إلى سعيد منتسب إنهم أوغاد يا صديقي. يذبحون الحياة ويريقون الدماء وأنت تتكامل وتكتفي بالخسارة، لأنها فقط ما تبقى لك وما تبقى لنا. عندما أنشد نيتشه مزموره: «لقد كنت أول من اكتشف الحقيقة لأنني استطعت أن أرى الكذب ككذب – اشتممته...» وجدتك تناديني من أعماق الوجع المتعاظم فيك، تملي تعاليمك مثل نبي حكيم: «لا تترجل عن كبريائك كي تظفر بما تريده فعلا، احذر أن تكون صيدا سهلا للعظاية التي استوقدت لسانها المجوسي في قلبك، واتركها تجف على الشرفة كفجيعة. لا تترجل عن كبريائك لعل لوزها الأطلسي يستعيد صورته القديمة لينام كضوء صغير يطل من عش الأزل..» وعرفت أنك آخر النبلاء يا صديقي، نبيل مثل زهرة اللوز عندما تينع في البياض والرهافة وهي تخفي في الأحشاء ما تخفي. نبيل وأنت مستعد لأن تصير حجرا على درجة كبيرة من اليأس، لتصير أكثر سوادا من ثقب، كي تمنح الشجرة التي تنثر لوزها في عيني امرأة تشاطرك قسطا من الخسارة كي تزرعاها في خاصرة الورد، ألوانا أخرى. الألوان التي يجرحها كحل المرأة الأسود. ثم هأنذا سأنام عميقا على جرحي الذي يتسع لحرب لا نهاية لها يا صديقي، سأنام يلمني حسد كبير لشجرة داكنة البشرة وأنا أقفو خطاك. كم يلزمنا من حسون ينيخ بزقزقاته على أحلامنا الصغيرة التي ضاقت بها السماوات بما رحبت. نحلم فقط أن يصير المطر نبيذا معتقا، والإوزات قبلا بيضاء تسرح على شفاه النساء. سأنام عميقا وأحلم بامرأة جعلتها بحجم بحر. تدخل أسماكها الصغيرة إلى قلب عاشق لها. عاشق مسكين لا يجرؤ حتى على ملامسة مويجاتها الصغيرة. ربما ترسل أسماكها الصغيرة شفقة عليه، وتمنع عنه أسماكها الكبيرة وحيتانها. امرأة يطير كاحلها مثل قطعة ثوب على كتف عاصفة تنتفخ من تلقاء نفسها. امرأة لها حوض مليء بالفراشات والملح. ثم لا يتحفظ العاشق بل يجرؤ على المشي في غابات عينيها. تتراءى لي تفتح دولابها كأنما تفتح عالما: تجد رقصة في منتصف العمر. كتابا هاربا من الزحام. أغنية تتهجى الجزر البعيدة من الخلف. لوحات لنساء مكتنزات يعبرن البحر. أنفاسا مرفوعة الرأس قليلا. كراسات ملطخة بأحمر الشفاه. تنورات قصيرة بعيون واسعة. كيس لوز تحسبا للطوارئ غير السعيدة.(ديوان أشواق اللوز، ص 38-41 ثم لا يتحفظ العاشق ويعلن عن نفسه أمام هذه المرأة البحر العالم. ما حكاية اللوز يا صديقي؟ كيف تجعله يرفرف في عيني امرأة لينبئ عن شجرته خلفهما، عن شجرتك التي ترتب حصيرة قلبها كي تنام بأسرع ما تستطيع؟ يا لسحرك يا سعيد وأنت تركن إلى ركاكتك العالمة، تخط إنجيلك فتتعالى عن الاستعارات الغبية والبلاغة الجامدة في ثلاجة التعالي البليدة: خلف الباب أرى في عينيك بابا ها أنا أعبره لأصنع جسرا مديدا إلى كتف الشمس وآخر إلى ذراعك التي حذفتهما الغابة كي لا تتحول إلى تمساح وجسرا ثالثا لأمسك بالغيم في كأس ماء.. (ص 56) تنثر لغتك كحفنة لوز يتلقف حباتها العالم الذي يختزله قلب امرأة لا تمتثل إلا لمشيئتك: ها أنا أعبر الباب فلا أرى سوى شجرة لوز تعزف الموسيقى وحين تتعب تهش بذيل الحصان على الملاك الذي أحرق جناحه كي يبطل خديعة الارتفاع (ص 57) الارتفاع خديعة أيها الساحر، ويد الله شطرت زهرة الليمون إلى نصفين. والأجدى أن نلجأ إلى شجرتك التي تخرج من بيتها كلما قرعنا جرسا حاضر البديهة، كلما أعيانا الوجع يا صديقي. ها أنذا أبحر في أشواق اللوز بلا مجاديف. المجاديف ترهق ذراعي فأغوص بلا قرار وأعرف أني إن غرقت فإني سأجد مساحة كبيرة تسعفني بالأنفاس التي تبقيني على قيد الحياة بل أكثر من الحياة. ها اللوز يتشكل من جديد فاتذكر حكاياتتي معه إذ كنت صغيرا أتسلق رفوف دولاب أمي في غرفتها الصغيرة وأفتش بين الثياب التي تخزنها للمناسبات السعيدة و»أحفن» منه ما يجعل فمي يتذوق لذة مسروقة. أمضغه وأنا أتخفى عن العيون مخافة أن تضبطني وتعاقبني وهي التي تخزنه كي تقدمه للضيوف على ندرتهم. أطحنه بين أضراسي وأستمتع بطعمه وعندما انتهي لا أتذكره إلا إذا مضغته من جديد. حتى في أشواق اللوز أجد لطعمه ذاك المذاق الهارب والمتفلت. ينعس اللوز ويخفي طعمه في ثنيات النعاس: وكان يدرك أن اللوز ينعس أيضا ويغلق عينيه. (ص 44)