تحت ظل هذا العنوان لا نضمر اقتناعا نظريا بالانتصار للتجريب السوسيولوجي ، واحتقارا للتنظير و التفكير المكتبيين. فلو كان للباحث عمق نظر إميل دوركهايم أو مارسيل موس لما كان في حاجة للاشتغال في الميدان على قضايا سوسيولوجية (نذكر بأن دوركهايم ومارسيل موس عملا في مكتبيهما طوال حياتهما، ومع ذلك أسسا لعلم السوسيولوجيا). ولكن حينما يشتغل الباحث في الميدان، أو يقرأ بحثا سوسيولوجيا ميدانيا من عيار البحث الميداني الذي أنجزه السوسيولوجي المغربي، عبد الرحمان المالكي، ويسترجع معها تجربته البحثية الميدانية المتواضعة، فإنه لا يجد أمامه عنوانا آخر أكثر ملاءمة و دقة وغنى. السوسيولوجي المغربي عبد الرحمان المالكي له على من درس من جيلي علم الاجتماع بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، ديون معنى كثيرة. لقد درّسنا وأطّرنا وساهم في مناقشة أطروحاتنا، وهو الآن يدير مختبر سوسيولولوجيا التنمية بنفس الكلية. أصدرمؤخرا، مع سنة 2015، ضمن سلسلة منشورات «مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية» عمله الميداني تحت عنوان «الثقافة والمجال : دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب». ذاك تخصصه منذ عقود من الزمن. لن أقدم للقارئ تلخيصا للكتاب، لسبب بسيط هو كون التلخيص لا فائدة منه خصوصا وأن الكتاب غير مفقود. ولن نقدم فيه قراءة بالمعنى العلمي للكلمة لأن الأمر يتطلب جمهور المتخصصين. بل سأعرض ما جعلني أدقق أكثر في تكويني المنهجي والمعرفي وفي الآن نفسه أستمتع بهذا الفعل التكويني الذاتي. على المستوى البيداغوجي: يقدم الدكتور عبد الرحمان المالكي عمله في سبعة فصول، يخصص ثلاثة منها لعرض سوسيولوجي لكل التوترات النظرية والمفاهيمية والمنهجية التي يعرفها علم الاجتماع الحضري (إرساء نظري لمفهوم التحضر عوض الحضر ومعه الانتصار للسيروة عوض البنية، العيش في المجال عيش ثقافي، مساءلة الحدود الثقافية بين القرية والمدينة، تحولات المدينة ومساءلة شرعية الوجود العلمي لتخصص علم اجتماع الحاضرة، الهجرة وإعادة التشكيل المجالي والثقافي للحاضرة، رصد سيرورة وصيرورة صناعة المجال لقاطنه وصناعة الساكن أو القاطن لمجاله...) وبالموازاة مع ذلك يهيئ لعرض اختياراته المنهجية (ممارسة الفهم مع ماكس فيبر) و النظرية (الانتصار لمفهوم الظاهرة الاجتماعية (كشف ورصد الخلل) على حساب الواقعة الاجتماعية (بيان حالات السواء).)... طيلة الفصول الثلاث يعرض الدكتور المالكي اختياراته ومرجعياته ومراجعه بدقة ووضوح الأستاذ المدرس وعمق الأستاذ الباحث. لذا يتمتع القارئ بالعمق المعرفي متنوع المراجع وبلاغة الشرح والتعريف. مع الفصل الرابع يشعر القارئ وكأنه في تواصل تدريسي حي حول المقاربة المنهجية المعتمدة على تقنية تحليل المضمون بكل تفرعاتها وتقنياتها. هي المزاوجة السلسة بين العلمي والنافع، والتي توجد وراءها تجربة تدريسية وبيداغوجية كبيرة. على المستوى المنهجي : يفضل الدكتور المالكي المقاربة القائمة على الفهم ومن ثم الاعتراف للذات بدورها الحاسم في اكتشاف الموضوع الاجتماعي وإعادة بنائه. وبناء عليه سيرسم معالم أدوات البحث الميداني (المقابلة نصف الموجهة بما تتيحه من ضبط للدلالات وحرية في البوح والكلام أو المقابلة بوصفها تقنية استماع لإنسان نحاول أن نجعله يتكلم ) التي تجعل الفاعل الفرد بكل معانيه ودلالات كلامه و قيمه وتصوراته وأفعاله في صلب عمليات الفهم. وبناء على ذلك ستأتي الفصول الأخيرة (الفصل السادس والسابع) حاملة لعناوين دالة ودقيقة ومطابقة للاختيار النظري المنهجي. سيجد القارئ نفسه أمام فصل يحمل عنوان: صورة المدينة وصورة القرية بعد الهجرة. و آخر يحمل عنوان : نظرة المهاجر إلى حيه. وبقدر متعة قراءتهما (أقوال المبحوثين في هذا العمل قد تستفز السينمائيين والمسرحيين باستعاراتها العفوية وغناها الدلالي، وهي أيضا في مصف الشهادات الصالحة للتحقيق الصحفي والسوسيولوجي)، بقدر ما تؤشر على الانسجام الواضح بين الاختيار المنهجي النظري ومآلاته البحثية. لا تفسير هنالك بالمعنى الوضعي، بل بسط وعرض للصورة والتصور والمعنى والدلالة التي يمنحها المبحوثون عن المجال (مجالهم) بعد أن سكنوه وسكنهم (بالمعنى الشعبي والسحري للكلمتين). هكذا ينظر، وهكذا يصور ويتصور المهاجر إلى مدينة فاس، مدينته وحيه، و بهاته الكلمات والاستعارات والصور يعيش ويتعايش معها وفيها ويحدد معالم تغيراتها الاجتماعية. تلك قوة البحث في اختياره المنهجي، وتلك قوة المنهج في كشف «الموضوع»، والذي هو الفاعل الاجتماعي المشخص والمجسد في فعله الاجتماعي بوصفه فعلا قصديا و دالا. على المستوى الإبستيمولوجي : يستحضر أستاذنا المالكي جملة قصيرة للسوسيولوجي الفرنسي الراحل بيير بورديو، جملة مكثفة وشاعرية وعلمية في الآن نفسه ولا يمكن أن يدركها بعمق سوى من التصقت رجلاه بالميدان، يقول فيها «إنني أرى إحدى أكبر أشكال الرضى والمتعة التي تتيحها مهنة عالم الاجتماع وهي إمكانية الدخول إلى حياة الآخرين» (من كتاب: «ردود»، سوي ، 1992). يمكن البحث الميداني، وخصوصا منه المبني على المقابلة والمشاركة والمجموعات البؤرية.. من تقاسم حياة الآخرين (الإنصات للكلام و التفاعل معه ومع صاحبه)، معايشتها ولو تخيليا (يضع الباحث نفسه في مكان المبحوث قصد الفهم وللمخيلة دورها المنتج والخلاق في هذا الباب). و بحكم هذا التقاسم المشترك يتحول الميدان والعمل الميداني إلى تجربة بالمعنى الفينومينولوجي للكلمة. ينعت الكتاب الذي نتحدث عنه ومعه في الصفحة 132 عمل الميدان ب»تجربة الميدان». هي تجربة، وليس بحثا أكاديميا من دون روح أو شعور أو امتلاء ذاتي. يحكي الدكتور المالكي في إحدى هوامش الكتاب عن واقعة دالة في هذا السياق: « لقد كان جل المبحوثين أميين وكلهم قادمون من البادية، ولذلك ينظرون للباحث على أنه إنسان «عالم» أي يعرف أكثر منهم. ولما كنا نطلب منهم إجراء مقابلات معهم في إطار بحث جامعي كان رد أغلبيتهم «إننا لا نعرف شيئا. إننا أميون. إنكم تعرفون أكثر منا». وكان جوابنا أمام مثل هذه الحالات هو أنكم أعلم منا بواقعكم. وأننا نريد أن نتعلم منكم بهذا الصدد. فلا فرق بيننا وبينكم سوى أننا نحن الذين نطرح الأسئلة. و مع سير البحث يتأكد للمبحوث أنه بالفعل هو الذي يملك «المعرفة «و أننا نحن الذين «نتعلم». الميدان تجربة والمبحوث له معرفته (وليس حسه المشترك فقط) والتي يتعلم منها الباحث. المبحوث ليس خزان معطيات يستخرج منه الباحث ما يريد ويفر بعيدا نحو جماعاته العلمية ومحرابه الجامعي فرحا بمعطياته ومهاراته وحيله وخدعه . هو ذا الاختيار الإبستيمولوجي لأستاذنا عبد الرحمان المالكي. وهو نفس الاختيار الذي جعل العمل مع مشارف نهايته يطرح على السوسيولوجيا والسوسيولوجيين المغاربة سؤال العلاقة بين المعرفة المسماة عالمة وتلك المسماة عادية ويومية وعامية . هل فعلا هنالك فواصل وحدود ؟ وحده العمل الميداني بوصفه تجربة يضعنا أمام هاته الأسئلة النظرية والإبستيمولوجية الكبرى، ووحده تقاسم الكلام والمعايشة مع من نقصدهم للبحث يجعلنا كما يقول الدكتور المالكي داخل الكتاب: «وبالرغم من صعوبة التبني التام والشامل لمثل هذا الفصل في علم الاجتماع بين المعرفة «العالمة» والمعرفة «العامية» و المجازفة التي تكمن في تبنيه، فإننا نعتقد مع ذلك أن ما يبرر قيام العلم الاجتماعي ذاته يكمن في مثل هاته المجازفة». لا يتعلق الأمر هنا بنزوع شعبوي في العلوم الاجتماعية، بل بأسئلة إبستيمولوجية كبرى تطرح على الباحث السوسيولوجي، و خصوصا ذاك الذي يشتغل ميدانيا على قضاياه، أسئلة تقودها المدرسة الفينومينولوجية في علم الاجتماع و تغذيها نظريا وميدانيا المدرسة التفاعلية الرمزية، والتي يستحضرها أستاذنا ضمن منظوره التحليلي التفهمي.