أنسييس فاردا، مخرجة من «الموجة الجديدة في السينما الفرنسية» التي استطاعت إلى جانب فرنسوا تروفو وجاك ريفيت وإيريك رومر وجان لوك غودار وكلود شابرول.. إلخ، نقل السينما الفرنسية إلى منطقة أخرى أكثر حرية وأكثر إبداعية، حيث برعت باقتدار كبير في الخلط بين تيارات الإبداع السينمائي وأضافت عليها لمسات مليئة بعناصر البهجة الممتعة الى أقصى حدود الفرادة في التقاط الشخصيات والوقائع. فمن مصوّرة فوتوغرافية، استطاعت فاردا إلى عالم السينما من باب الصدفة، بعدما ذهبت إلى أحد الموانئ الفرنسية الصغيرة لتصوّر بعض المشاهد لصديق مصاب بمرض عضال لم يعد قادراً على زيارة قريته. وهناك قرّرت صنع فيلمها الأول، «لا بوانت كورت»(1954) (وهو اسم الميناء الذي تدور فيه أحداث الفيلم) حول زوجين يعانيان من مشاكل زوجية. وقد اعتبر هذا الفيلم بسبب كسره لقواعد السينما الكلاسيكية ممهداً لأفلام «الموجة الجديدة» التي طبعت السينما الفرنسية في النصف الثاني من القرن الماضي. وقد عرفت فاردا، التي ولدت عام 1928 لأب إغريقي وأم فرنسة، بنشاطها السياسي المهموم بقضايا الحرية للمرأة والشعوب المستعمَرة وفي الانحياز إلى المهمشين حيث عبرت في مجمل أفلامها عن أشواق هذه الشرائح الانسانية التمسك بالحياة رغم الكراهية والموت ولحظات القلق والحيرة والتوتر. لكن فيلمها الروائي المعنون «كليو من الخامسة الى السابعة» الذي أنجزته العام 1962، اعتبر أفضل اشتغالاتها في السينما طيلة مسيرتها المديدة، حيث حظي العمل بصدى واهتمام نقدي لافت نظراً لحساسية ما قدمته من مشهدية متقنة الصنعة من ناحية تناول العلاقة بين الزمن الواقعي والزمن السينمائي محموم بحرارة عاطفية وإنسانية عالية تدغدغ فيها دواخل الذات بشتى ألوان البساطة والواقع. وهذا ما جعل أفلامها اللاحقة تجد صدى كبيرا عند النقاد والمتابعين للسينما، ومنها فيلم: «السعادة» (1965)، «المخلوقات» (1966)، «ليونز لوف» (1969)، «الواحدة تغني، والأخرى لا» (1977)، «حيطان، حيطان» (1981)، «بدون سقف ولا قانون» (1985)...، «مئة ليلة وليلة» (1995)، «بعد عامين» (2002)... إلخ. فيما يلي الدرس السينمائي التي ألقته أنييس فاردا بمهرجان كان السينمائي سنة 2000: «وأنا أقول «نعم»، أرغب دائما في الضحك حين يقترحون علي تشريفا، لقبا، منصة، بطاقة بيضاء أو بطاقة بريدية. فعندما اقترح علي جيل جاكون إلقاء درس في مهرجان كان 2000، بعد مخرجين ذائعي الصيت، شعرت بالإطراء، أي نعم، لكنني تذكرت بسرعة سلفادور دالي حين تم استدعاؤه في ندوة بالسوربون، في الوقت الذي كان فيلمي الأول سيعرض، لأول مرة، في قاعة سينمائية واحدة. أتى على متن سيارة «رولز رويز» مملوءة بالقرنبيط. وأنا أفكر في دالي، قبلت الدعوة عن طيب خاطر. فعلى سبيل الافتراض، كان يمكنني أن آتي على متن سيارة «كاديلاك» عارية السقف مليئة بالبطيخ، وعلى طاولة «قاعة السفراء» (الخاصة بالسيارة)، يمكننا أن نضع إبريق ماء بمذاق الليمون على مفرش من أوراق الأقانثا والميموزا. أما بالنسبة لإلقاء درس، فأشعر بأنني عاجزة عن إعطائه. لكن إذا كان هناك أشخاص مستعدون للاستماع إلي، سأتحدث بكل أريحية وسأتحاور مع الأشخاص الجالسين أمامي. فالحديث عن السينما، عن السينما التي أصنع، وتلك التي أحب، هو دائما متعة». كتبت هذا قبل شهر، والآن أشعر مع ذلك بالخيبة. حسنا، الكاديلاك كانت أمرا افتراضيا، لم أطالب بذلك كثيرا، لكن الميموزا، كان بإمكانهم أن يجدوها مع ذلك. إذن، ليس هناك ميموزا، فليس هناك أوراق الأقانثا، وليس هناك ماء بطعم الليمون. الماء عاد، وهم لم ينفقوا علينا الكثير من المال. لكني جئت ببضع إكسسوارات، لدي ملف بنفسجي، وأنا مخلصة لسمعتي في حب الألوان. لدي طوابع بريدية، منها واحد ب 2.7 فرنك، يجسد قطة. وعندما مررت بسوق الخردة، أمس، اشتريت ساعة، لأنه لا ينبغي علينا أن ننسى الوقت الذي يمر: الساعة الآن 14 و45 دقيقة عندما نبدأ، وعلينا أن نحرص على الوقت. كيف يمكننا أن نتعلم السينما؟ سأحاول أن أخبركم عما وقع معي. عندما أخرجت فيلمي الطويل الأول سنة 1954، كنت قادمة من الفوتوغرافيا، أي نعم، ولكن ليس من أي مدرسة للسينما. لم أقم بالمساعدة في الإخراج، وعلي أن أعترف بأنني لم أشاهد سوى 5 أفلام وعمري 25 سنة. لم أكن أذهب إلى السينما. فالكثير من مخرجي الموجة الجديدة كانوا «سينيفيليون» ملتزمون، ويقال إن سراويلهم الداخلية بليت من كثرة التردد على المكتبات السينمائية. أنا لم آتي من السينما، هذا مؤكد، ولم أكن أبدا جرذ مكتبة سينمائية. كنت فأرة لا شيء على الإطلاق، ربما فأرة متحف، مسرح أيضا، وربما فأرة مكتبة صغيرة. قرأت كثيرا إلى غاية الثلاثين سنة، وأحببت كثيرا التشكيل. لم أذهب إلى مدرسة.. لكن مدرسة الحياة، ها ها. لا أعني هنا تماما ما يحدث لنا بالضبط: أحداثنا، مشاعرنا، هذا نعم بالتأكيد.. لكن بالأحرى رؤية ما يحيط بذواتنا. عندما كنت في الولاياتالمتحدة، اقترحوا علي أن أعطي دروسا لطلبة السينما CalArt لمدة ثلاثة أيام. إنها جامعة بالقرب من لوس أنجلوس. فقلت لهم: «لتأتوا بكاميرات 16 مم»، وذهبنا إلى داونتون في لوس أجلوس، إلى مقهى شعبية، يتردد عليها الكثيرون. قلت لهم: «ضعوا إحدى الكاميرات هنا، والأخرى هناك». أما النظام التعليمي الذي أجبرتهم عليه، وهذا ما ينبغي قوله، فهو أن لا يضعوا الفيلم في الكاميرا. فالمشكل ليس هو التصوير، بل المشكل هو التعود على الرؤية من خلال العدسة، ومن خلال إطار الكاميرا، أي ما سيصبح صورة، كيفما كانت، لكن صورة مغلقة بإطار: رؤية كيف تتحول الحياة إلى مشهد، وكيف تتموضع. يمكنكم أن تقوموا بالتجربة في أي مكان، أن تجلسوا في مقهى، وأن ترسموا إطارا، ثم تراقبون ما يحدث داخله. وسترون بأن الأشياء تقع بطريقة رائعة. هناك من يأتي هكذا، ثم يقف. هناك طفل يركض هنا، وهناك رأس تصبح في الواجهة. هناك مجريات حياة تقع أحيانا بشكل فرجوي. ليس بالضرورة في الوقت نجلس فيه بالمقهى. أحيانا بعد خمس دقائق، وأحيانا بعد نصف ساعة. كأننا نريد القول بأننا لو تركنا الكاميرا تصور في مكان معين، سنحصل على الأقل على خمس أو ست لحظات من اليوم عبارة عن مشاهد سنكون ربما عاجزين عن إنجازها بالعبقرية نفسها. فالحياة تتحول إلى مشاهد، وهذا ما ينبغي ملاحظته.. تعلمت كثيرا من التشكيل، من تطبيقات واقعية. فلأختار المرأة الشابة في فيلم «بوانت كورت» la pointe courte، فكرت في لوحات بييرو ديلا فرانسيسكا، حيث النساء بأعناق جميلة هكذا، طويلة كفاية وعريضة قليلا. فطلبت، إذن، من سيلفيا موتفورت أن تلعب «هي» (ما دام يتعلق الأمر ب»هي وهو»). شيء آخر تعلمته من التشكيل، إنه التأطير. لنأخذ تشكيليا مثل ديغاس، ولنتحدث عن راقصاته الصغيرات. لكن حين نتحدث عن مجموع لوحاته، فلديه طريقة تأطير مذهلة. هناك دائما في «تأطيره» شخصية على وشك الخروج: قدم، ساق، طرف من تنورة، أحد ما يهم بدخول الإطار. قالوا لي إنه يقوم بنسخ لوحاته بنفسه، يرسمها ثم ينسخها. وما ينبغي بالفعل تعلمه أو القيام به هو أن تقول لنفسك: «الإطار الجميل هو عندما يكون كل شيء في المكان المناسب، وكل شيء يكون ممتلئا، والفضاءات تكون ممتازة، وليس هناك في اليمين سوى ما ينبغي أن يكون هناك فقط، وفي اليسار، والوسط، والأسفل». ينبغي، على العكس، أن نفهم بأن الإطار ما هو سوى جزء من الذي ليس في الإطار، أي ما هو خارج الإطار، أي الشيء الذي يقع قبله تماما، ليس على مستوى المدة، بل على مستوى الصورة. ينبغي أن نمنح المشاهد إمكانية أن يتخيل ما لا يراه. وهنا أشير ميكاييل سنو وفيلمه «Wavelength»، وأفكر في فيلم «الرجل الذي ينام» لأندي وارهول. أحب أن أتحدث عن فويلار، بونارد وهونكي لأسباب مختلفة، والتي ترتبط، عند كل واحد منهم، بالضوء، باللون أو بالتعبير. فيما يخص الفنانين التشكيليين القدامى، فلم تكن هناك سينما، ولا تصوير فوتوغرافي، وكان يتعين عليهم أن يعبروا، وأن يجعلوا الآخرين يشعرون بأحاسيس معينة، كالرعب، والشفقة.. وكل هذا. فخلال تصوير فيلم Glaneurs على سبيل المثال، توقفت في مدينة بون لأصور لوحة «القيامة» لروجيي فان دير ويدن، وهي اللوحة التي أحببتها دائما.. عذرا إن سمحت لنفسي بهذا الاستطراد الصغير. فأنا أجد هذه الصورة رائعة، أن تزن الأرواح، وأن يكون الناس في الوقت نفسه أرواحا وأجسادا، وأن يقع التصالح لديهم بين الروح والجسد. ففي هذه اللوحة التي تعود إلى القرن 15، نرى رجلا مرتعبا من صعوبة وجوده في المطهر: هناك حركة رائعة، يده كلها في الفم ويشد على أذنه. وهذه حركة أجدها مذهلة، إنها ليست حركة مخرج سينمائي، وليس حركة كوليغرافية، إنها حركة ابتكرها الفنان ليعبر عن شيء خارق. والسينما، بالنسبة لي، هي محاولة التعبير عن هذه الحركات المستحيلة. فمن الواضح أننا إذا أردنا أن نفهم الضوء، علينا أن نشاهد فيرميير، دي لاتور.. ففي عالم أكثر عصرنة، تأثرت السينما بإدوار هوبر، هذا الفنان الأمريكي الذي يرسم هكذا، أناسا في المقهى مساء، ونساء قرب النوافذ عندما يكون هناك أفق.. وأناسا مهجورين في غرف فنادق.. يظهر لي أن هذه الرسومات ألهمت السينما بلون معين، بطريقة معينة لتسرب الضوء. وبالعودة إلى لوحات أكثر قدما، يكفي مشاهدة أعمال تلك المرحلة التي كانوا يرسمون فيها عمليات الصلب، وإنزال الصليب، وأشياء مثل تعبيرات العنف المذهلة، والمعاناة، واليأس، لإحداث التأثير.. بل هناك أحيانا، تعبيرات لا يمكن لأي حركة التعبير عنها. الحركة المتوقفة، التعبير المتوقف.. يكثف كثيرا الذي وقع قبل ذلك وبعده. وتشتغل السينما كنظرة ثانية، كقراءة ثانية. على سبيل المثال إذا شرعنا في النظر مليا إلى شخص نعرفه جيدا، كنا نحبه أو لا، فإننا نكتشفه بالفعل.. أنظروا إلى يدي. إنها لطيفة بما يكفي، لا بأس، إنها شائخة قليلا، لكن لا بأس. وإذا صورتها عن قرب، مطوية هكذا، سيكون الأمر فظيعا فجأة: كل الشيخوخة توجد في ثنايا يدي. أريد أن أتحدث عن النظرة الحادة، الميكروسكوبية، حيث النظرة العاشقة أو النظرة الغاضبة أكثر كثافة من العادي. وعلى الشباب الذين يريدون أن يصبحوا مخرجين سينمائيين، ما دام الأمر يتعلق بدرس سينمائي، أن يستوعبوا ذلك جيدا. إن هذه «النظرة الثانية» أيضا عمل بنيوي، سواء أكان كتابة أو مونطاجا (توضيبا)، ينظم من أجل أن يكون قابلا للانتقال.. أستعمل غالبا كلمة «Cinécriture» لأتحدث عن عملي. لا أستسيغ قول «هذا سيناريو مكتوب جيدا». ما هو السيناريو إذا لم يكن مرحلة انتقالية بين تخييل السيناريست والفيلم؟ هذه المرحلة الانتقالية موجودة من أجل إيجاد المال، ومن أجل إذهال المنتج، ومن أجل إقناع الممثلين. إننا نقرأ سيناريوهات محبوكة جيدا، هناك الكثير منها بالفعل. ففي السيناريو، حتى لو كتبنا «travellig avant»، فإننا لا نقول من أين تنطلق سرعة الترافلينغ، ولا نقول إلى أين تصل، لا نقول إنها فوضوية أو عادية. أعطوا هذا السيناريو لخمسة مخرجين مختلفين، فستحصلون على خمسة أفلام مختلفة، حتى لو سلمنا بأنهم احتفظوا بالحوارات نفسها. فالسيناريو ينبغي أن نسميه «مرحلة نحو الفيلم».