بحضور ثلة من الباحثين والمهتمين من مختلف مناطق المغرب، نظمت جمعية اتحاد أصدقاء الفلسفة ندوة وطنية في موضوع «التنوير والإصلاح الديني»، وذلك يوم السبت 23 أبريل 2016، ابتداء من الساعة الرابعة بعد الزوال بدار الشباب ابن جرير. افتتحت الندوة بكلمة للسيدة خديجة كرومي رئيسة الجمعية، التي ذكرت بسياقات اختيار موضوع التنوير والدين للنقاش العمومي، مشيدة بما يعرفه المغرب مؤخرا من حركية تنويرية بغاية الخروج من «ضيق العيش إلى رحابة الوجود»، ومثمنة كل الجبهات المفتوحة لمعركة التنوير خاصة ما تعلق منها بمراجعة مناهج التربية الدينية، ومحاولة إعادة النظر في ما يتعلق بحق المرأة في الإرث بما يضمن لها الحق في المساواة والكرامة، إذ أكدت على ضرورة الوعي بأهمية الخطاب العقلاني والوعي التنويري في محاصرة الخطابات المتطرفة والمتشددة، التي صارت تهدد المغرب بعد أن فقد شبابه المناعة التفكيرية اللازمة للتصدي إلى «حناجر التجييش والتحريض والإرهاب»، لذلك لابد من المساهمة في التفكير في آليات لقطع الطريق على نداءات العنف الديني، من خلال قراءات معاصرة للنصوص الدينية منفتحة على أخلاقيات الرحمة والمحبة والسلم والأمن والاستقرار. من جهته، وفي كلمة أولى، لفت المفكر والباحث عبد العزيز البومسهولي النظر إلى أهمية الموضوع المطروق، حيث تركيبه بين لحظتين أساسيتين :التنوير والإصلاح الديني، متوقفا عند دلالاتها التنويرية، مشيرا إلى أن الغاية هي الانتقال من «الوجود الغفل إلى الوجود بالكيف»، من خلال التمرن على الحرية خاصة حرية التفكير لملازمتها للتنوير، وقد أوضح البومسهولي راهنية هذا النقاش بعد مخلفات «الربيع العربي»، وما نتج عنها من هيمنة لتيارات سطت على المجهودات التحررية، وأعلنت ارتدادها عن قيم الحرية والتنوير، باسم الدين، مبينا استحالة العيش من دون الدين وبه أيضا، فالإنسان منفتح على أبعاد عديدة جمالية وميتافيزيقية، ويستحيل حصره في بعد واحد، وفي الوقت نفسه من الصعب أن يعيش من دونه لحاجته إليه، لكن ما يجب توجيه النظر إليه هو تكييف الدين مع متطلبات العصر، وهنا أشار صاحب «الفلسفة والحراك العربي» إلى التحول الخطير، الذي طرأ على مفهوم السنة، فبعد كانت تدل على الإبداع، صارت مرادفة للاتباع، في انقلاب دلالي حول الناس من خاصية الفعل في الوجود إلى الانفعال به فصار الترادف بين السنة والتقليد. محمد منير الحجوجي، عمل على تناول الموضوع من وجهة نظر مختلفة، إذ ركز في مداخلته على أهمية التفكير في مدخلات ومخرجات العيش المشترك، باعتباره الرهان الأساسي للوجود الإنساني أمام حجم «البشاعة الإنسانية»، التي أدت به إلى تدمير مسكنه (الأرض)، وقد قلل صاحب» القوات المسلحة الإيديولوجية» من الاعتبار الديني، في مقابل تأكيده على تدخل شروط أخرى لتجاوز «التفاهة السائدة»، خاصة ماله صلة ب»الاستبداد السياسي» و» سوء توزيع الثروات»، ومن خلال الكثير من الأمثلة، بيّن منير الحجوجي أن الحاجة تبقى ملحة لإعادة النظر في مفهوم الإنسان، مذكرا في هذا الباب بأهمية التجربة الإبراهيمية، التي عكست أن الإنسان وجد في الوجود ليعيش لا ليُذبح، ملمحا إلى ما تعرفه «الكرامة الإنسانية» من ذبح وسحل يوميٍّ باسم الدين أحيانا ولكن باسم الإنسان نفسه والاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها في أحيان أخرى، خاتما كلمته بالتعبير عن أمله في أنسنة الإنسان من جديد بالمراهنة على علاقات الغيرية وأخلاقيات العقل. أما الباحث رشيد العلوي، فقد اختار مساءلة موضوع الندوة بالكشف عن مجموعة من الأوهام العالقة بالذهنية الإسلامية، التي تعمد إلى توظيف الدين لقضاء مآربها الخاصة، معرجا على «الزواج التقليدي» بين الحركات الإسلامية والرأسمال، وإخضاع الإنسان لشذوذ الرأسمالية العالمية ومازوشيتها من خلال الخطاب الديني، ذاكرا مجموعة من الأمثلة في هذا الباب، ومشيرا إلى أن مسألة العلمانية تطرح أهميتها في النقاش العمومي، مع ضرورة الانتباه إلى أن العلمانية علمانيات، وبالتالي فمن ممكنات الخروج من التسلط الديني والسياسي اجتراح شكل ما، يتيح للعالم الإسلامي تجاوز معضلة الصراع الديني والتطرف الإرهابي. هذا وقد توقف رشيد العلوي متسائلا: هل يتعلق الأمر ب «ثورة دينية» أم ب»إصلاح ديني» ! إذ أن الجميل هو أن تكون هناك ثورة دينية من داخل الدين، تعيد مساءلة وهم «النرجسية الدينية»، والتي هي ليست حكرا على الدين الإسلامي دون غيره، إن آفة «شعب الله المنتقى» تخترق كل الأديان، ولكن من غير المعقول اعتبارها مبررا دينيا لممارسة الاقتتال، خاصة مع استحالة العيش في انغلاق على الذات في الزمن المعاصر، أمام أهمية جماليات الكوني حقوقيا وإنسانيا. وباسم حركة تنوير، ضيف شرف الندوة، والتي أبت إلا أن تشارك في هذه المبادرة بمدينة ابن جرير، انسجاما مع مبادئ تأسيسها كما أكد جواد الحامدي عضو اللجنة التحضيرية للحركة، باسمها ألقى محمد العماري، كلمة عبر فيها عن سعادته بحضور اللقاء، مؤكدا على أهمية هذه المبادرات في الوعي بضرورة التنوير كمدخل لإصلاح المجتمع، وقد أشار العماري إلى أن حركة تنوير تتحدث عن «تطوير الخطاب الديني»، ومراجعة سلسلة القداسات، التي أمست مطية لفوضى دينية من خلال ما ينشر في فضاءات التواصل الإلكتروني، وظهور وساطات جديدة غريبة عن الدين الإسلامي، خاتما حديثه بالتأكيد على كون التمييز بين الشأن الديني والشأن السياسي، قد يشكل بديلا مجتمعيا للحيلولة دون تدنيس المقدس وتقديس المدنس. أما صاحب «الحداثة والقرآن» المفكر المغربي وعضو رابطة العقلانيين العرب سعيد ناشيد، فقد افتتح كلمته بالتعبير عن سعادته بعلاقته الحميمية مع مدينة ابن جرير وأهلها، شاكرا جمعية اتحاد أصدقاء الفلسفة على مبادرتها التنويرية، منطلقا من معاودة النظر في بعض المفاهيم ذات الصلة بالموضوع، والتي يعتقد أنها معروفة بذاتها، ليعيد سعيد طرحها للنقاش بفهم جديد، يزيل عنها بعض مبهماتها وبداهاتها، ومن بين هذه المفاهيم تطرق سعيد ناشيد إلى مفهوم الدين والخطاب الديني، حيث الفروق كبيرة بين الدين كما هو وارد في القرآن، وبين الموروث الفقهي الذي تم إنتاجه على هامش القرآن، كما إن الصراع حول «قضية التأويل»، قد أفضت إلى انتصار تأويل معين على تأويل آخر لأسباب شتى، غلبّت طرفا على طرف، وغلبت الانتصار للشريعة على العقيدة، وهو انقلاب على مستوى الفهم الديني، لأن الأساس هو التركيز على العقيدة، أما مسألة التشريع فهي موكولة إلى أهل الأرض، لهذا مافتئ الوحي يشير على النبي بهذا، وينبهه إلى ذاك، بل ويعيده إلى الصواب حينا، ولكن انتصار تأويل معين، تناسى القرآن وركز على الفقه التشريعي، مما أدى إلى جملة مفارقات أثرت سلبا على العلاقة بين الإنسان والخطاب الديني، حيث مطالبته في بعض الأحيان بمطالب هي في طبيعتها مناقضة لطبيعة الإنسان، وقد ساهم ذلك في مجموعة من الانمحاءات منها انمحاء الفرد وانمحاء المرأة وانمحاء الإرادة وانمحاء العقل وانمحاء الإنسان، لتطويع الذات الإنسانية المفترض أن تكون ذاتا فاعلة مريدة عاقلة وواعية، غير خاضعة لأي شكل من أشكال الوصاية. وفي خلاصة تركيبية له باعتباره منسقا لأعمال الندوة، تحدث عبد الواحد ايت الزين عن الاعتبارات التي حكمت طرح جمعية اتحاد أصدقاء الفلسفة لهذا الموضوع، حيث إيمان الجمعية بالحاجة إلى التأسيس لثقافة الاختلاف والتسامح والتعدد والإنصات لمختلف وجهات النظر، منبها إلى أن الموضوع لا يتعلق ب»الإصلاح الديني» فقط، كما يعتقد البعض، بقدر ما يتعلق بالتنوير أساسا، أما مسألة الإصلاح، فقد وردت ك»سؤال»، الغاية من طرحه محاولة فهم بعض المعطيات المعرفية والتاريخية التي تحتم تناوله، بعيدا عن المقاربات «الأصولوية» و»الحداثوية»، وقد أوضح ايت الزين أن التفكير في المسألة الدينية، يشكل مدخلا حقيقيا للتنوير، شريطة الانتباه إلى إفلاس كافة النزعات الإقصائية والعنفية، التي دخلت في حوار «طرشانٍ»، قد عاق في الكثير من اللحظات التاريخية التأسيس لحوار عاقل ومتعقل بشأن الموضوع، ولربما، - يؤكد المتدخل – أن الاختلاف الذي جسدته الندوة من خلال مذاكرات المحاضرين والمتدخلين، تجسد النجاح الباهر لأشغال الندوة، متمنيا فتح حلقات جديدة بشأن هذه القضايا لاتصالها بملفات فكرية أخرى من قبيل قضايا الهوية والنقد والعيش المشترك والثقافة وحقوق الإنسان، ف»لا بديل لنا من الإنصات الهادئ لبعضنا البعض» يقول منسق الندوة، والأهم هو مساهمة كافة المتدخلين أنى كان انتماؤهم وتلوينات أفكارهم في مناهضة العنف الكوكبي والإرهاب العالمي ومحاصرة خطابات التشدد والتطرف والمغالاة، للدفاع عن مجتمع يسعنا جميعنا باختلافاتنا، ف»الوجود رحب بما يكفي لكي يسع الجميع»، يختم المتحدث كلمته. يذكر، أن أشغال الندوة قد انتهت بحفل توقيع لكتاب الحداثة والقرآن، حيث عمل صاحبه سعيد ناشيد على توقيع مجموعة من النسخ للقراء، في التفاتة نبيلة لتشجيع القراءة والكتابة والإبداع، وهو ما بلورته الجمعية المنظمة من خلال معرض موسع للكتب على هامش الندوة، ضم عددا من المؤلفات ذات الصلة بموضوع الندوة.