- إلى الصديق الدكتور إدريس لكريني تثير السوسيولوجيا مفهوم الإنتاج المعرفي كمنظومة قيم وأفكار تستجلي مجموعة محددات اجتماعية وفكرية وتربوية، انطلاقا من الأسس التي تقوم عليها الأنساق المعرفية، بما هي علامات ورموز وظواهر اجتماعية. وتحظى تلك المحددات بوجود ما يكرس طبيعة الأفكار، من حيث كونها تبصم النتاج الفكري أو المعرفي انطلاقا من السمات الثقافية للشعوب، وأنماط متغيراتها، والسلوك الذي تنتهجه في تدبير العيش والحياة . لقد حاول أوجست كونت تقديم تاريخ اجتماعي للمعرفة ، وقام دوركايم وأتباعه خاصة مارسيل موس M. Mauss بدراسة الأصل الاجتماعي للمقولات الأولية أو ما يسمى بالتمثلات الجمعية Collective Representations كما توجد في زمان ومكان محدد . والجديد هنا – الخاص بسوسيولوجيا المعرفة – هو البحث المنظم لهذه المقولات الأولية، التي تؤثر في العلاقات بين المكونات السوسيوثقافية والاجتماعية، من جهة، وبين الأشخاص والمجتمع من جهة أخرى، الشيء الذي يفرض تأطير سؤال الإنتاج المعرفي، في بعده السوسيولوجي، مع ما يحمل من معاني اجتماعية وثقافية وتربوية أيضا في سياق التنظير الحضاري للشعوب والمجتمعات، من كونها تبحث دائما عما يرتب سيرورتها وتداولها للمعارف والأنساق المعرفية، على أساس كون الأخيرة ناتجات للتفكير المركز، والاستدراك العقلي والمعرفي، حيث يقوم الفرد في المجتمع بالدخول إلى مجموعة، للتداول بالتفكير الجمعي ووضع اللبنات للخروج بعلم ومعرفة جديدة من خلال الاستنتاج والاستنباط. هذه المنظومة التلاقحية تنحاز في أبعادها السوسيوثقافية إلى المواكبة اللصيقة بالمعارف الاقتصادية والمعلوماتية ذات الوقع العميق في الموازنات الفكرية والسياسية، ما يجعل الانتماء إلى برامجها واستراتيجيات تحقيقها، عهلى المستوى العربي صعب المنال، على الأقل في الوقت الراهن. يمكن الاتكاء في هذا التقريب الشفيف للمجتمع المعرفي الغائب لدينا، على نظريتين اثنتين، تخصان مناطق النفود المعرفي التي ازدحمت داخل ركام التقليدانية والنمطية الغالبة، ما أغلق باب الاجتهاد وتطوير اللغة وانفراط جانب منها لصالح التسطيح والتعويم. الأمر الثاني استحواذ الاقتصاد المعرفي الغربي على المؤهلات الفكرية والعلمية لطاقاتنا المهجرة، وهو ما زاد في تحلل ذواتنا من المراهنة على الانطلاق الصحيح باتجاه تكريس الفعل المعرفي في عمليات التنوير العربي المصاب بإخفاقات الماضي، المطوق برهانات الحاضر، والتائه في القبض على الهارب. وارتباطا بموضوعية المعرفة وتعبيرها عن الفعل الحضاري للشعوب، يأتي السياق الدلالي للمعرفة عربيا، في جانب منه ينشغل بالبحث المعرفي والعلمي، مستشكلا ومريبا، حيث تغيب الوثوقية في التحصيل والبحث الميداني وتكريس المخططات البيداغوجية والتربوية الجامعة، بالإضافة للغيابات الفجة لمستويات تطوير المنهجية العلمية في الأبحاث العلمية، بكل ما تعني من أبعاد فلسفية وأخلاقية وإجرائية. نتحدث هنا عن المخالفات القاصمة التي انغرست في ثلمة الجسد الفكري العربي طيلة سنوات مخاض ما يسمى بتنوير العقل العربي، حيث كثرت جرائم السرقات العلمية والأدبية، وتطورت أساليب انزلاقاتها لدرجات خطيرة تنبؤ بتفكك بنية البحث العلمي الرسمي والتشهير بعدم مواءمته للجودة والتطور اللازمين، في مضمار الكفاءة الجامعية الدولية ومعاييرها ذات الشأن. يكفي أن يتخفى هذا الغصب المستباح لأعراض البحث العلمي خلف متلبسات تخريبية وأخرى منافية للأخلاق العلمية، لنكون في مصاف الدول المقرصنة للأفكار والغارمة في درج التحول الوهمي والتوسع الصلف، لنكون بذلك من الأمم التي ترفض نظرية التجريم الفكري، فضلا عن التجريم التشريعي. ما يحقق قطعا دورة مخيفة من التخلف عن ركب حضارة البحث العلمي ودوره في نهضة الشعوب. إن غرق منظوماتنا التعليمية وفشلها في الرهان على تصحيح مسار العملية التعليمية التعلمية هي جزء من الواقع الذي تعيشه أكاديمية البحث العلمي في جامعاتنا ومعاهدنا العليا، ما يقوض جهود القائمين على تدبير صمودنا خلف المئات من المؤسسات العلمية الغربية والآسيوية، التي تنبهت منذ قرن ويزيد إلى أن عقل الأمم وطاقاتها الاستثنائية توجد في مقدمات صون وأمن العالم المعلوماتي والمعرفي، بالتجرد من الكولسة الزائدة والتدرب على مناشدة المعرفة انطلاقا من الخصيصة المجتمعية وأبعادها العمرانية والإنسانية. وآخر الاكتشافات السوريالية عندنا في هذا البوار العقيم تسلل الشهادات الوهمية المزورة إلى مجتمعنا المعرفي الواهي، حيث استعرت أسواق المهربين للشهادات المقنعة تحت يافطة من الشكلانية المعرفية التي تنسرب في ظلمات التفريخ والمسخ العلمي والتدليس المجرم. الحاجة إلى إعادة تشكيل وإدارة المعرفة أمر ملح وضروري في ظل تقهقر المنتوج المعرفي المجتمعي الواعي بمتغيرات الطفرة العلمية المعرفية الحقيقة بالصدح والتحسيس، لنتمكن من شغر جوانب هامة من خصاص البحث العلمي الجاد والرزين وبتشجيع البحث العلمي وإخراجه من حالات الضيق والنكران الذي يعانيه. كذا تشجيع التنافسية الشريفة وحرية رصد المعرفة وتخصيص منح وهبات خاصة بالمتفوقين، وتنظيم جولات ميدانية وخلق شراكات والاحتكاك بالتجارب العالمية الناجحة، والارتباط بالنسقية الفكرية التسلسلية عبر المدرسة والجامعة، ثم توثيق التاريخ العام للمعارف، انطلاقا من تشكيل مظهرات البحوث وطباعتها وتوزيعها بالمجان على المكتبات والمرافق المعرفية المدرسية والعلمية والمعاهد والجامعات ومكتبات البلدية والثقافية والوزارات.