لقد اعتبرت الفلسفة، بما هي تأمل وتفكير عقلاني، منذ ظهورها في بلاد اليونان مصدرا لإزعاج العديد من الناس، خاصتهم وعامتهم على حد سواء. ولا يفوتني أن أستحضر هنا قولة للفيلسوف اليوناني سقراط، الذي قال أن «الفكر الفلسفي يبحث عن الإزعاج ويوقظ من النوم العميق»، ما يعني أن كل أشكال الهدم والخلخلة وزعزعة الاستقرار الفكري، نابعة من القدرة التي يمتلكها الفيلسوف في تصويب سهام نقده على المواضيع التي يعتبرها سببا في تيه الإنسان والمجتمع وتخلفه عن ركب الحضارة والتقدم، وكذا من جرأته في طرح القضايا على طاولة التشريح الفكري والفلسفي التي قلما تحضر لدى الإنسان العادي. من هنا نرى أن الفيلسوف، وعبر تاريخ الفلسفة، يعتبر الخصم العنيد لقطاعات مجتمعية متعددة، سياسية ودينية وغيرها.. فضلا عن الصورة المبتسرة التي يكونها عنه التصور العامي المتداول. فعلى المستوى السياسي، شكل المفكر والفيلسوف على حد سواء العنصر غير المرغوب فيه بالنسبة لرجل السلطة الذي يفضل محاصرة كل الأفكار المعارضة التي تكشف زيف خطابه، وتعمل على تعبئة الجماهير ضده، وتدفعهم للوعي بمختلف حقوقهم في سبيل تحقيق كامل لإنسانيتهم. ولنا في تاريخ الفلسفة نماذج كثيرة ومتعددة لتلك المعركة حامية الوطيس بين الفيلسوف ورجل السلطة بدءا من أفلاطون الذي عزله نظام الطغاة عن ممارسة أي نشاط سياسي وقام برميه خارج الدائرة السياسية اليونانية، ما دفع صاحب «الجمهورية» إلى التفكير في مدينة فاضلة يحكمها فيلسوف بدل سياسي مستبد لا يفقه شيئا في أصول الحكم والسياسة. طرف آخر يجد في الفيلسوف الخطر الذي يهدد وحدته وأفكاره، إنه رجل الدين الرافض لكل جديد مخالف له، سواء على مستوى المعرفي أو المنهجي، فتراه يكيل السباب والشتم في حق كل من اقترب من تلك الخطوط الحمراء، التي سماها المفكر الراحل محمد أركون ب»السياج الدوغمائي المغلق»، سياج يرفض رجل الدين، كيفما كانت عقيدته، أن يتجاوزه أو يخرج منه، على اعتبار أن الفيلسوف وحده من يرفض التقوقع وسط دائرة مغلقة، خصوصا أن وسيلته في ذلك هي السؤال الفلسفي الذي يحرره من كل دوغمائية ويوسع أمامه حقل الممكنات، رافضا لكل أجوبة نهائية، كون هذه الأخيرة عمياء، والأسئلة وحدها ترى. ولنا في ابن رشد خير مثال يمكن تقديمه. لقد كان ابن رشد نموذجا مؤسسا للفكر العقلاني الحر، ما جر عليه أعداء كثيرين لبسوا ثياب الدين ودسوا عليه دسيسة في بلاط الخليفة يعقوب المنصور، فقام الأخير بعزله ونفيه، لا لشيء إلا لأن الرجل فكر بمنطق مخالف وبمنهج غير الذي يفكر به رجال الدين آنذاك. زيادة على ما تم ذكره، فإن الفيلسوف ما كان ليعيش بكامل حريته وسط عامة الناس، الذين ينظرون إليه بعين الشدة ويسيئون الظن به حينا، ويتقولون عليه حينا آخر. كما ينسبون إليه أمورا، إن صدق بعضها فمعظمها مختلق ومبالغ فيه. وذلك راجع بالأساس إلى عدم تقبله لكل ما هو متداول وسطحي، إذ هو يبحث عن العمق والمعنى في الأشياء غير مكتف بظاهرها. في حين تفضل العامة عدم الدخول في تفاصيل الأشياء متجاهلة حقيقتها خوفا من جهة، ورغبة منها من جهة أخرى. ويكفي أن تسأل أي واحد من الناس عن الفلسفة والفيلسوف ليتهمك بالثرثرة والكلام الفارغ، هذا إن لم يتهمك بالكفر والزيغ عن الصواب، وهي الصورة نفسها التي تتكرر في بعض الأحيان في وسائل الإعلام التي تكرس تلك الصورة النمطية عن الفيلسوف والمفكر كرجل منزو، مجنون، تائه يطرح أسئلة ولا يجد من يجيبه عنها. إن المهمة التي أنيطت بالفيلسوف (ربما هو من تجشم عناء اختيارها كنوع من السياحة الفكرية) ليست حكرا عليه فقط، لكنها في ما يبدو لي، لغة مشتركة بينه وبين الشاعر، الأديب والمؤرخ والرسام...إلخ، لأنهم يسعون، كل حسب تخصصه، إلى التمرد على الوضع القائم، والتفكير في إمكانية تغييره نحو الأفضل. إن الإزعاج الذي حاولنا كشفه من خلال النماذج السابقة لا يعني البتة إحداثا للفوضى أو زرعا لبذور الفتنة والعنف داخل المجتمع، وإنما المقصود هو أن الفكر الفلسفي بآلياته الحجاجية والبرهانية والمنطقية التي يعتمدها قادر على إحداث يقظة فكرية بناءة في نفوس العديد منا، يقظة قد تسهم في تحرر الوعي الإنساني من سباته الذي أسقطه في غياهب الركود والعدمية والتلقي السلبي للجاهز والمتداول، وهذه كلها ميكانيزمات معطلة للفكر النقدي الحر.