في صميمها عربية في لسانها وتراكيبها وفي عمق مجالها الحيوي الذي يتجاوز المطاعم والسهرات والمناسبات. تكشف زهراء الطالب (58 سنة) ل"العلم" أن مهنتها كنكافة لم تعد تقتصر على الاعتناء بالعروس وما يرافق ذلك من مستلزمات التجميل، بل أيضا ربط صلات تعاملية مع الأجواق المغربية وخاصة الشعبية منها لتنشيط حفلات الزواج وأعياد الميلاد والختان والمناسبات الأخرى. وتحكي أن الغناء والسمر أصبح حاجة ملحة بالنسبة للجالية المغربية لتكسير حالات الإحباط والإكتئاب الشائعة في الوسط الاغترابي. ويجمع المطربون الناشئون على أن إقبالهم على هذا النوع من العمل لم يكن أساسا في صلب اهتماماتهم، وإنما تعرفوا عليه من خلال بعض الجولات الفنية التي كان يقوم بها بعض المطربين والمطربات المغاربة والعرب للديار الفرنسية حيث كانت حفلاتهم تلقى صدى وترحيبا واسعين. ويرأس حفيظ كيندي (44 سنة)، جوقة شعبية أسماها "فرقة الأنوار". ويقول عن تجربته.."لقد امتهنت الغناء عن طريق الصدفة، حيث قمت في إحدى المناسبات بأداء قطعة /قطار الحياة/ لعبد الهادي بلخياط استحسنها أحد اللبنانيين المستثمرين في هذا المجال، ودعاني للعمل بأحد الملاهي الليلية التي اشتغلت بها زهاء خمس سنوات قبل تأسيس فرقتي الحالية التي تضم تسعة عازفين بعضهم من طلبة المعاهد الفرنسية". ويعتبر الشاب التطواني الأصل، مراد العبدي، الذي يعمل بنفس الفرقة، وهو طالب في كلية العلوم بباريس، فن الغناء مجرد محطة مؤقتة ورافدا ماليا ضروريا لاستكمال الدراسة. ويستبعد مواصلة هذا المشوار إذا ما حصل على عمل في مجال اختصاصه بفرنسا أو المغرب. ولأنه فن مربح لأصحاب المطاعم والملاهي الليلية، فقد نشأ على هامشه فريق من المتعهدين الذين كانوا يلجئون سابقا إلى "تعهد" المطربين والمطربات مع كامل فرقهم الموسيقية، ويتولون بأنفسهم مهمة الحصول على تأشيرات وتأمين نفقات الإقامة والسفر، وتهيئة كافة الأجواء اللازمة لإنجاح حفلاتهم من تغطية إعلامية واسعة في الصحف والإذاعات الاغترابية وفي الأمكنة التي ترتادها الجالية المغاربية من مطاعم وأندية وجمعيات. ويعمد هؤلاء المتعهدون اليوم إلى وسيلة أقل كلفة وعناء، إذ يلجئون إلى إبرام صفقات مباشرة مع المطربين والمطربات المحليين، لاسيما الذين يتمتعون برصيد فني أو ممن هم على قدر مقبول من حسن الأداء والحضور الجيد. واليوم في باريس كما في المدن الفرنسية الكبرى، بات المطربون والمطربات المغاربة يغطون العديد من المطاعم التي أصبح لكل واحد منها مطربه أو مطربته المفضلة وفرقته الموسيقية وجمهوره الخاص لدرجة يصعب معها على رواد السهر أن يجدوا مكانا خاليا في نهاية الأسبوع. وتقول المطربة سلمى الزكدوني، فرنسية من أصل تازي :"لقد اهتديت إلى فن الغناء من خلال إعلان قرأته في الصحف، وتقدمت إلى مباراة كان يشرف عليها أحد متعهدي الحفلات. واليوم وإن كنت أشارك في بعض الحفلات بين الفينة والأخرى لتأمين نفقات الدراسة، فإنني لا أسعى إلى الوصول إلى عالم الاحتراف والنجومية. وخلافا لزميلتها، تقول فتيحة العكباني الوافدة من مدينة الدارالبيضاء أنها فخورة بتجربتها في الرقص الذي تعتبره فنا نظيفا كباقي الفنون. وتضيف .."إن رصيدي الفني وجمهوري يمنحاني ثقة في النفس وقوة في الشخصية، مما جعلني أستمر في الرقص رغم زواجي". وحينما سألتها "العلم" عن الصورة السلبية المرسومة عموما عن الراقصات في المخيّل المجتمعي المغربي، ردت بتلقائية مكسوة بشيء من التذمر من الأحكام الجاهزة عن الرقص والغناء بقولها "ما كل الرقص خلاعة، وما كل الغناء هو فجور..فالفجور والخلاعة قد يكونا موجودان عند بعض المغنيات والراقصات، لكن تعميم الظاهرة قد يخلق حالة من الغبن والإحساس بالظلم في نفوس الكثير من الفنانات اللواتي يعتبرن أن الفنون بأنواعها هي جزء لا يتجزأ من عملية النهوض والتقدم حيث لا نهضة لشعب بلا فنون تغذي المشاعر وترقى بالنفوس والأحاسيس والأفكار". ومن فرط الإقبال على مقاهي الطرب والغناء المغربية التي تكاثرت بشكل غير مسبوق بباريس وضواحيها، وتحت تأثير هذا التطور الاجتماعي، اجتهدت هذه الأمكنة في إحداث تغييرات على شكل بنائها الهندسي بحيث وفرت في المقهى أماكن خاصة للرقص أشبه بخشبة المسرح، وتحوّل بعضها فعلا إلى ملهى ليلي، مثل مقهى "عطور المغرب" (Les saveurs du Maroc ) التي تحوّل اسمها إلى ملهى "الجنوب الساخن"، ومقهى "مراكش" التي أصبحت تعرف بنادي "العبّاسيات" (Les Abbasides) الذي تقدم فيه فتيحة ألوانا فريدة في الرقص الشرقي إلى جانب راقصات ومطربات من لبنان وسوريا ومصر.