المفاهيم صياغة مركزة لكيفية تمثل الوقائع ولمجموع التصورات التي تتكون في الذهن عنها، وهي لذلك أساس التعامل مع تلك الوقائع وبها. إنها تحرر الذهن من ضرورة استحضار التفاصيل ووصفها في كل حين. للمفاهيم دور آخر نراه اقرب إلى مانحن بصدده الآن، إذ هي تستخدم لتوجيه الفكر نحو تمثل معين للوقائع، وتدفعه نحو فهم معين لها، وهذا دور إيديولوجي يبنيها مستخدموها من أجل إعطاء دلالة مقصودة لواقع وسلوك معينين ، وتكون للمفاهيم في هذه الحالة وظيفة إيديولوجية. وتتعلق دراستنا هنا بالمفاهيم التي كانت لها هذه الوظيفة لأنها حولت التأطير النظري للهيمنة لكي تجعلها مقبولة بالنسبة لمن يخضعون لها، بل وإن الطرف الذي يمارس الهيمنة ذاته يقنع نفسه بها لكي يتمثل هيمنته بوصفها ممارسة مقبولة. 1) الاستعمار وتبريراته الإيديولوجية انطلقت حركة الاستعمار الحديثة من أوربا منذ القرن التاسع عشر، حيث بدأت البلدان الأوربية، وخاصة منها تلك الموجودة على الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط ، بتحريك قواتها العسكرية في اتجاه الجنوب نحو بلدان الضفة الجنوبية في الشمال الإفريقي، ثم نحو البلدان الإفريقية والأسيوية. كان دور الإيديولوجيا التي تبلورت مرافقة للظاهرة الاستعمارية هو ان تجعل هذه الظاهرة مقبولة، لا عند من خضعوا لها فحسب، بل حتى عند الذين مارسوها وكانوا يخططون لسياساتها في البلدان التي خضعت لاستعمار أراضيها بالقوة. دخلت الجيوش الفرنسية إلى المغرب ، مثلا،واحتلت أراضيه،ولكن باستخدام مفهوم آخرهوالحماية. ولكن الجيش كان يسيطر بالقوة على البلاد ويتيح لمؤسسات أوجدتها الحكومة الفرنسية استغلال الثروات المغربية وفق السياسة التي تخدم مصلحة الدولة المستعمرة. حاول علماء الاجتماع والاقتصاد والتاريخ التابعين للسلطة الاستعمارية، بل الذين كان بعضهم موظفا داخل تلك السلطة تبرير الظاهرة الاستعمارية عبر بلورة بعض الأفكار والمفاهيم. ومن ذلك القول بأن جيوش البلدان الاستعمارية دخلت البلدان الأخرى التي كان يسودها نظام قبلي من أجل مساعدتها على بناء دولة حديثة. وبعبارة تأخذ بمصطلحات اليوم، فإن البلدان الأوربية كانت ترى أن نظام العالم لايستقيم دون إدماج البلدان الأحرى في سياق التحديث الذي انطلق من المجتمعات الأوربية.كان دور الجيوش الاستعمارية، في نظر مؤرخيها وعلمائها في الاجتماع والاقتصاد ، هوالعمل من أجل نقل المدنية خارج أوربا. نجد أكثر من ذلك لدى عالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك، وقد كان من أقرب الباحثين إلى بلاد الشمال الإفريقي العربية وإلى العالمين العربي والإسلامي. فهو يصرح بخصوص المعرب بصفة خاصة، بأنه بلد لم يستعمر ولكنه احتل. وقصده بذلك أن وجود القوات الفرنسية في المغرب كان بمقتضى معاهدة حماية، وأن وجود تلك الجيوش لم يلغ السلطة المغربية. ولكن هذا القول غير كاف لوجود تلك القوات مسيطرة على البلاد وفاتحة الطريق، ولو مع بقاء السلطة الوطنية، أمام سياسات استغلال الثروات الوطنية. والتعبير الذي جاءنا به بيرك نابع من الحرج الفكري الذي أحس به وهو الذي كان يقول عن نفسه بأنه ذو هوية مزدوجة شرقية وغربية ينظر إلى كل طرف منهما بعيون الأخرى. ثم إن السلطة الاستعمارية عملت على إزاحة السلطة المغربية عندما لم تسايرها في كل سياساتها. مع وعينا بالفوارق الموجودة بين الحالتين، فإنه يمكن مقارنة ما سبق مع وجود القوات الأمريكية اليوم في العراق ووجود قواعد عسكرية لها في الخليج. فتلك القوات حسب تعبير الأمريكيين عن حالتها توجد هناك لتحرير العراق من نظام غاشم ولوضع أسس مجتمع ديمقراطي ولحماية المنطقة والعالم كله من أخطار ديكتاتورية تمتلك أسلحة دمار. لكننا نعلم أن المبررات التي يتم تقديمها لم تعكس الأهداف الحقيقية من احتلال الأرض العراقية. هكذا نرى أن الإيديولوجيا التي رافقت الظاهرة الاستعمارية، والهيمنية بصفة عامة، حاولت وضع مفاهيم ذات دلالات إيديولوجية لتبرير هيمنتها، ونرى أنه يجب إخضاع تلك المفاهيم للتحليل النقدي الذي يبرز حقيقتها، ويكشف خلفياتها. فحيث لم تجد البلدان الأوربية حلا للتناقض الواضح بين المبادئ الإنسانية المعلن عنها منذ بداية عصر النهضة لديها ، والثورات التي غيرت ميادئ كثيرة فيها، وبين هيمنتها عبر القوة على أراضي بلدان أخرى، فإنها ذهبت إلى حل ذلك التناقض عبر الإيديولوجيا وذلك بالقول إن جيوشها دخلت البلدان الأخرى من أجل نشر مظاهر التحديث وإدماج الشعوب الأخرى في ثورات العصر الحديث. وهكذا أقنع الأوربيون أنفسهم قبل إقناع غيرهم، عبر الإيديولوجيا، بالطابع الإنساني والحضاري للحركة الاستعمارية. لم يعد الاستعمار هيمنة غير مشروعة، بل أصبح مهمة حضارية. إذا تركنا الإيديولوجيا، وانتبهنا إلى الواقع مجردا عنها، وهذا ما يستطيعه فكر لاتربطه مصالح بالحركة الاستعمارية، فإن التبرير الإيديولوجي لن يكون كافيا. فمن جهة أولى، ينبغي النظر في الظاهرة الاستعمارية من زاوية البحث فيها عند الشعوب التي كانت خاضعة لها. فقد قاومت تلك الشعوب الاستعمار بكل أشكال المقاومة الممكنة، ولم يكن ذلك رفضا منها للحضارة التي كان يمثلها المستعمرون، بل مقاومة لاحتلال الأرض بالقوة واستغلال ثروات البلاد وإمكاناتها الاقتصادية. ومن جهة ثانية، تظهر الغايات التي كانت مرصودة لاحتلا أراضي الغير بالقوة من خلال التصريحات التي كانت تصدر عن ضباط الجيوش المحتلة وأعضاء الإدارة الاستعمارية، وكذلك من خلال السياسات التي كانوا ينتهجونها في تدبير الشأن العام للبلد الخاضع لهيمنتهم. ومن جهة ثالثة، نستطيع كشف الأهداف الحقيقية للحركة الاستعمارية عبر قراءتنا لما كتبه علماء الاجتماع والمؤرخون الذين كانوا ينتمون أحيانا إلى السلطة الاستعمارية ذاتها. حين بدأت الظاهرة الاستعمارية في الانزياح بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم في عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، كان على أوربا أن تراجع ذاتها وأن تسير في الطريق الذي يقودها نحو التصالح مع فيمها التي تأسست عليها حضارتها. لكن ذلك لم يتم دائما بالشكل الكافي، حيث ظلت النزوعات نحو الهيمنة على الشعوب وإخضاعها للمصالح والسياسات الخارجة عن إرادتها واختياراتها. كان على أوربا التي مارست الاستعمار أن تقطع مع تاريخها الاستعماري بالقطيعة مع القيم التي جسدتها تلك المرحلة. وفي نظرنا، سيكون ذلك قفزة نوعية في تاريخ الإنسانية في مجموعها. لكن الجرأة على هذه القطيعة لم تقع بعد. تجاوز آثار الماضي الاستعماري مطلب يهم تحقيقه الإنسانية كلها، لأنه موقف سيقودها نحو عهد جديد من العلاقات بين البلدان رغم اختلاف مستويات قوتها المادية. وإذا كان التحرر من الاستعمار قد بدأ بعد الحرب العالمية الثانية بانسحاب الجيوش من البلدان التي كانت تستعمرها، وإذا كنا لاننكر إيجابية هذه الخطوة لأنها أعادت الأراضي إلى سكانها ومكنت منها سلطات وطنية في بلدانها، فإن هذا لن يمنعنا من الحكم بعدم كفايتها. المنتظر والمطلوب من كافة شعوب العالم التي خضعت للهيمنة الاستعمارية هو قيام نظام عالمي جديد تتحرر فيه الإنسانية بأكملها من كل رواسب الفترة الاستعمارية على جميع الأصعدة. اطلعنا من الزاوية التي نعالج منها موضوع الماضي الاستعماري على الإشكال كما طرح على المجتمع الفرنسي، وتمت مناقشته في البرلمان. فقد صدر عن البرلمان الفرنسي بتاريخ 23 فبراير 2005، قانون يمجد الدور الذي قامت به فرنسا في مستعمراتها ومحمياتها، والجهد الذي بذلته في مساعدة البلدان التي حلت بها جيوشها على تطوير واقعها الاقتصادي والمجتمعي والسياسي. والمعنى العميق لهذا القانون هو الابتعاد عن الحكم السلبي على الماضي الاستعماري الفرنسي ومراعاة الدور الحضاري الذي لعبته في جهات مختلفة من العالم. من حق فرنسا أن تطرح السؤال على تاريخها وعلى العالم، بل ومن حقها أن تنظر إلى الجوانب الإيجابية في تاريخها وأن تجعلها موضوعا للتمجيد بالنسبة للوعي الوطني في بلادها. غير أن المبررات التي تم الاستناد غليها في القانون الصادر عن البرلمان الفرنسي قابلة للنقاش، حين ننظر إليها من زاوية أطراف أخرى، وخاصة من موقع البلدان التي خضعت للظاهرة الاستعمارية وعانت من آثارها السلبية العميقة.. لكن ، مالذي يمكن قوله من موقع طرف آخر هو البلدان التي تحررت من الاستعمار بعد أن قاومت كل مظاهر الهيمنة فيه؟ ماذا سنقول عن أولائك الذين ضحوا بحياتهم من أجل استرداد بلدانهم للسيادة على أراضيها؟ أليس التمجيد هو الواجب في حقهم من مجتمعاتهم؟ ألا يجب تقديمهم للأجيال اللاحقة في بلدانهم بوصفهم أبطالا في تاريخها؟ نظن أن من حق المجتمعات التي خضعت للهيمنة الاستعمارية ان تفعل ذلك ولكن، سيكون التمجيد في هذه الحالة قائما لصالح طرفين متعارضين وكانا متقاتلين، وهو الأمر الذي سيعود بنا إلى طرح السؤال عن حقيقة الظاهرة الاستعمارية التي بدون تحديدها لامكان لاتخاذ موقف من الماضي الاستعماري بالنسبة للطرفين اللذين عاشاه متواجهين من أجل غايتين متعارضين. 2) التبريرات الإيديولوجية للاحتلال نظل على قرب من مفهوم الاستعمار ونتناول في نفس السياق مفهوما آخر هو الاحتلال. والاحتلال هو دخول جيوش بلد إلى بلد آخر والسيطرة عليها بالقوة، وفرض إرادة المحتل- المنتصر عليها. قد يكون الاحتلال كاملاأو جزئيا لأراضي بلد ما. هناك تمييز لدى من يتناولون هذا الموضوع بين الاحتلال والاستعمار، إذ يقال غالبا قي هذه الحالة بأن الاحتلال يكون مؤقتا لشروط معينة، بينما يهدف الاستعمار إلى البقاء في الأرض التي احتلها، بل وقد يهدف إلى إلحاقها بالكيان السياسي للمحتل.مكثت الجيوش الفرنسية في الجزائر مايزيد على قرن وثلاثين عاما، ثم اتجهت إلى جعلها أرضا تابعة لها. هذه حالة استعمار، وليست حالة احتلال أبدا. يبدو الأمر مختلفا النسبة لاحتلال الجيش الألماني للأراضي الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية.هذا احتلال ظرفي قاومه الفرنسيون، وهم كما نعلم يمجدون هذه المقاومة ويعلون من شأن من قام بها. يقترب من هذه الظاهرة دخول الجيش العراقي للكويت عام 1990، وقد كانت دوافعه اقتصادية- استراتيجية دعمها العراق بمطالب تاريخية معتبرا الكويت بعضا من ترابه الوطني، مع أن البلدين كانا عضوين في الجامعة العربية ولأمم المتحدة، وكان بينهما اعتراف متبادل من حيث هما كذلك. ولا نحلل هنا الضغوط الدولية التي فرضت على القوات العراقية الانسحاب بعد ذلك من الأراضي التي احتلتها. لايلغي الاحتلال في حالات كثيرة السلطة الوطنية. وقد حدث ذلك في الحالات التي دخلت فيها الجيوش أرض بلد ما اعتمادا على معاهدة حماية، واستنادا إلى بعض التوافقات الدولية. والمثال على ذلك احتلال القوات الفرنسية للأراضي المغربية مع إبقاء السلطة الشرعية قائمة. لكن الواقع هو أن القوة الاستعمارية كانت تخطط السياسات التي تدفع السلطة الوطنية إلى قبولها والعمل على تنفيذها، ولا أدل على ذلك من محاولة إزاحة السلطة الشرعية في الحالة التي تبين فيها عدم خضوعها للسياسات المرسومة من الاحتلال. نسجل في هذه الحالة التباس التمييز بين الاحتلال والاستعمار. وقد كانت حالة المغرب نموذجا لحالات أخرى في إفريقيا وآسيا من البلاد العربية والإسلامية وغيرها. المثال الآخر هو احتلال إسرائيل لأراضي بلدان عربية هي مصر وسوريا ولبنان والأردن. كانت كلمة احتلال هي الواردة في البداية، غير أن هذه الكلمة غابت تدريجيا ليحل محلها ضم إسرائيل لتلك الأراضي، عدا سيناء التي عادت إلى مصر بعد المفاوضات التي تلت حرب1973. لقد قامت دولة إسرائيل منذ ثلاثة وستين عامل، ومضى على احتلالها لأراضي بلدان عربية أخرى مدة ثلاثة وأربعين عاما. وقد بدأت إسرائيل تبعا للإيديولوجيا التي قامت على أساسها في البحث عن كل الدلائل التاريخية التي تبرر ضمها للاراضي العربية المحتلة عام1967. ويستخدم في هذه الحالة مفهوم الاستيطان الذي يشير إلى واقع أقوى من الاستعمار ذاته، لأنهاستيلاء يريد أن يكون امتلاكا للأرض بصفة نهائية. بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي القديمة احتلت القوات الروسية أرض الجمهورية الجورجية، وإن كان ذلك لأمد محدود، مستندة على دواعي تهم العلاقات بين تلك الدول وإلى دواعي استراتيجية أخرى، مع أن الطرف الروسي لم بكن يسمي ذلك احتلالا. ظهرت عدة حالات لظاهرة الاحتلال في إفريقيا كان آخرها احتلال الجيش الأثيوبي لجزء من الأراضي الصومالية لدعم طرف من الأطراف المتصارعة هناك. وكان لهذا الاحتلال مبرراته السياسية أيضا. نصل أخيرا، لا آخرا، لحالة احتلال قائم الآن يتمثل في وجود قوات مسلحة للولايات المتحدةالأمريكية في أرض العراق. سبق لهذه القوات أن هاجمت العراق سنة 1991، ولكن دون أن يصل الأمر إلى الاحتلال. لكن الجيش الأمريكي عاد سنة2003 ليدخل العراق ويحتل أراضيها، وليصبح فاعلا أساسيا في تطوراتها. ويستند وجود الجيش الأمريكي في أرض العراق إلى عدة مبررات: - امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل تهدد البلدان المجاورة، وتهدد عبر ذلك ماتسميه الولاياتالمتحدةالأمريكية بمصالحها الحيوية. - خضوع العراق لحكم استبدادي ذي ميول عدوانية بالنسبة لدول الجوار، وقد ظهر ذلك منذ 1990، عند دخول القوات العراقية لأرض الكويت. - افتراض وجود علاقة بين النظام العراقي وبين المنظمات الإرهابية التي كان لها دور في تفجيرات 11شتمبر2001، والمقصود بذلك تنظيم القاعدة. - الاتجاه نحو زعزعة الأمن في المنطقة وزعزعة الأمن في العالم بصفة عامة. والمطلب الحيوي بالنسبة للولايات المتحدة على هذا الصعيد هو ضمان أمن إسرائيل، إذ كل مايمس هذا الأمن يهدد السلام العالمي في الوقت ذاته. من الأكيد أن الولاياتالمتحدة لم تذكر من المبررات إلا ما يجيز لها، من موقعها ووجهة نظرها في نفس الوقت، احتلال العراق، ونعلم كذلك أنها لم تذكر المصالح الخاصة التي حركتها للتخطيط لذلك الاحتلال والتي تتعلق أساسا بالهيمنة على المنطقة وثرواتها ، ثم الهيمنة السياسية الاستراتيجية لها كأقوى دولة في العالم. وخارج ماتركته هذه القوة العظمى غير معلن عنه من دوافع،لم تظهر أسلحة الدمار الشامل، ولم تثبت العلاقة بين النظام العراقي، مهما تكن طبيعته ويكون الحكم عنه والموقف منه، وبين المنظمات الإرهابية عامة وتنظيم القاعدة بصفة خاصة. وظل ما هو ثابت وما يمكن تحليله هو الرغبة الأمريكية في احتلال العراق. لن ندخل هنا في تحليل احتلال الجيش الأمريكي للعراق في معطياته الشاملة، كما أن مقامنا الحالي ليس مجالا ملائما لمناقشة المبررات التي تقدمت بها الولاياتالمتحدةالأمريكية لذلك الاحتلال. فما يهمنا في الوقت الحالي هو حالة احتلال يمكن ان تكون قابلة للمقارنة بالحالة الذي ذكرناها سابقا أو بأخرى لم نذكرها، وذلك من أجل استخلاص نتائج تهم ظاهرة الاحتلال موضوع تفكيرنا. ونسجل في هذا المستوى سعي القوة المحتلة إلى الاستعانة بتحالف دولي، وتمرير بعض القرارات عبر منظمة الأممالمتحدة، وخاصة مجلس الأمن. ويبدو من خلال هذا أن الولاياتالمتحدة كانت تسعى عند احتلالها للأراضي لعراقية إلى إعطاء هذا الاحتلال صفة التدخل الدولي. غير أن هناك تمييزا بين المستويين لأن شروط التدخل الدولي لم تكن متوفرة بشكل واضح في خالة تدخل الجيش الأمريكي في العراق لأن التحالف الذي اعتمدنه الولاياتالمتحدةالأمريكية تم خارج المنظمة الدولية وفرض أمرا واقعا. القوات التي احتلت العراق ليست أبدا قوات أممية. حالات الاحتلال التي حدثت خلال القرن العشرين، وما مضى حتى الآن من القرن الواحد والعشرين، كثيرة ومتنوعة على مستوى مبرراتها. لكن العالم اليوم في حاجة إلى التحرر من كل تلك المبررات وإلى الاعتماد على احترام القانون الدولي في العلاقات التي تربط بين الدول. ويبرز استمرار احتلال الأراضي بكل أشكاله ومبرراته أن العالم بعيد بعد عن اتخاذ الطريق المضمون نحو سلام عادل ودائم، وهو مطلب الإنسانية في زمننا. فمتى ينتهي الاحتلال، ويبدأ زمن القانون الدولي؟ يتوقف الأمر على عدة شروط في تنظيم العلاقات الدولية، وفي إعطاء المنظمات الدولية الفرصة التي يمكن أن تؤدي فيها الأدوار المنوطة بها، والتي تأسست من أجلها. 3) مفهوم التدخل الدولي وأسس مشروعيته يعني استخدامنا لتعبير التدخل الدولي أننا نبحث في الزمن المعاصر، إذ لم يكن هناك في نظرنا تدخل له هذه الصفة في الأزمنة السالفة. فالتدخل الموصوف بالدولي يصبح ممكنا بعد تقدم المظاهر التي تدل على أن العالم أصبح موحدا أكثر من أي وقت مضى، وأنه غدا كذلك على صعيد مظاهر تقدمه ومشكلاته في نفس الوقت. ليس التدخل الدولي عسكريا بالضرورة لأن له أشكالا أخرى تقتضيها شروط السياسة الدولية. كما أنه قد يكون لأسباب إنسانية أو من أجل العمل على إيقاف بعض الصراعات المسلحة التي قود نحو دمار يشمل الأطراف المتصارعة نفسها، ويجعل الحياة عسيرة بالنسبة للسكان اللذين لايساهمون في تلك الصراعات يصفى مبدئية ومباشرة. التدخل الدولي بمعناه الإيجابي تعبير عن الوعي الذي يميز الإنسانية المعاصرة بأنها وحدة نوعية تنتظمها قيم، والوعي الذي يجعل الإنسانية من حيث هي كذلك تشعر بضرورة العمل المشترك من أجل تحقيق بعض القيم، ومن أجل الحفاظ على الحقوق الأساسية للإنسان. وقد نشأت المنظمات الدولية لتلبية ذلك مليوحي بهذلك الوعي من عمل مشترك، ومن أجل وضع البرامج والتوافق حول القرارات التي تخدم الغاية التي يسعى إليها العمل المشترك. نشأت منظمة الأممالمتحدة ، ثم تلاها نشوء بعض المنظمات الدولية الأخرى التابعة لها تخص خدمة الثقافة ةالصحة والزراعة وحقوق الإنسان. وقد وقعت تدخلات دولية باسم منظمة الأممالمتحدة وبعض المنظمات الأخرى في إفريقيا وآسيا وفي بعض دول أوربا، خاصة منها تلك التي كانت تتشكل منها جمهورية يوغوسلافيا. يجد عصرنا الذي توالت فيه النداءات والتوافقات حول مايضمن للإنسانية كنوع كرامتها وحقوقها أفرادا وشعوبا في التدخل الدولي تحقيقا للعمل المشترك من أجل بلوغ تلك الغايات. غير أن عصرنا لم يشهد مثل هذه التدخلات فقط، بل شهد أنواعا أخرى استغلت المفهوم واعتمدت على قوتها وفرض هيمنتها على المنظمات الدولية من أجل استصدار قرارات منها لتحلات لاتخدم مصالح السلام العالمي، بل هي في خدمة استراتيجيات دول لها طموحات هيمنية على السياسة الدولية. فماحدث في العراق، مثلا، لم تكن له صبغة التدخل الدولي، وتم خارج المنظمة الدولية حتى مع استصدار قرارات منها . ماحدث كان خارج الأممالمتحدة، واعتمادا على تحالفات لاتشكل اراي العام الدولي. وبهذه الكيفية، فإن فكرة التحل الدولي التي قد تكون مقبولة في حالات تحدثنا عنها تصبح غير مقيولة في الحالات التي تكون فيها في خدمة مصالح بعض الدول.ليس مفهوم التدخل الدولي في هذه الحالات إلا مفهوما لخدمة غايات هيمنية. 4) المصالح الحيوية المصالح الحيوية بالنسبة لكل مجتمع أو دولة هي المصالح التي يتوقف عليها وجود كل دولة واستمرارها على ماهي عليه من حيث نظامها السياسي والمجتمعي، ولكنها أيضا مجموع المصالح المادية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والسيادية. لكل دولة الحق في أن تكون لها مصالح حيوية في المستويات التي ذكرناها. ما نلاحظه اليوم هو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهي القوة العظمى في الزمن المعاصر، هي الدولة الأكثر استخداما لهذا المفهوم لتبرير سياساتها في العالم على الحد الذي نستطيع القول معه إنها استحوذت على هذا المفهوم وعلى دلالاته بالنسبة للعلاقات الدولية. باسم مصالحها الحيوية تسمح الولايات لمتحدة لنفسها بأن تتجاوز المنظمات الدولية، وبأن تتدخل في جهات مختلفة من العالم، ترى أن تلك المصالح فيها مهددة. ولا باس من التدخل لتغيير الأنظمة السياسية والمجتمعية لبلدان أخرى، إذا كانت سياسات تلك الأنظمة تتعارض مع المصالح الحيوية للولايات المتحدة. تدخلت في القارة الأمريكية في الشيلي، وتدخلت في القارة الأسيوية في العراق. وحتى إذا كان تصرف البلدان الأخرى في ثرواتها متعارضا مع مصلحتها، فإنها تعتبر ذلك مهددا لمصالحها الحيوية، وتتدخل، كما هي الحالة في الخليج.وأكثر من ذلك، فالولاياتالمتحدة لاتساير المنظمات الدولية التي تتعارض قراراتها مع المصالح الحيوية للقوة العظمى في العالم. ليست المصلحة المشتركة للعالم في حفظ مصالح كل البلدان هو المعيار الذي تسمح به الولاياتالمتحدة، حسب الدلالة التي تعطيها لهذا المفهوم. 5) نظام العالم العصر الذي نعيش فيه هو الذي ظهر فيه بدون مثيل في السابق قول عن نظام عالمي. لقد جاء هذا المفهوم نتيجة الوعي بأن العالم صار، أكثر من أي وقت مضى وحدة مترابطة، سواء على صعيد مظاهر تطوره أو على صعيد مشكلاته. تطورت وسائل الاتصال وطرق التواصل، فأصبحت العلاقات قائمة بين جهات العالم المختلفة. كل شيء اليوم له طابع العالمية. لكن وحدة العالم هذه هي التي دعت أيضا على التفكير في شروط تعايش الناس فيه، خاصة أن الحروب بدورها اصطبحت عالمية تتدخل فيها ، مهما كان موقعها كل بلدان العالم عبر المنظمات الدولية على الأقل. نتيجة لما سلف ذكره صار هناك بحث عن قواعد متبادلة للتواصل والتفاعل وللعلاقات الدولية.هناك بحث عن نظام للعالم يرمز إلى وحدة عميقة مطلوبة هي وخدة الإنسانية. لكن السياسات المتبعة اليوم من طرف القوى الكبرى ، وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية بوصفها القوة الأعظم في العالم، وجه السعي نحو وحدة نظام العالم إلى سير نحو إرباكه، كما أكدنا ذلك في محاولة سابقة. لقد أدت التدخلات القوية في توجيه سياسات العالم إلى توجيه التطور نخو القضاء على نظام العالم الذي إما أن يكون عادلا أو لايكون. أما اعتماد القوة كمعيار للحق، قمن شأنه إرباك ذلك النظام. تلاحظ في إطار ماسبق تحولا في مسار تطور بعض مبادئ إنجاز مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية، بحيث إن المبادئ المطلوبة لذلك الإنجاز ، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، صارت موضوعا لصراعات خرجت بها عن أهدافها ، إذ جعل منها مبادئ تعتمد لقوة والتدخل الخارجي في تحقيقها، في حين أنه ينبغي دفع المكونات في كل مجتمع على تحقيقها اعتمادا على تطورات داخلية. تلك نماذج من المفاهيم التي استخدمت في زمننا لتأكيد الهيمنة، علما بأن الغاية منها قد تكون عكس ذلك. وليس هذا المقال إلا تلميحا للدراسات النقدية التي يمكن أن تنجز بصددها.