على صباح الشعر ، وفي حضرة الشعراء والمبدعين والطلبة، كان الشاعر والكاتب عبد الحميد جماهري مسك اختتام الدورة الثانية لبرنامج ربيع الكتاب المنظم من طرف جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء وكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية وجمعية آفاق الطالب التي اختارت عنوان الدورة «دور الكتاب في خلق الوعي المجتمعي » . وافتتح اللقاء الاحتفائي بالشاعر والكاتب عبد الحميد جماهري عميد الكلية الدكتور جمال حطابي الذي كان سعيدا بتقديم المحتفى به الذي اعتبره متعدد المواهب والاختصاص ، السياسي والنقابي والاجتماعي ، وسعيد اليوم يقول عميد الكلية «لأنه يقدم الشاعر جماهري ويتمنى أن يكون قدوته في الشعر والحياة». بعد ذلك أدلى سعيد عاهد الشاعر والصحفي بشهادة في حق المحتفى به عنونها باستطرادات محايثة ل «نثريات الغريب» حيث قال : «يجبره الفعل السياسي والكتابة الصحافية ومستلزمات المشاركة في منتديات عدة، على الخضوع لسلطة النثر ولتسلطه، رغم أن روح الشعر ورحيقه ونفَسه نفحات تتسلل إلى نثره لأن الشاعر لا يخون انتماءه للشعر الذي هو «مغامرة في اتجاه المطلق» (بيدرو ساليناس). ومع ذلك، ولحسن حظ عشاق الشعر وإشراقاته، ينبض قلم حميد جماهري قصائد كلما استطاع حامله إلى ذلك سبيلا، متسللا خارج قارة نثر العمود والمقال الصحفيين والتحليل وصياغة الموقف السياسيين، ليحط الرحال في جغرافية القول الشعري الرحبة والمشبعة بسعة الخيال وحرية الحرف، أو بالأحرى يعود إليها كدرع يقي من فقدان الذاكرة... كأثر مقاومة لاحتمال أن «يضيع الهواء اسمه/ والماء اسمه، والحنين والتلال والأرانب والقطرات والغابة الوافرة في أحاسيس، أسماءها». وكان صديق عبد الحميد جماهري، سعيد عاهد قد أدلى بهذه الشهادة في اللقاء الاحتفائي بديوان «نثريات الغريب» المنظم بالمحمدية في 11 فبراير الماضي، لكنه قدمها منقحة ومحينة ومزيدة في رحاب الكلية. كما نقدم هنا شهادات لكل من الكاتب حميد المصباحي ومحمد خفيفي . واختتم اللقاء مع الكاتب والشاعر عبد الحميد جماهري بإهدائه لوحة عبارة عن بورتريه من طرف جمعية آفاق الطالب سلمها له الطالب علي خبزي ، مع توقيع أعماله محمد خفيفي: «نثريات الغريب» بيان من أجل الحب جميل أن يعانق الشعر وتعانق القصائد فضاءات الكليات والمعاهد والمؤسسات التربوية.. وجميل أن نجهر جميعا بحبنا للشعر والشعراء في وقت كثر فيه الدجالون ومناصبو العداء للشعر والفلسفة والفكر الحر عموما ،لحظة مائزة أن تختلط المعاني الجميلة الرائقة والحالمة داخل فضاء اعتاد على المعاني الصارمة التي يتجاذبها التشريع والقانون والفقه .... وبالعمق الفني نحتضن هذه الصرخة الشعرية من شاعرنا عبد الحميد جماهري وهو يخرج من قفص اليومي المشبع بالسياسة والصحافة ومتابعة التفاصيل الدقيقة للشأن الوطني، كواحد من قياديي حزب له موقعه في الصراع الاجتماعي والسياسي الذي تعرفه بلادنا،ليتأبط شعره ويخرج في الناس شاهرا ديوانه الجديد :نثريات الغريب صادحا أني جئتكم بخبر يقين..... المتتبع لتجربة عبد الحميد جماهري الشعرية، سيلاحظ أنها تجربة متحولة في الزمان،رافضة للثبات، متطلعة للتجديد، الواضح فيها أنها انسلخت من ثقل الإيديولوجي والسياسي الذي كان يخنق القصيدة المغربية وتحللت منه، لتعلن ولاءها للشرط الجمالي الذي يعيد للشعر رونقه وبهاءه بما ينسجم مع ما يسميه بورخيس المعتقد الشعري . في التقديم تنكشف هوية شاعر يمجد الحب، يعلن البيعة القدسية للحب، في التقديم يستدعي الشاعر سلالته وشجرة نسبه الهاربة من شعراء الفرنسية الكبار: هنا يقف روني شار، من تسميه أسية السخيري سيد الفرح المستحيل وصانع الرؤى الهاربة، شاعر التوحد والتركيز والنسك. وبول إيلوار بنزعته الإنسانية، وعشقه ونضاله السياسي وصداقاته للفنانين خصوصا بيكاسو، شاعر الحب والسلام، والشاعر الذي فتن وهو في مصحة استشفائية بالشابة الروسية غالا زوجته الأولى، شاعر المرأة الحب بامتياز. وجاك بريفير الشاعر الذي تعلم من الحياة أكثر مما تعلم من المدرسة،الشاعر الضجر العاشق للحرية الكاره للمؤسسات ، شاعر مدينة النور المستجير منها بها، شاعر الشعب بعد فيكتور هيغو والذي استطاع أن يقيم علاقة مودة بين اللغة والحياة. بودلير مؤسس الحداثة الشعرية المفارقة لزمنه،شاعر اليتم والتحرر وخلق المسافات مع المدرسة والوظيفة والزواج والدين، زعيم الرمزية وشاعر اللذة والألم، شاعر الحب المغدور بزواج أمه وهو لا زال صبيا المنجذب للأقاصي المظلمة والغامضة....هذه شجرة العائلة الشعرية المنتقاة تتصالح فيها السريالية، بثورتها وعنفها وشغبها، مع الرمزية في غموضها وفي إيحاءاتها بالأفكار والصور والأحاسيس. لذلك تصعب محاورة النثريات خارج رصيد المعرفة الشعرية المتمكنة من سبر أغوار الجغرافيات والأقاليم الشعرية الباذخة، خصوصا منها الأوربية والأخص منها الفرنسية، مع إطلالة على أرخبيل معاصر يتنصب فيه الشاعر البيروفي بروفيريو ماماني ماسيدو ،ذلك المحامي الذي عشق الأدب وكتب نصوصا مائزة تتوزع بين السرد والشعر منها:»أشعار للغريبة» ورواية «الحديقة والنسيان» حاملا للتجديد الشعري ولعمق المعاني الشفافة ولعل ذلك ما جعل عبد الحميد جماهري يختار أن يترجم نصوصا له اعتبرها تساير هوى ديوانه الشعري. وهي بالفعل نصوص حالمة متدفقة بنسائم العشق والانتظار الجميل: بي رغبة أن أسقط في هاوية من الحنان باتجاه ذلك النفس الشفيف الذي لا أراه قط يأتيني من مكان ما ليحرق هذه الشساعة الجرداء أمام عيني أيتها الغريبة،أنت يا من تتقدمين نحو الخطر الغريب في عيني أنت يا من تبحثين عني في العدم أنت التي توقظين ساعات الغسق مثل طيف تخطرين في الليالي، بريئة وطاهرة بمطرك يسقط فوق صحرائي ص79 ترى ما الذي يجمع بين غريب عبد الحميد اجماهري الذي لا يملك سوى نثريات زهيدات لا تسمن ولا تغني من عيش، وغريبة ماماني ماسيدو التي تحفظ السر المحفور في الغبار، وأين يجد غريب بودلير مكانه بين الاثنين ذلك الذي يحب الغيوم وقطع السحاب هناك في الأعالي؟ الغريب في الديوان الشعري مدثر بهذا البعد الصوفي جئتك لابسا الثلج والباب شمس قديمة ص32 ومسكون بهذه الرغبة الجامحة في الوصال: قلت «لا داعي لكي نستيقظ سعاة للازورد أو متسوليه رأيت أن علينا عمر الحياة، لننهزم أمام الحب،قلت هذا ثأر يطارد عرقنا، وأقمنا في السريرة مأدبة الأعضاء؟ ص35. القارئ لهذا المنجز الشعري يتأهب لسفر باذخ ومثير في أقانيم الوجد حيث الحب المغربي مفتتن بلباسها الفيروزي، لغة منشرحة مسرورة بغنائيتها «إنها لا تبالي بنفسها» كما يقول نوفاليس، فرحة تتطاير منها شرارات التهاب داخلي ، «تستمد اللغة ماهيتها مما سماه الإغريق فيزوسا، أي قوة الإظهار والانبثاق، ومن ثم، فلغة الشعر لغة إظهار بالأساس وليست لغة تعبير»ص15. عشق اللسانين وازدواجية اللغة بين العربية والفرنسية عملة نادرة في متون الشعر المغربي المعاصر،لأن التجربة منذورة للخوف والتخوف، للإقدام والتردد، المصاحبة والمواكبة والمزاوجة تعبير عن إدراك واضح بكونية الشعر وامتداداته الكبرى التي لا تعترف بالحدود،تلك التي تؤسس لمنظومة يحكمها الشعر أولا وأخيرا ، لذلك تعيد اللغة ترتيب سياقاتها وتقترض من النثريات، تلك البقايا التي تعيد الأمل في نفوس من لا يمتلكون سوى أحلامهم،لذلك فطبيعي أن تتشبث اللغة بالمستقبل، لا تلتفت للماضي إلا لتجاوزه. Ah ,je suis sourd Comme un œil Qui voit la couleur De tes désirs Dans un champs يتسع أفق هذا الديوان إلى الانتباه إلى كليات الأشياء ،إلى عناصر الحياة،حيث الضوء الهارب وسط ركام الآثار المادية المدمرة للكينونة،ولهذا كان المتخيل الشعري يركز على هذا الاندفاع نحو تيمة الحب عموما ومخاطبة المرأة خصوصا ،والإبحار الجميل نحو تخوم الذات الإنسانية بفاعلية ذات وعي ولا وعي ثقافي، تحضر فيه كل الإكراهات التي تحاصر واقعنا وتشوه فضاءاته السياسية والثقافية والاجتماعية. ديوان «نثريات الغريب» ديوان الكثافة الشعرية التي تستدعي تجربة عميقة في الحياة ، وتستدعي قوة اللغة الشعرية وقدرتها على مضاعفة الاحتمالات الممكنة. حميد المصباحي: «من الصخيرات إلى تازمامارت» مساءلة للماضي بداية أود الانطلاق من قاعدة أعتبرها تمهيدا لتوضيح وهي صيغة على شكل سؤال: من هو الشاعر؟ في نظري، إنه من يزيد قدرتنا على تحمل الفظاعات، بما يفتح أمامنا من إمكانات، لإدراك الأبعاد الجمالية حتى في رفضنا العاطفي للبشاعات، من هنا كان عبد الحميد جماهري موفقا في اختيار ما يكتب حوله، عندما يفكر في الانتقال من الشعر إلى مجالات أخرى، موازية أو مختلفة، إما تفكيرا أو ترجمة، من هنا كانت كتابته حول ترجمة كتاب محمد الرايس المعنون ب"من الصخيرات إلى تازمامارت". لا شك أن لهذا الخيار وعيه الحاد بالتاريخ، ليس فقط باعتباره أحداثا ووقائع يصنعها الإنسان، بل أيضا باعتبار التاريخ صانعا لنا، كاختيارات واعترافات، وأيضا كعبر ينبغي تأملها و والوعي بها، وما تعبر عنه من أبعاد حول الذات و كيفيات التعامل معها، في صيرورتها وهي تتأسس على هوية وتؤسس لها في الوقت ذاته. إن هذه الترجمة كما قرأتها، لا تسعى لإعادة تصور الماضي، بل مساءلته بلسان الكاتب ودون إضافات يبررها الكثير من المترجمين بضرورة خيانة النص إبداعيا. حافظ جماهري على أصل الحكاية وحواراتها، ليقدم لنا وقائع نظر إليها مشارك فيها، وحافظ على انفعالات الرايس ومجازاتها التي كانت نتاج حالة غير قابلة للتصور، في السجن و حتى أثناء وقائع العمليتين الإنقلابيتين(71و72). ولأول مرة بهذه الترجمة أكتشف الروابط الخفية بين المحاولتين، وامتداداتهما السياسية لذلك توقفت كثيرا عند القضايا التالية: 1) الشاعر والفكر: نادرا ما نجد الشاعر مهتما بما هو تاريخي، اللهم تاريخية اللغة، بينما عبد الحميد جماهري، مواكب بفكر وعاطفة لما يحدث في الوطن، من تفاعلات حول اللحظة و التاريخ المغربي، بذلك فقد حفز من خلال ترجمته لهذا الكتاب على أن يكتب الساسة القدامى ما في مذكراتهم من حقائق حول الكثير من القضايا التي يفضل الكثير منهم عدم إعادة التفكير فيها لتسهيل عمليات النسيان، درءا لما يمكن اعتباره تجريحا أو ربما فتح الجراحات القديمة. 2 ) الشاعر والحقيقة: الحقيقة ليست مجرد مجازات نكونها حول ذاتنا أو ذوات أخرى، إنها تعني الكل، وارتباطنا بها ليس عقليا خالصا، بل أيضا عاطفيا ووجدانيا، فالكثير من الحقائق، و إن كانت تبدو محايدة، فهي حاجة عاطفية تجاه الأحياء وحتى الشهداء وذويهم. إن الشاعر، وعبد الحميد جماهري واحد منهم، له حق عشق الحقيقة ليبحث عنها، بعيدا عن نفعيتها التاريخية أو حتى السياسية، كما يتخيلها البعض، وهذا من حقهم. 3) الشاعر والحب: للشاعر قلب يتسع للجميع، لذلك لا يمكنه كره أحد، بل إن عبد الحميد جماهري، بما يكتبه حول الحب أجده حاضرا، ترجمة وفكرا في رفضه للكراهية، كيفما كانت مبررات حدوثها، فعندما يترجم يفكر، تجده شاعرا يتجنب التجريح و لو كان ملغزا أو مرمزنا، تلك ليست مجرد عادة يسميها البعض بدبوماسية الصراع، بل هي سلوك حضاري و عاطفي وتجسيد لشاعرية في الفكر وربما حتى في السياسة، بما هي صدق مع الذات والغير. الشِّعْر؟ هو الحق في كتابة يأس جميل! لا يكون الشعر، كي تكون الحياة أفضل، بل يوجد لكي تكون تراجيدية، وتكون قريبة من صاحبها. أو شبيهة به إلى الحد الذي يجعله يعتقد بأنه حي! في الواقع ظل الشعراء يعتقدون بأن الحب وحده قادر على قتلهم والجمال وحده يقتلهم، أو قادر على أن يجعلهم يفتحون له الأذرع كعدو حميم وجميل ويليق به أن يطعنهم. غير أن الحب، لم يقتل أحدا منهم.. الحب يشق القلب إلى نصفين، كما يقول الشاعر درويش، ويذكرهم بأنهم عاطفيون على مزاج كأس قهوة أو سيجارة بجوار النهر أو مزاج النبيذ.. وعلى مناخ الارتباك، مثل زهرة في بداية أبريل أو مثل مطر في ليل صيفي يحتار في تعريف نفسه كلما سألته ضيفته الشجرة! والجمال بدوره لم ينقذ الكثير من الشعراء الذين بقوا مكتوفي الخيال إزاءه. وهم مثل كل عشاقه، حمقى، يذهبون إليه مرغمين:لا أحد يحب الجمال طواعية، أو بإرادة منه. نحن نحبه لأنه قريب من التراجيديا، ولأنه يذكرنا بشرط الهشاشة الواجب في الكينونة. لهذا يكون الشعر دوما محاولة تصعيد جمالي، بشقاء الكائن! والذي يقتل الشعراء في وقتنا الحالي، هو الضجر أو السرد الروائي أو السينما أو المتطرفون.. التاريخ مازال يسخر من الشعراء منذ أن طردهم أفلاطون من جمهوريته السعيدة، وقادهم إلى حدودها بالأناشيد: فهتفوا معه حبا في الأغنية ونسوا المنفى السعيد! ولم يثبت أنه قتلهم، كما يفعل عرب التاريخ المعاصر! يموت الشعراء لأنهم شعراء، وليس لأنهم مواطنون في بلاد مغلقة، يقودهم لسانهم إلى حتفهم لأن الشعر عقيدة مضادة لعقائد القتلة. هم ليسوا الشعب، لكنهم يقتربون من الشعب، عندما يقلدونه في كراهية الحاكم أو في القرابة مع خبز الوالدة! وهم ليسوا الشعب، لكنهم يبتعدون* فيه كلما غنوا لثوراته المجهضة أو لأبنائهم وهم يحملون محفظات اليأس فوق ظهورهم ويتوجهون إلى المستقبل بِحيرَة المنفيين فيه! الشعراء لا يصْحون من شعرهم معافين:يحملون دوما مسدسا من كابوس البارحة، أو رصاصة أو دما، أو يحملون خيبة حب! ويعتقد الشعراء، عن غير حق دوما، بأن قصيدتهم صفة من صفة المقاومة، إلى أن يثبت أنهم بشر يُقْتلون، وتنتهي أعمارهم مثل حفنة من الأرز! ومثل غيمة قاحلة .... ويعتقدون بكبرياء أنهم ضروريون للأمل... في الوقت الذي يتفننون في اليأس! وينتظرون من الوردة أن تجدد عمرهم، وهم في واقع الحال يشحذون خيباتهم مثل مقص البستاني.. الشعراء اليوم يعتقدون بقوة الشعر السحرية في ترويض البشرية:لكنهم عندما يوسعون خيالهم تضيق الأرض بهم:في العراق وسوريا و الخليج العربي والفارسي، يسجنون ويسحلون ويشنقون لأجل مائة*** كلمة من أجل بلادهم.. هناك حيث تستعمل القصيدة كوسيلة من وسائل الجريمة ويعيد الشاعر تمثيل نكايتهم به، وبأمثاله على مرأى من العالم الحائر. لمن تكتب، تسألك الطالبة، فتنظر في عينها مطولا وتكاد تعتقد بأنك تكتب لها تقول :أكتب لها، فتزداد حيرتك وتبتسم هي من ارتباكك. لمن تكتب تسألك المناضلة:تنظر مليا في شفتيها وتنتظر الجواب منها، ولما تعجز تتركك وتذهب إلى النثر! حياتها التي تجيدها! وقد تكتب الشعر لكي تستعيدها من ضباب حيرتك أو تسترجعها إلى فراغها العاطفي، وتستدرج الوردة إلى سياجها وتنبهه إلى أن الوطن لا بد له منها لكي يكون كامل القضية. لا الحب حب ولا الوطن وطن ولا القضية قضية بدون نرجسيتك المفرطة وثقتك العمياء في اللغة أيها الشاعر. تكتشف الشاعرية الجديدة أنها لا تجاور اليأس إلا إذا كان يعني الإنسانية، وهو في الحقيقة التمرين القاسي، لكنه ضروري لكي تحلم بالأشياء العصية، ولكي تنقذ ما يمكن إنقاذه من نثرية الواقع. إنهم هؤلاء الشعراء يَرِثون الشوك ولكنهم لا يذكرون سوى العبير من الوردة التي كانت ذات يوما عنوان حياتهم. ولما عممت السينما صورتها على كل بصائر العالم، وجدت الصورة الشعرية إمكانيتها الوحيدة في أن تغري العالم باليأس، تلك الغمامة الضرورية للمهابة الإنسانية المطلوبة في المطلق! لم يعد الشعر، ممكنا إلا باليأس، من أن تكون البشرية أفضل ذات يوم ، مما يصورها الساسة وباعة السلاح وموظفو الحقيقة في بنوك العالم والفصائل القائمة في ضيق التنفس الذي أصاب الحضارة.. الشعر؟إنه الحق في اليأس إذن! إن ما نتمناه، حقا عندما نكتب هو أن نكتب يأسا جميلا! ولكي تكون القصيدة عشبة اليأس، حتى يطول الشِّعْر، كما تحلم بذلك النساء في خيالنا المفرط، يشعر الشاعر بأن عليه أن يتمنى انقلاب العالم واللغة وتشظي العاطفة! يحلم بمجرى جديد للغة، باستعمال لغة طاعنة في السن! ويتمنى أن يستعيد فرحه كاملا، بعد تمارين اليأس الكثيرة، ويحدث ألا تتحرك الأقمار التي رآها، قبل القصيدة في نهر ما ويحدث ألا يرى غابة النخيل أو عصافير النهر نفسه ولا يجد الانسجام الضروري بين الشعر واليأس، فيعود إلى واقعه :يتأرجح بين اللغة والصلاة! من حسن حظ الشاعر أن أعماقه تنقذه، لا بالصور التي تنبثق فجأة أو التي تنتجها الموهبة وحظها، بل أيضا من الارتباك الكبير والمقدس الذي يحدث كلما اقترب من اللغة!أو بدون وسائل للحيطة أو تخفيف الصدمات.. من حسن حظه أنه يجدد ماء اللغة باليأس منها!