د. محمد لمباشري إن المطلب الاجتماعي و التربوي لتوافق الفئات المستهدفة في المنظومة التعليمية مع مختلف الأوساط السوسيوثقافية المتواجدة داخل المجتمع الذي ينتمون إليه، مرهون بمدى قدرة المتن المعرفي المدرسي بتعدد اختصاصاته و حقوله معرفية و المهارية، و بتنوع كفاياته الممتدة و النوعية، على امتصاص حركية المجتمع في تفهماتها الدينامية و المتحولة، و في تناقضاتها الذاتية و الموضوعية من خلال العلاقات الجيوسياسية التي يقيمها مع المجتمعات الأخرى، و ذلك في أفق تحقيق التوافق و التعاقد المبكر بين المتعلم و المؤسسة المدرسية اعتمادا على التربية بوساطة الاختيار، عبره يكون المتعلم قادرا على معرفة مشروعه المستقبلي بناء على اختياراته الذاتية و حاجيات الأوساط التي تنتمي للمجتمع المدني. و هو ما يتطلب من المؤسسة المدرسية في منظورنا النفسي الاجتماعي التربوي أن تجعل المتعلم في مستوى امتلاك المعارف و المهارات و الكفايات النفعية و الوظيفية التي تؤهله نفسيا و عقليا و اجتماعيا و معرفيا، لاستيعاب القيم الجديدة التي تفرض نفسها عليه، و تأويلها لصالح حاجياته و طموحاته المستقبلية بهدف ضمان التوافق الاجتماعي المرتقب، و بغرض فهم الواقع، و لم لا محاولة تغييره نحو الأفضل. كما أن عملية تنمية الموارد البشرية رهان ديموقراطي لتحقيق التنمية الشمولية داخل دول العالم الثالث، و من ضمنها المغرب، و هذه التنمية لا يمكن إقرارها كحقيقة إلا في حدود حل التناقض الخاص من جهة بمحو الأمية و الجهل، و حل التناقض بين الحاجيات النفسية و الاجتماعية للمتعلمين، و بين التطلعات للمستقبل كضمانات للتوافق المرتقب، سواء على المدى البعيد أو المتوسط، على أساس دفع المؤسسة المدرسية إلى المساهمة في التنظيم الاجتماعي اعتمادا على المبادئ التالية التي يجب تأصيلها كتقليد و ككفايات في السلوك اليومي للمتعلمين:◘ تعلم لتعرف، [كفاية التفكير الواعي و المدبر].◘ تعلم لتكون[كفاية تطوير القدرات العقلية لتفكيك رموز الواقع المعيش و المحتمل، و الواقع الكوني.◘ تعلم لتعمل. [ كفاية توظيف المهارات المكتسبة]. ◘ تعلم لكي تنصهر مع الجماعة.[ كفاية التواصل و الاستيعاب للمعلومة سواء في بعدها المحلي او العالمي، لكي تندمج اجتماعيا و ثقافيا و مهنيا و اقتصاديا و سياسيا .◘ تعلم لامتلاك المناعة العلمية ضد كل الإكراهات المعرفية و المعلوماتية التي تفرض نفسها عليك عبر وسائل الاتصال الجماهيري، و عبر العولمة الثقافية التي تتفاعل معها سواء بشكل إرادي أو غير إرادي. هذه الكفايات في شموليتها المعرفية و المهارية، و في تناسقها الفلسفي و الاجتماعي و الثقافي و العلمي، تشكل بؤر الاهتمام الذي يجب أن يتمركز حولها النظام التربوي التكويني ضمانا لمدرسة لها مستقبل، و تفعيلا للأدوارها الطلائعية في التنمية البشرية و الاقتصادية و الثقافية. و بناء على ما هو مستنتج من خلال القراءة التأويلية لنتائج تم التوصل إليها في إطار المشروع العلمي المذيل لهذه الورقة سواء في بعده النظري او التطبيقي ، و في خلاصاته الكمية و الكيفية، نرى من مقاربتنا النفسية الاجتماعية التربوية، بأن تمثلات المتعلمين للزمن الآني و المستقبلي و علاقتها بالقرارات الفردية المتخذة من طرفهم حيال المستقبل في تجلياته الزمنية المختلفة، يحكمهما: ◘ المتغير النفسي الاجتماعي، على مستوى: - الاستقلالية الذاتية في بناء المشروع، - الثقة في النفس كحاجة نفسية اجتماعية يجب على المدرسة تشكيلها في سلوكات المتعلمين؛ - امتلاك القدرة على المغامرة و التصدي لمواجهة التحديات المطروحة داخل الواقع الاجتماعي المحلي أو الكوني، تأكيدا لهذه الذات الفردية في بحثها عن استقلاليتها في التخطيط لمسارها المستقبلي؛ ◘ متغير الزمن التعليمي المتجسد في: - السلوكات المعرفية و العاطفية و الحسية الحركية التي تدعمها النقط المدرسية المحصل عليها كدعامات نفسية اجتماعية تعزز الدافعية في اتخاذ قرارات على المدى البعيد؛ - متغير الوضعية الاجتماعية للأسرة كداعم مادي و معنوي في نفس الوقت للمشاريع المستقبلية التي يخطط لها المتعلمون في نطاق مرحلة دراسية معينة حسب نوعية هذه الوضعية الاقتصادية. هذه المتغيرات من الناحية المبدئية كما هي محللة في مشروعنا العلمي السابق الذكر، لها ارتباط مباشر و كلي بموضوع التوافق الاجتماعي، بما هي دعامات نفسية اجتماعية – في حالة توفرها- لتنمية مواقف تطلعية مستقبلية، و لاتخاذ القرارات على المدى البعيد... و إذا كنا نرغب أساسا في تنمية المواقف الإيجابية نحو المستقبل التعليمي انطلاقا من المشروع الذاتي للمتعلمين، فالأمر يتطلب تهييئهم منذ سن مبكرة، و تحديدا منذ التعليم الابتدائي لتكوين اتجاهات واضحة نحو مسارهم التعليمي المستقبلي على غرار بعض التجارب العالمية، عبر تمرير معلومات مدرسية مبرمجة و منظمة بمشاركة الآباء و وسائل الإعلام في هذه التعبئة، حتى يكون المتعلمون تمثلات إيجابية نحو مسارهم التعليمي المراهن عليه، في حدود اقتحام مجالات التفكير المعقلن في المسالك التي يجب اتخاذ قرارات بشأنها. و في نفس السياق الاستنتاجي للنتائج المتوصل إليها، يمكننا الانطلاق من الفكرة التالية كما هي مطروحة في بعض الأبحاث: إن الذي نهمله بشكل أكبر في مدارسنا هو في الحقيقة أهم ما نحتاج إليه في الحياة؛ و مثل هذا الرأي في جانبه الإشكالي يجعلنا نستشف منذ الوهلة الأولى البعد العلائقي القائم بين المدرسة كتوجه و كاختيار سياسي و اجتماعي، و بين مستقبل المتعلمين و الشباب؛ بمعنى: إلى أي حد تساهم المدرسة كمؤسسة تربوية و اجتماعية و "كوكالة" في إدماج المنتسبين لها داخل مختلف الهياكل السوسيواقتصادية المتواجدة بالمجتمع المدني ضمانا لمستقبلهم المراهن عليه؟. إن مثل هذه الموجهات الكبرى تعطينا فكرة إجمالية عن العلاقة الموجودة بين المدرسة و المستقبل الذاتي للمتعلمين، علاقة نلاحظ بانها مازالت مشوبة بترددات و انزياحات و تمفصلات متأصلة في البنية الاستراتيجية للمؤسسة المدرسية كما هي معاشة حاليا خصوصا على مستوى الاختيارات السياسية و الاقتصادية القائمة في صلب بنية المجتمع عامة. و تتويجا لما سبق لنا عرضه في هذا الإطار، نشير بأن انحطاط قيم المجتمع الاقتصادية و السياسية و الثقافية، مرده إلى أسباب مرتبطة: بالعولمة الاقتصادية والثقافية الكونية نموذجا، و بالتناوب السياسي كاختيار أيديولوجي...، و إلى أسباب ذات أبعاد اجتماعية و حضارية بالدرجة الثانية، خصوصا على مستوى التخطيط و البرمجة للمشاريع في مختلف المجالات ، ايمانا منا بأن كل المتغيرات الاجتماعية و القيمية القائمة في صلب المجتمع، قد تحولت في الظروف الراهنة بدون اتجاه معين و محدد، و بدون شفافية واضحة المعالم و الآفاق المستقبلية خصوصا بالنسبة للشباب، الشيء الذي أدى إلى إفرز مجتمعا ثنائياSociété duale منشطرا إلى قسمين: الشباب من جهة و الكهول من جهة ثانية، و الفقراء من ناحية أولى و الأغنياء من ناحية ثانية، هذه الفئة الأخيرة التي انحرفت-حسب بعض الدراسات المهتمة بصراع الأجيال- عن مسؤولياتها اتجاه الشباب، و ازداد عدد الفقراء بأرقام مهولة ، مما جعل الهوة تتوسع بشكل كبير بين مستوياتهم المعيشية و بين هؤلاء، و من ثمة أصبح سوق الشغل هشا، غير قادر من جهة على ضمان الوظيف بالنسبة للجيوش الاحتياطية من المدبلمين و حاملي الشهادات العليا، و تناقص العمل تدريجيا نتيجة إكراهات اقتصادية دولية و محلية، و أصبح غير قادر من جهة ثانية على الاستجابة لطموحات الأفراد الاجتماعيين، مما طرح كتعويض له بعض المناصب المؤقتة البعيدة في الغالب عن الاختصاصات الأصلية التي أهل لها مثل هؤلاء الشباب، { و نذكر على سبيل المثال لا الحصر المعلمين العرضيين و منشطي بعض الجمعيات الثقافية في إطار التربية غير النظامية و محاربة الأمية...و الملاجئ الاصطناعية المحدثة لامتصاص مثل هؤلاء المتخرجين بعيدا عن مجال اختصاصاتهم}، الشيء الذي أثر كذلك على تمثلات الشباب للمدرسة من خلال طرحهم لمجموعة من الأسئلة ذات الصبغة الاستفزازية في بعض الأحيان أهمها:هل تستجيب المواد الدراسية المقررة لاحتياجات الفئات المستهدفة الذاتية منها و المستقبلية ؟. لأي هدف و لأية مهنة يوجدون في المدرسة؟ و لأي مستقبل هم متوجهون؟؛ و هكذا نلاحظ بأن الشباب أصبح لا يعرف اليوم مهن الغذ، بالرغم من التطور الذي عرفته وسائل الاتصال الجماهيري، عبر التدفق المعلوماتي الهائل و الأنترنيت و غيرها من الوسائل . ولقد أكدت مجموعة من الدراسات المعاصرة أن العديد من اليد العاملة المعاشة حاليا توشك على فقدان مناصبها في المستقبل القريب، أمام الزحف التكنولوجي الذي أصبح يشد بكثرة على قيم السرعة و الربح الجيد بدون بدل الجهد؛ كما أن موظفي الدولة أصبحوا لا يثقون في المستقبل، بالنظر للأزمة العالمية و اللاتوازن القائم بين دول الشمال و دول الجنوب خصوصا من الناحية الاقتصادية و المعلوماتية و التكنولوجية. أما هذا الوضع العام، نلاحظ أنه منذ أكثر من ثلاثين سنة كان العمل المأجور هو السائد كقيمة عمل، فالطالب عندما يغادر المدرسة كان يتوجه مباشرة إلى سوق العمل بحثا عن الشغل لضمان المركز الاجتماعي، و تحقيق الاستقرار النفسي الاجتماعي بشكل نسبي بطبيعة الحال، إلا أنه في أواخر الثمانينات و بداية التسعينات عرف هذا السوق تحولا من حيث صعوبة تلبية الطلب من الناحية الحرفية و الوظيفية، و أيضا من حيث انتقاله من مستواه المركزي إلى المستوى الخاص، حيث بدأ الاهتمام بالمقاولين الشباب Entrepreneurs كأحد الاستراتيجيات التي أصبحت تؤطرها الدول المتقدمة ضمن إستراتيجيتها التعليمية و التكوينية المعتمدة، أي أولئك الذين لهم القدرة على خلق مؤسسات خاصة بناء على تعاقدات رسمية أو شبه رسمية يؤسسونها بينهم و بين شركة أو مجموعة من الشركات غير الرسمية، و بذلك كثر الحديث في بداية التسعينات عن الشغل المستقل و الشغل الذاتي، لأن العامل المستقل هو كل شخص غير مأجور يعمل لحسابه الخاص و اعتمادا على إمكاناته الذاتية، إلا أن هذا لا يجعلنا نعتقد من أن الشغل الذاتي سوف يعمل على إبادة الشغل المأجور، بل يمكن القول بان شباب اليوم ولجوا عالما قد يكونوا فيه مأجورين و ذاتيين في نفس الوقت؛ و من هنا يمكن طرح الأسئلة التالية:هل مدرسة المغربية اليوم تعد الشباب لمثل هذا التناوب ضمانا لحسن اندماجهم و توافقهم مع حركية المجتمع في تعقيداتها البنيوية و النسقية؟. و هل يعني هذا أن المدرسة الحالية بتركيبها البشرية و بطاقمها التربوي و البيداغوجي و بإمكانياتها المادية المحدودة، معدة اليوم لمساعدة الشباب على إيجاد مكانة في المستقبل، اعتمادا على حاجياتهم الذاتية و الموضوعية، و على الحاجيات التي يشترطها المجتمع المدني و مجمل الفاعلين الاقتصاديين و الاجتماعيين و السياسيين الذي ينتمون إليه؟. تأسيسا على النتائج المحققة في البحث الميداني المشار إليه، نستشف ان المدرسة المغربية عموما و معارفها المبرمجة ضمن سياق مناهجها الدراسية، مازالت متقوقعة في إطار سياسة تربوية تعليمية محدودة الأفق من الناحية الاستراتيجية، و محصورة في نطاق تحقيق مكون التنجيح المدرسي ، كجسر للارتقاء المعرفي، أكثر مما هي موجهة نحو تحضير الشباب للمستقبل الذاتي و الاجتماعي من خلال تسليحهم بعدة مهارية تستجيب من جهة لاحتياجاتهم النفسية الاجتماعية أو السوسيووجدانية، و تتوافق مع متطلبات و احتياجات المجتمع المدني، و عيا منا بأن أي تطور من الناحية الاقتصادية لا يمكنه ان يستقيم إلا بواسطة التربية و التعليم، باعتبارهما من الوسائل الاستراتيجية لتكوين الرأسمال البشري، عبر مدخلات مبنينة تتجه نحو اكساب الفئات المستهدفة بداخلهما مهارات و كفايات تستجيب للطلب الاجتماعي و التكنولوجي و الصناعي، و التي من شأنها أن تتحول إلى مخرجات سلوكية كمنتوج نهائي، يتقاطع مع الأهداف المرسومة من طرف سلطة القرار داخل المجتمع؛ و هكذا تبقى فعالية التربية و التعليم مشروطة لفعالية المدخلات و المخرجات التي ينتجها الفعل التعليمي كمعرفة تعليمية . و انطلاقا من هذه التساؤلات المصادفة في مسارات هذا البحث من الناحية التركيبية، نؤكد في هذا السياق على ضرورة تكوين الشباب لكي يصبحوا قادرين على التخطيط و البرمجة لمستقبلهم التعليمي حسب حاجياتهم النفسية الاجتماعية و المعرفية، منذ سن مبكرة حتى لا يسقطوا في الترددات و الارتجالية العمياء أثناء الرغبة في تحديد مصيرهم على المدى البعيد، كما هو مستنتج ضمن مجريات مشروع بحثنا . و إذا كان طرحنا لهذا الموضوع يأخذ صبغته الشمولية من موقع العلاقة القائمة بين المشروع التعليمي و المشروع المجتمعي، فإن مسألة التعليم باعتبارها جزءا من وضعية التربية عموما تبقى إحدى الرهانات الكبرى لتحقيق الاندماج للأفراد الاجتماعيين، خصوصا إذا كانت السياسة التعليمية متوازنة مع السياسة التربوية و بالتالي متماشية مع اختيارات التنمية الشمولية. إن عملية تصور التعليم كوسيلة من وسائل الترقي الاجتماعي ، في إطار ضمان الوظيف، لم تعد قائمة كحاجة أولية في الظروف الراهنة اعتبارا لإكراهات اقتصادية، و لمحدودية المؤسسة المدرسية عموما في ضمان الوظيف لهذه الجيوش الاحتياطية من حاملي الدبلومات كما سبق لنا الإشارة إلى ذلك، الشيء الذي يفرض على سلطة القرار داخل المجتمع أن تعيد النظر في أهداف التعليم و تهيئ الشباب إلى ولوج قطاعات خاصة قمينة بتحقيق مشاريعهم المستقبلية بالصيغة اللائقة و المستجيبة من جهة لاحتياجاتهم الذاتية و لاختصاصاتهم الفكرية و كفاياتهم المهارية، و من جهة ثانية لمتطلبات المجتمع المدني عامة و الفاعلين الاقتصاديين و السياسيين و التقنيين خاصة، بمختلف مؤسساتهم العلمية و التكنولوجية و الثقافية و الاقتصادية...... المراجع1 - هذه الورقة المقدمة مقتبسة من المشروع العلمي التالي: - محمد لمباشري: تمثلات المتعلمين للمدرسة و علاقتها بتوافقهم الاجتماعي. بحث لنيل دكتوراه الدولة تخصص علم النفس الاجتماعي، 2004 2 يمكن الرجوع لنبيل علي: الثقافة العربية و عصر المعلومات. رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي. مجلة عالم المعرفة، العدد:276، 3HALAK, J : Education et globalisation. Contributions de L'I I P E, N ° :26, Paris ,1998. 4. يمكن الرجوع في هذا الموضوع للكتاب التالي:BOTKIN, J. W ; ELMANDJRA, M et autre : On ne finit pas d'apprendre, rapport au club de Rome. Paris, PERGAMON PRESS, 1980.5 Voire : Revue de la vie pédagogique. N° : 100.1996 : Une école qui a de l'avenir. P : 66 ANNA, BONBOIR : Une pédagogie de demain. PUF, 1979.P :51.