تتعلق مسألة أنواعية الشعر بكُلّ ما يتعلق بتصنيف الشعر إلى أنواع، وهو ما يخضع الشعر لمفهوم يرى فيه نمطاً أدبيّاً قائماً على أنواع. وبالتالي، فإن أنواعية الشعر يندرج ضمنها كل الدراسات التي تناولت الشعر بوصفه خطاباً أنواعيّاً. في كتابه «أنواعية الشعر» ينشغل رشيد يحياوي بالنظر في المسألة ومطارحتها نقديّاً، ورهانه هو تجاوز المستوى الأنواعي الكلاسيكي المتمثل في المقارنة بين الشعر والنثر وتصنيف الشعر ضمن تصنيف الأدب، إلى مساءلة النسق الأنواعي الداخلي للشعر في ذاته بوصفه خطاباً قابلاً للنمذجة الأنواعية. فانطلاقاً من استشكالات متراكبة يطرحها في مقدمة الكتاب (الدار العربية للعلوم ناشرون-2014)، وأغلبها يخصّ علاقة الشعري بالنثري التي تعقدت بظهور مجموعة من الأشكال والأنواع الشعرية المستحدثة، يؤكد يحياوي أن الحدود بين الشعري والنثري أصبحت ملتبسة أكثر من أي وقت مضى، وأن العديد من نصوصنا يسير إما على الحد الفاصل بين الشعري والنثري، أو يعبر مُراوِحاً بين الطرفين. ولهذا، يطالب بمعرفة سؤال ما هو الشعري وما هو النثري، الذي يطرح بحدة على مستوى المنجز التعبيري، أكثر منه على المستوى المفاهيمي المجرد الذي حكم علينا ب»الحلقة المفرغة»، التي ما زال يدور فيها النقاش حول قصيدة النثر، وأين يبتدئ فيها كل من الشعري والنثري، وأين ينتهيان؟ إنّ التمييز- كما يعتقد الباحث- سواء بين الشعري والنثري، وترتيباً عليه بين مختلف أشكال الأدب وممارساته، لا يتمّ إلا إذا حدث وعي بالظواهر بدل التخبُّط في حلقات مفرغة تستهلك الجهد والتفكير بلا طائل. أرسطو وما بعده في حدود الأسئلة المطروحة التي رسمها لكتابه النقدي، يتناول رشيد يحياوي نظرية الأنواعية كما نظّر لها وناقشها الباحثون في السياق الغربي (أرسطو، أفلاطون، جيرار جينيت، جان ماري شيفر..). فقد ترك أرسطو في التراث النقدي أهم إنجاز لرسم الحدود بين الأنواع، ولاسيما الأنواع اليونانية الكبرى المعروفة في عصره والمشهود لها بالقيمة الأدبية، أي ثنائية الملحمي والدرامي، قبل أن يؤسس النقاد الذين أتوا بعده من كلاسيكيين ورومانسيين ثلاثيّةً معروفة بثلاثية (الغنائي- الملحمي- الدرامي) خضعت على أيديهم لشتى التفسيرات الفلسفية والوجودية واللغوية والجمالية، إلى حد الاقتناع بوجود نسق لتلك الثلاثية عند أرسطو ومن قبله أفلاطون. وهكذا ظلّت هذه الثلاثية تشكل على مسار التاريخ النقدي مجالاً حيويّاً لتشكيل حدود الأنواع. وفي المقابل، لم يخلف دخول شعرية أرسطو إلى الثقافة العربية أي منجز يُذكر في ما يتعلق بإعادة تفسير الأنواع اليونانية. وبخصوص تصوُّر النوع، يذهب الباحث إلى أن «شعرية أرسطو والكلاسيكية ظلّ هذا التصور معياريّاً وأخلاقيّاً، وفي الرومانسية نقصت درجة المعيارية وتحولت الأخلاقية إلى اجتماعية بدرجة كبيرة. أما النظرية الحديثة فهي وصفية في المقام الأول» (ص21). فيما يخص التصور الحديث، يورد آراء ومواقف أهمّ الباحثين من أمثال أوستن وارين، تزفيتان تودوروف، جيرار جينيت وجان ماري شيفر. فالأول يذكر أن أرسطو سمّى الأنواع الثلاثة وفرّق بينها بحسب الهدف الجمالي لكل منها. ورأى تودوروف، أنها تمثل الأشكال الأساسية بل الطبيعية للأدب من أفلاطون إلى إميل ستايجر مروراً بغوته وياكبسون وغيرهم ممن استندوا في تصنيفهم الثلاثي إلى أفلاطون وأرسطو. أما جيرار جينيت فإنه يُقوّم الجهد الأفلاطوني الأرسطي على أساس صيغي موضوعي: رفع نظام الأنواع عن أفلاطون واستبداله بنظام الصيغ القائم على وضعية الإخبر؛ الكشف عن مبدأ التقاطع في أنواعية أرسطو؛ إخراج الشعر الغنائي من أي مبدأ تصنيفي عند الفيلسوفين. وحسب جان ماري شيفر فإن جل النظريات الأنواعية هي نظريات للمعرفة أكثر منها نظريات للأدب، حيث تتعإلى على النظرية الأدبية بالمعنى الدقيق لتنفتح على جدالات أنطولوجية. وفي نظره، فإن التلقي الأنواعي يتمّ ببناء متن للتحليل يتكون من قاعدة من النصوص المقصودة، ثم القيام ببنينة هذا المتن. وتبعاً لمختلف أنحاء التصور، تثير الأنواع الأدبية إشكالاً خاصّاً ضمن إشكال عام هو بناء المفاهيم، وهو ما حمل الباحث على القول إنّها «نظرية في التمظهر النصي والمفاهيمي للأنواع للإجابة عن الأسئلة المرتبطة بتحوُّلاتها والعلاقات التي تربط ببعضها في تعددها». (ص34) مطلب الأنواعية في الشعر في السياق العربي الحديث، يستعيد رشيد يحياوي النظر التراثي للشعر بوصفه نمطاً جامعاً للأنواع أو قابلاً للنمذجة الشكلية. وفي نظره، لا تنحصر الأنواعية الشعرية العربية القديمة في الأغراض، على حد ما هو متداول عند جل النقاد العرب المعاصرين، مستدلّاً على ذلك برأي الفارابي الذي يرى أن الأقاويل الشعرية تتنوع إما بأوزانها أو بمعانيها، أو رأي ابن وهب الذي يقدم نمذجة نسقية منفتحة تنظر للأنواع والأغراض بوصفها داخلة في نظام علاقات لا تتحدد سوى باختلافها عن بعضها، أي نمذجة خارج مدار الثلاثية اليونانية، لأنّ ما كان يعنيها هو إعادة ترتيب جغرافية النص الشعري العربي القديم. وفي الإجمال، فقد اعتبر نقادنا القدماء مسألة أنواعية الشعر موضوعاً حقيقيّاً لبحثه، ورأوا أنها تتطلب حسماً منطقيّاً وإجابة يقينية، فيما عدّها النقاد المحدثون موضوعاً إشكاليّاً. وبحسب الاختيارات المنهجية للنقاد واختلاف تكوينهم الثقافي، قسم رشيد يحياوي أنواعية النقد العربي الحديث إلى ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الخمسينات المتأثرة بنقد البلاغة العربية القديم، ومرحلة وسيطة يمثّلها نقاد سعوا لتأسيس نظريات أدبية حديثة استناداً إلى منجز الثقافة الغربية من أمثال محمد مندور ومحمد غنيمي هلال، ثم مرحلة حديثة شغلت جهازاً مفاهيميّاً أكثر وعياً بالمسألة الأنواعية. وهكذا يناقش الباحث آراء وتحليلات كل من محمد مندور، عز الدين إسماعيل، محمد غنيمي هلال وعبد الفتاح كيليطو. ويردّ على محمد بنيس بخصوص «المسألة الأجناسية» التي قاربها من مدخل انشغاله بالشعر، واقترح مراجعة تصوّره بناء على مداخل أربعة: النص الشعري، مفهوم النوع الأدبي، النوع بوصفه سلطة، ثم سقف الإبداع الذي يتنافى وشعرية الأنواع الحديثة. كما يناقش شربل داغر بخصوص رأيه في «القصيدة القصة» التي عدّها نوعاً شعريّاً مميزاً، بحيث وجد لديه غياباً للمرجعية النظرية المتعلقة بالأنواع، وعدم الانسجام في المبدأ التصنيفي، بل ارتباك بعض المفاهيم. يتناول الباحث مطلب الأنواعية في الشعر عبر بدائل ومراحل إبداعية، فيناقش حرية الشعر بوصفها مدخلاً أنواعيّاً، كما تجلّى ذلك عند أحمد زكي أبي شادي في دعوته إلى حرية الشعر في مطلقه والإقرار ببلاغية مختلف أنواعه، وهي الدعوة التي تولّدت منها نمذجاته المتعددة ليس بوصفها سؤالاً شعريّاً بقدر ما حضرت عنده بوصفها أمثلة لخدمة مطلب الحرية في الشعر. كما يناقش الغنائية بوصفها هي الأخرى مدخلاً أنواعيّاً، واقفاً على التعريفات التي قدمت للشعر الغنائي في الآداب العالمية، وعلاقات هذا الشعر بالدرامي والملحمي، ومدى حضوره في الشعر العربي الحديث عامة، وقصيدة النثر تحديداً: «في الكتابات الجديدة ومنها ما يندرج تحت اسم «قصيدة النثر» بصفة خاصة، توقف الذات انخراطها في كتابتها. وفي مقابل ذلك تنيب عن حضورها حضور الأشياء المبعثرة الصادمة» (ص120). بمعنى أن يتمّ الكف عن الخلط بين الذات الكاتبة المرجعية التاريخية وبين النص الشعري. السردي والشعري يتتبّع الباحث المسار التاريخي لكل من الشعري والنثري ابتداءً من أرسطو الذي قام منهجه على المقارنة بين الأنواع الشعرية لبيان مكونات شكلها ومقاصدها ومحتواها، لذلك لم يكن مرغماً على جعل النثري معياراً يتم بالعودة إليه تحديد بلاغية الشعر. وسوف تتكرّس التفرقة بين الشعري والنثري على أساس الكم والواقعية داخل النقد الغربي، وحتى النقد العربي الحديث نفسه، كما في نقد رواده من أمثال العقاد وطه حسين ومحمد مندور، إلى حد أن تصير إحدى الصعوبات التي كان على قصيدة النثر وتجارب النصوص العابرة للأنواع أن تواجهها لتقنع القراء بالمحتمل الشعري «النثري»، ولكن مع ذلك لا يزال النقاش والسجال حول الوضع الأنواعي للشعر مطروحا. إلى ذلك، يقارب التوظيف الشعري في السرود النثرية داخل القصة والرواية العربيتين، ولاسيما التي نُشرت عقب هزيمة سنة 1967، حيث وجد الكتاب أنفسهم أكثر إقحاماً لذواتهم في نصوصهم عبر تشغيل محكيات الطفولة والسيرة بدمج الكاتب في السارد وتحويل الأنا الغنائي إلى أنا سارد استبطاني، بمن فيهم إدوار الخراط في «رامة والتنين»، وحيدر حيدر في «وليمة لأعشاب البحر»، ومحمد الشركي في «العشاء السفلي» وغيرهم. وحتى في السرود غير التخييلية وظف الكتاب الشعر، مثل اليوميات والمذكرات والسير الذاتية، كما لدى سليم بركات سيرتيه «الجندب الحديدي» و»هاته عاليا، هات النفير على آخره»، وسيف الرحبي في كتابه «الصعود إلى الجبل الأخضر». وإذا كان هذا التوظيف قديماً إلا أنه ينتعش في النصوص الحديثة ذات المنزع التجديدي للغة السرد النثري المنفتحة على الشعر، بل ذهبت إلى حدّ إلغاء التعيين الأنواعي وخلخلة جهاز التلقي. وعن السؤال الذي يختم به يحياوي دراساته الأنواعية: لماذا تشغلنا قصيدة النثر؟ وجد أن أسباب الانشغال كثيرة ومتعددة تبعاً لوجهات النظر، وأهمها التلقّي العام للأنواع الأدبية وهو لا يزال، عندنا، يخضع للتصور الكلاسيكي التقاطبي الذي يرى الإبداع اللغوي منقسماً بين شعر ونثر. وأعطى مثالاً عن ذلك تلقّي عمل الشاعر أمجد ناصر «حياة كسرد متقطع» الذي اعتبره «من الكتب المهمة... التي تفعل في المتلقي وقد تحدث انعطافاً في طرائق الشعر والكتابة» (ص176). وفي خضمّ هذا السياق الأنواعي الإشكالي والمتراحب، سعى الناقد المغربي رشيد يحياوي إلى البحث في أنواعية الشعر وضمنها أسئلة قصيدة النثر وتمفصلات الشعري والنثري، بقدرما ارتفع بها إلى درجة أن تصبح مطلباً إبستمولوجيّاً حرص معه على بناء المفهوم وتجديد النظر فيه. إنّها أنواعية ملتبسة، بالفعل.