أغلب الشهادات التي تصف ما جرى بعد انتهاء المجازر والتصفيات العرقية والانتهاكات الجسيمة لأجساد المختطفين والمحاصرين والأسرى، تنطق عبر لغة الحس ولمحاته وذاكرته، وتتأرجح كلها بين حدي العري والحجاب، الخفاء والتجلي، مع اقتصاد لغوي ظاهر، وزهد في البلاغة، حيث إنها إما تنحو لحجب الفضيحة الجسدية بالصمت والبياض، والتكثيف الرمزي، وإما تكشف كل شيء بأكثر العبارات بساطة ومباشرة تقدم لنا الحالة العربية اليوم، في سقوطها وتشظيها وانتكاساتها المطردة، عددا من الرمزيات المتكررة والثابتة التي تبدو متغلغلة في اللاوعي الجماعي للشعوب المنتفضة والمتمردة، ترتد في مجملها إلى ثلاثة أقانيم مركزية متحكمة، هي «الجسد» وما يتصل به من فتن وحجب، و»التمثال» وما يتصل به من تسلط وخراب، ثم «الانتظار» بما يحمله من ذاكرة عقدية تغذي حالة الخمول والاحتراب السياسي والطائفي. ففي فورة الأخبار والتحقيقات التي واكبت ما سمي بثورات الربيع العربي برز الجسد باعتباره موضوعا جوهريا في تلك المواد الإعلامية المتراسلة دون توقف. وتجلى أكثر من حيث هو موئل لمفارقات صورية والتباسات فكرية لا تنتهي، فلم يكن يخلو تقرير إعلامي من وثيقة صورية تتضمن عشرات اللقطات الجسدية المتناقضة والمتقاطعة والشديدة التنوع، لأجساد متفحمة، وأخرى مسحولة، ولجثث قتلى، ولكتل متعفنة فقدت ملامحها الإنسانية الفارقة، ولأبدان أنهكها التعذيب الوحشي. وما بين هذا وذاك ثمة دوما، في تلك التقارير، صور ثابتة لأجساد محجوبة (أو منقبة ) وأخرى عارية... وسرعان ما شكلت ثنائية العري والحجاب خلفية مظهرية ورمزية مركزية في فهم تقاطبات القوة والغلبة في جغرافيات ذاك الحراك العربي المتعثر، مثلما أن تلك الانتفاضات تنازعتها عوارض الخفاء والتجلي (العري والحجاب) في مجمل مخاضات سعيها نحو إسقاط الأنظمة. ولعل من أكثر الصور دلالة في طابعها الجسدي الصرف، المتصل بجدلية العري والحجاب (الثوريين)، صورة «علياء مهدي» الناشطة المصرية التي التقطت لنفسها صورا عارية سنة 2012 ونشرتها عبر برامج التواصل الاجتماعي، احتجاجا، حسب قولها، على العنف المستشري، والتسلط الأبوي والديني في المجتمع المصري. بطبيعة حال استثارت تلك الصور الفاضحة عددا غير مسبوق من التعليقات والتعقيبات في وسائل الإعلام المصرية والدولية، وهو ما حدث أيضا -وبالغزارة عينها- حين التأمت بعد ذلك بمدة، في الطرف النقيض صور المحجبات المعتصمات في ميدان رابعة العدوية، وفي الحالتين معا (وهما صيغتان ثوريتان متناقضتان للجسد) صودر الجسد وجوبه تعبيره الاحتجاجي بعنف شديد. الشيء الأكيد أن الجسد تخلى في هذا السياق الثوري المفعم حيوية وتطرفا، في صيغ تواصله وانفعاله، عن كونه «شيئا» إنسانيا فطريا، ليتحول إلى رمز عقدي، وشعار سياسي، ومادة إعلامية مثيرة للسجال. أي أنه في النهاية صار مجازا يضمر عددا هائلا من الأفكار والمستنسخات المتناقضة والراديكالية. ومن ثم فقد أضحى الواقع الذي من المفترض أنه من لحم ودم، صورا ذهنية مخترقة بالالتباسات والمفارقات. وإذن فالجسد المصوَّر لنا كمتلقين للتقارير الإخبارية، والذي قد يتخايل لنا، مثلا ، ككتل لحمية مقززة بعد هجوم مسلح على قرية آمنة في ريف دمشق، أو بعد انفجار سيارة مفخخة في ضاحية بيروت، أو إثر عملية انتحارية في أحد أحياء بغداد، يكف عن كونه جسدا ليصير مكونا دراميا في الخطاب الإعلامي، يتصل ببنية المعلومة وصيغها التأثيرية أكثر مما ينجدل بالحقيقة الجسدية المرجعية. من هنا نفهم كيف أن تلك الجمل التحذيرية التي ترد قبل بث مشاهد صادمة من هذا النوع، هي في الواقع إعلان للمتلقي بأنه سيواجه شيئا جسديا مختلفا عن الواقع والحقيقي، شيئا ينتمي لسياق السقوط العربي ومتخيلاته ورموزه، قد يشبه الجسد الإنساني لكنه يفارقه حتما. أتذكر هنا أن أغلب تلك الشهادات التي تصف ما جرى بعد انتهاء المجازر والتصفيات العرقية والانتهاكات الجسيمة لأجساد المختطفين والمحاصرين والأسرى، تنطق عبر لغة الحس ولمحاته وذاكرته، وتتأرجح كلها بين حدي العري والحجاب، الخفاء والتجلي، مع اقتصاد لغوي ظاهر، وزهد في البلاغة، حيث إنها إما تنحو لحجب الفضيحة الجسدية بالصمت والبياض، والتكثيف الرمزي، وإما تكشف كل شيء بأكثر العبارات بساطة ومباشرة، وفي الحالتين معا يكون الجسد هو الموضوع والفكرة والرسالة اللغوية. المفارقة الأخيرة أن أكثر الناس عرضة للامتحان الجسدي زمن الحراك الثوري هم الأكثر ضمورا جسديا وزهدا في الرصيد الجسدي، و الأكثر التجاء للضمير واتكالا على الهشاشة الفطرية، فنانين وأدباء من جانب وأطفالا ونساء من جانب ثان. وحين سقطت بغداد في أبريل سنة ألفين وثلاثة ، خلدت اللحظة عبر قنوات الأخبار العالمية، بسلسلة تطيح برأس تمثال لصدام حسين تجره دبابة، سقط الرأس أولا، قبل أن ينهار الجدع، لينهال عليه الجمهور بالأحذية، كان ثمة رغبة عارمة في انتهاك الجسد الرمزي للطاغية والتمثيل به. وبعدها بأزيد من عقد من الزمان ، خلدت لحظة سقوط إدلب بأزاميل ومطارق الثوار وهي تهشم صنم حافظ الأسد الذهبي، وتطمس ملامح الوجه القاسية،... في المشهدين معا ، ثمة «تماثيل» شبيهة بالأجساد الحقيقية الناهضة ينكل بها في الدقائق الأولى لسقوط نظامي «الحزب الوحيد»، وكأنما التماثيل هي الدولة، والحزب، وفضاء التسلط، والمعتقلات، والبوليس، وآلة التعذيب الجهنمية، هي المظالم كلها، مكثفة صامدة وباقية، في «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة»، بالطبع ولدت تلك الأصنام لتخليد المثال، وتأبيد التملك، والعقيدة، والأثر. وضعت لتبقى بما أنها من حجر أو معدن برونزي أو رصاصي...، ولتنوب عن الشخص المختفي و الآفل، غير الموجود في كل مكان. وجدت للإحالة وللتشبيه والاستعارة، ولمضاعفة الجسد الحسي. لهذا كان طبيعيا أن يكون سقوطها مفعما بالرمزية، هو كناية عن المحو والتنكيل بالزمن الماضي والمنقضي، ومجاز عن تطهير الجغرافيا، كما يقول المثل مشرقي: «إذا ما خربت ما بتعمر». حين سقطت «التماثيل»، كان ثمة مفارقة، مؤداها أن التمثال في البدء والمنتهى قرين الموت، هو سعي لرهن الجسد الحسي في المادة، لتلطيف التلاشي، وأسر للروح الحاكمة في الصورة، وفي انهيارها اختفاء للموت، هو موت مضاعف، موت متعال، ومجرد، يسخر من الموت الحسي،... بالطبع هي في البدء والمنتهى مجرد شيء حجري أو معدني، لكن وجودها كان سعيا إلى نقل الصنمية المتحجرة والكلسية إلى المحيط الحي، عبر رقابة التمثال، لهذا كان مفهوما أن يطاح بالرأس في التماثيل السياسية، في كل ثورة، فهو الوجه والشبح والقناع المخيف. وجدت التماثيل، كأداة للتسلط، واحتكار البقاء الجسدي، في كل المدن العربية، المرهونة للأنظمة الشمولية، والعقائد الحزبية الواحدة، تناسلت بكثرة أفقدتها الندرة اللازمة للفن، ونزعت عنها نعومة الوجود في الحنايا الدافئة، وضعت في البؤر الحارة والباردة، في الوسط المزدحم، بين البشر والسيارات والجدران وأرصفة المقاهي، لهذا كان طبيعيا أن تبنى من قبل مجهولين، لأن الفن فيها حيلة رمادية، يداري آياته أمام التقنية والحرفية الدقيقة في صناعة الشبيه، ولأن الشبيه الحاد والنقي بقي من غير معرض ولبّس في المرجع الحي، كان النظر ضده لا له، وبات طبيعيا أن يشمل الخراب التمثال وقاعدته ومحيطه المديني. واليوم، في عالمنا العربي، الخارج من أحلام الثورة إلى كوابيس الاستبداد، انهارت التماثيل بالموازاة مع الأجساد الحسية والمجازية، وبات وقف الخراب حلما بعيد المنال، ولم يعد ثمة أمد للانتظار ولا حد، لقد تحول من محطة عبور إلى مرسى نهائي، فالترقب المفعم حياة، والمصطخب حركة وسؤالا، بات من غير كنه، فارقه شعور الشوق إلى القادم، الثاوي ببطن الغيب، وصُيّر قهريا إلى ثبات سرمدي، لا يغذي الطموح إلى الأفضل، ولا الرغبة في التغيير، بقدر ما يفاقم هواجس الاستسلام للعنة الخوف والجوع، والصبر على الخصاصة الدائمة، تحول إلى «انتظار قيامي» بعد أن كان توقا دنيويا. والشيء الأكيد أن ثمة – على الدوام- تناقضا كبيرا بين الانتظار الفطري للخلاص بالموت، ومسار الحضارة الإنسانية المبني أساسا على انتظار الأفضل، في العدل والمساواة والحرية،... وبدهي أن تكون الرؤية الأولى هي سلاح»الاستبداد» في تأبيد «القدرية»، إذ تصور الحياة بوصفها امتحانا للصبر على المظالم، والقدرة على كبت الرغائب الطبيعية في الرفاه والسعادة، على العكس من الرؤية الدنيوية التي تناضل لأجل الرفعة والتخلص من الحيوانية والكلبية. لهذا كان «الانتظار» سلوكا سياسيا، قبل أن يتجلى كمبدأ أخلاقي أو عقدي. وفي مجمل العقائد توجد شخصية «المنقذ» أو «المهدي» أو «المسيح» الذي «تنتظره» البشرية للخلاص، ولعل السمة الغالبة على هذا الانتظار أنه ذو عمق عاطفي مثقل بالخطيئة والندم، شيء مختلف عن انتظار «فلاديمير» و»اسراغون» ل: «غودو» في مسرحية «صامويل بيكيت»، لكن ما يجعل ذلك الانتظار المقدس طريقا ملكيا إلى الجحيم، هو نفسه المبدأ الذي يجعل «التمثال» مستكينا إلى ديمومته، فمن ينتظر المخلص لن يخلص نفسه يوما، سيبقى حاميا وفيا للاستبداد، لا يفرق معه أن يعيش أو لا يعيش، أن يتنعم أو يشقى، المهم أن يكون جسده (العاري أو المحجوب) جاهزا لنهاية العالم.