لم أنتظر حتى يكمل اللواء عمر سليمان خطابه التاريخى الوحيد، ما إن سمعت كلمة «يتخلى» حتى جريت إلى البلكونة قبل أن أعرف تخلى عن إيه أصلا، وأخذت أهتف «الله أكبر.. تحيا مصر.. غار فى داهية.. الله أكبر.. تحيا مصر»، رفع رجل كان يمر فى الشارع رأسه نحوى بتشكك من لم يفارقه قرف الخطاب الأخير وسألنى «غار على فين؟»، وأنا وجدت أن السؤال غير مناسب، ولذلك واصلت هتافى الهستيرى وأنا أحتضن زوجتى وكدنا نسقط سويا من البلكونة من شدة الفرحة، لكى نرحل سويا مع رحيل عهد مبارك، ونحقق أمنيتنا فى أن نموت سويا فى يوم واحد توفيرا للأحزان والمصاريف. ابنتى ذات الأربعة أعوام والنصف رفعت فجأة سقف مطالبها بعد رحيل مبارك، هى منذ بداية الثورة مقموعة ومبعدة عن التليفزيون الذى اختفى منه الكرتون وحلت الأخبار بالأمر، كانت كل يوم فى الصباح وفور أن تصحو تنظر إلىّ كأنها مستغربة «بابا إنت اتأخرت على المظاهرة.. ممكن تنزل عشان أتفرج على الكرتون»، عندما رأت فرحتنا الجنونية قالت لى بثبات انفعالى لا يليق بطفلة «مبارك مشى؟»، قلت لها «أيوه يا حبيبتى»، سألتنى بنفس الثبات «اتسجن؟»، مت من الضحك وهى استغلت الفرصة وقالت لى «طيب ممكن نجيب الكرتون بقى». ابنتى الكبرى ذات الثمانية أعوام كانت أعقل من أختها بحكم السن، كانت طيلة أيام الثورة تكتب منشورات بالقلم الرصاص مكونة من شعار وحيد «حسنى يا خاربها.. ارحل ياله وسيبها»، ثم تقذفها من البلكونة إلى الشارع، ومع ذلك فقد قالت لى «مبارك صعبان علىّ يا بابا.. هيشتغل إيه دلوقتى؟»، وأنا لم أجد إجابة مناسبة. فى يوم من أيام 1991 كنت مع أخى حمدى عبد الرحيم نستجم من وعثاء البهدلة بحثا عن لقمة العيش بعد أن شردنا مبارك وأغلق علينا صحيفة «الدستور»، سألنى حمدى: لو مات مبارك دلوقتى هتكتب عنه مقالة عنوانها إيه؟ قلت له هاكتب مقالة كلها على بعضها من كلمة واحدة: غار، أخذ حمدى نفسا من سيجارته وقال لى بعد تفكير: تفتكر الرقابة هتعديها؟ كنا أيامها نعمل فى الصحف الصادرة بتراخيص أجنبية، والتى تخضع للرقابة فى أزهى عصور الحريات، وبعد مداولات عديدة حول مدى أخلاقية هذا العنوان وملاءمته للمعايير الإنسانية انفضت الندوة بتوصية واحدة هى أن هذا الرجل لن يموت إلا بعد أن يقضى علينا نحن أولا. شوف يا أخى كرم ربنا، ها هو مبارك يرحل حيا ورغما عنه عن كرسى الحكم، لكى يتيح لى أن أقولها بملء الفم: غار، نعم لقد غار، وغارت معه كل الأوهام التى ساهمت طريقته فى الحكم والتفكير والحياة فى إشاعتها عن هذا الشعب العظيم: شعب طائفى همه على بطنه مامنوش فايدة لا يهش ولا ينش خانع فوضوى وبق على الفاضى، غار وأخذ معه ركوده ورتابته وملله الذى جعل المعانى كلها تنتحر، غار فصرت أنا الذى كنت أرى علمنا القديم أجمل، أعشق هذا العلم إلى حد الجنون وأبكى كلما حملته أو رأيت طفلا يلوح به، أنا الذى كنت أبكى مع أصدقائى كلما سمعنا «حلوة بلادى السمرا بلادى الحرة» ونخشى أن يتهمنا أحد بالهطل، أصبحنا نبكى كل يوم فى ميدان التحرير ونحن نغنيها مع الآلاف ونحن فرحون لأننا نبكى كالرجال فرحاً بوطن حررناه بأيدينا، لم نستعد وطننا وحده، بل كل الأشياء استعادت معانيها: ألوان العلم وكلمات الأغانى الوطنية والعاطفية والميم والصاد والراء والكتب والأشعار والبلاغة والنكتة والدموع والحرية والكلام الكبير والمبالغات الدرامية والتاريخ والسياسة والفلسفة، كل شىء عاد كما خلقه الله، كأنه خلقه أمام أعيننا، كأن مصر خرجت من رحم المجهول ثانية وتلقيناها على أيادينا، صارت الأم العظيمة ابنة لنا، وبات علينا أن نحياها بجد قبل أن نموت وتحيا هى إلى الأبد. مشاهد كثيرة تتداخل فى ذاكرتى وأنا أكتب كوكتيل الرحيل هذا، أوضحها وأكثرها إلحاحا مشهد لا يفارقنى منذ جمعة الشهداء العظيمة لرجل مصرى أحسبه كريم العنصرين، قدم مع مظاهرة إمبابة العظيمة التى سأموت ناقص عمر لو لم أخلدها فى فيلم ملحمى سيكون أهم فيلم كوميدى عن الثورة فى تاريخ السينما، كان يرتدى ترينج سوت كرنبى، ويمسك بصلة يشمها ثم يقول لصاحبه الذى كان يدلدق علينا الخل من زجاجة فى يده لكى نفيق قليلا من أثر الغازات المسيلة للدموع التى كادت تقتلنا خنقا عند كوبرى الجلاء «اللى زى ده مالوش جدة.. ده مايروحش جدة أبدا.. ده بعد ما نخلعه ييجى يقعد فى لعبة»، نظر إليه شاب روش مندهشا وسأله من خلف الكمامة «لعبة إيه.. ده لازم يتحاكم؟». قال حمدى عبدالرحيم للرجل لكى يقرب الفوارق الدلالية بينهما «معلهش اعذره أصله من بتوع الفيس بوك»، تفهم الرجل موقف الشاب وأخذ شمة عميقة من البصلة ثم قال «لعبة دى فى بشتيل بعيد عنك يا باشمهندس.. أنا عايزه بقى بعد ما يتخلع نجيبه هو وعياله يقعد معانا هناك.. يعيش فى شقة تلاتين متر حمامها متر فى متر.. وياكل عيش من اللى بنطفحه.. وينزل هو وعياله يملوا ميه كل يوم من الحنفية.. عشان يعرف كنا عايشين إزاى.. اللى زى ده مالوش جدة أبدا»، جريت على صديقنا الإمبابى وأخذته بالحضن وقلت له «والله لاكتبها.. والله لاكتبها»، نظر إلىّ وظن بى السوء، وبعد أن تحقق من هويتى قال لى «مش كده برضه والنبى يا باشا؟». تحيا مصر 13 فبراير 2011 عن «المصري اليوم»