عادة ما أعيد معالجة سيناريو شخص آخر، ولكن في موقع التصوير، أضيف الكثير من نفسي حتى أقوم على نحو منظم بمباشرته. فالسيناريو هو مجرد أساس، ركيزة اتكئ عليها لبناء هندسة الفيلم. لم أسمح لنفسي إطلاقا بأن أظل محبوسا داخل النص. أظل منفتحا على الأفكار الجديدة التي يقدمها الممثلون أو ظروف التصوير وفوق كل ذلك، ودائما ما أتاكد أن الفيلم سيحتوي على كل أنواع نفس العناصر الشخصية. «الدرس الأول والأكثر أهمية لمخرجي المستقبل هو تعليمهم كيف يصيرون مؤلفين، وكيف يتعلمون وضع رؤيتهم داخل الفيلم». هذا ما يذهب إليه المخرج البوسني إمير موستوريكا في درس حول «فن الإخراج السينمائي». وقال صاحب رائعة «زمن الغجر»: «السينما فن تعاوني، حيث تتعامل باستمرار مع الشكوك والآراء المختلفة للآخرين. ولدى صناع السينما الشبان غالبا أفكار كثيرة رائعة ولكن مع خبرة قليلة للغاية، وما يحدث أن أفكارهم هذه تتكسر عندما يواجهون متطلبات الواقع. ولكي تتجنب ذلك، عليك أن تكون قادراً على فهم من أنت، ومن أين أتيت، وكيف لكل هذه الخبرة أن تترجم إلى لغة فيلمية. فعلى سبيل المثال، لو أنك نظرت الى أفلام فيسكونتي، سترى في الحال اسلوب إخراجه المتأثر بحقيقة إخراجه للاوبرات. الشيء نفسه مع فيلليني، فيمكنك ان تلاحظ المصمم الرسام خلف المخرج. ومن الواضح أن الطريقة التي كبرت بها في شوارع سراييفو، في اتصال متواصل مع الناس، ومشحونا بطاقة تهمة لا تشبع، قد أثرت في مشواري الخاص بالسينما بدراسة كل أفلام صانع فيلم وبفضول، حتى – منذ – الدقائق الخمس الأولى، ستلاحظ أن لكل منهم طريقته الخاصة في كيفية بناء فيلمه لو انك من ثم ميزت وقارنت بين كل اتجاهات صانعي الأفلام، في النهاية ستكون قادراً على تحديد طريقك الخاص». وعن بداياته السينمائية، قال كوستوريكا: «كانت أفلامي الأولى كطالب تمتلك تماسكا رائعا على المستوى الفني لكنها لم تكن مثيرة للمشاهدة، وأعتقد ان واحدا من الدروس الأساسية التي تعلمتها أثناء دراستي السينمائية في تشكيوسلوفاكيا، كان المدى الذي تقف عنده السينما بين كل الفنون الأخرى فيما يتعلق بجانبها التعاوني. لا أتحدث فقط عن فريق العمل الذي يصنع الفيلم وإنما أيضا ما يوضع أمام الكاميرا، ما يصنع روح المنظر ويبعث فيه حياة ، اكتشفت باعتباري مخرجا أنني أملك مجالا متسعا من عناصر تحت تصرفي، حتى أنني احشد نوعا من الفيسفساء حتى ينعبث وهج فريد فيبعث الحياة في المنظر ، هناك شيء ما موسيقى جدا يتعلق به، كما لو، في استخدام انواع مختلفة من الصوت، كنت أحاول خلق إحساس متناغم داخل لا شعور المتفرج وليس نقل رسالة منطقية ذهنية. وهذا يفسر لماذا استغرق قدرا كثيرا من الوقت في تحضير كل لقطة ودائما ما أتأنى في تصويري. أحاول أن أجعل كل مجال العناصر المختلفة متوافقا مع كل مجال المستويات المختلفة إلى أن تبرز العاطفة المطلوبة عبر الصورة. وهذا يفسر أيضا كل هذه الحركة الكثيفة في أفلامي. أكره فكرة إيضاح مشاعر الشخصيات عبر الحوار. أشعر أن العواطف المعبر عنها بالكلمات بديلا عن الأفعال هي أداة بسيطة اختارتها السينما مرارا وتكرارا في غالب الأحيان. إنها مثل المرض، لهذا أحاول أن أجعل شخصياتي تتكلم قليلا بقدر الإمكان، وإذا كان عليها أن تتحدث اتأكد من أنهم أو الكاميرا سيكونون في حالة حركة. هناك منظر واحد في فيلم «قطة سوداء ، قطة بيضاء» ما زلت شديد الإعجاب به على وجه الخصوص ، إنه منظر لممثلين اثنين يتشبثان بخاتم مطاطي ويعترف كل منهما للآخر بحبهما. فالطريقة التي صورت بها المنظر هي أن يدور الخاتم وتصاحب حركته حركة للكاميرا، وعندي، أن هذه الحركة الدائرية – فالدائرة هي الشكل الهندسي الأكثر روعة في العالم – جعلت اللقطة ساحرية بخلاف الكلمات التي يمكن أن تقولها الشخصيتان الاثنتان كل منهما للآخر». وعن برنامجه لتعليم فن الإخراج السينمائي يؤكد صاحب «قط أبيض، قط أسود» في مقال حرره « لوران تيرار» أن فكرة القيام بتعليم شخص ما كيف يصنع فيلما، هي فكرة طموح ومثيرة أيضاً. لكنها، في رأيي، ليست رائعة نهائيا. لقد قمت بتدريس السينما لمدة عامين في جامعة كاليفورنيا في نيويورك وانتهى الأمر بإحساس بأنه من المستحيل تقديم أية مؤشرات حقيقية عن السبيل لصنع فيلم». ولهذا يعتبر أن أنجع طريقة لتعليم المخرجين هي عرض الأفلام وتحليلها مع أمثلة محددة للمناظر أو اللقطات، كي نتبين كيف يستخدم كل مخرج موهبته كي يصنع فيلما. وفي هذا السياق، يقول: «نقدم كل فترة من تاريخ السينما درسا مختلفا لمن يريد دراسته فمثلا، دائما ما أبدا مع طلابي بعرض فيلم «الأطلنطي» لجان فيجو لأنني أحس أنه يمثل أفضل توازن ممكن ما بين الصوت والصورة . لقد صور هذا الفيلم في الثلاثينات المبكرة، حيث كان كل شيء لا يزال جديدا نسبيا، وكان الصوت والصورة يستخدمان بقدر كبير من الحذر والاعتدال، الآن، عندما أشاهد أفلاما حديثة أصدم من كيفية امتزاج كلا العنصرين، فهناك مبالغة منظمة أراها غير صحية على الاطلاق. بعد الأطلنطي، سأنتقل بشكل عام إلى جان رينوار وفيلم «قواعد اللعبة» الذي اعتبره شخصيا التحفة الأعظم فيما يتعلق بالإخراج السينمائي بالنسبة لي، يعد هذا الفيلم ذورة الرشاقة في التعليق، بتأطير منفذ بأبعاد بؤرية لا هي طويلة ولا قصيرة، دائما مغلفة برؤية انسانية، بغنى بصري رائع وبعمق عظيم للمجال أكثر من ذلك، لقد كان رينوار – وربما حتى والده، المصور التشكيلي – الذي اثر في مزاجي للخلق الدائم للتطاير شديد العمق وشديد الغنى حتى وانا اصور لقطات قريبة، فهناك شيء ما يكمن خلقها ، فالوجه دائما موصول بالعالم الذي حوله. إذا عدت إلى برنامجي، سأنتقل إلى الميلودرامات الهوليوودية للثلاثينات والدروس المذهلة التي تقدمها المتعلقة بالبنية، البساطة، وكفاءة السرد. كانت هناك أيضا السينما الروسية بحسها الرياضي الغالب للإخراج، ثم سينما ما بعد الحرب – الثانية الإيطالية مع فيلليني بطريقته في ربط جماليات ممتازة مع نوع من الروح المتوسطية التي تجعل من فيلم ما، متذبذبا وجذابا مثل عرض سيرك. أخيرا، هناك السينما الأمريكية في الستينات والسبعينات والطليعة، وبأسلوب حديث على نحو حازم للسينما، حتى أن مخرجين مثل سبيلبرج ولوكاس قد انتقلا بها إلى خطة أخرى في الثمانينات». ويرى صاحب «أندرغراند» أن الخطأ الأسوأ الذي يمكن لصانع أفلام شاب أن يرتكبه هو الاعتقاد بأن السينما هي فن موضوعي، فالطريقة الوحيدة الصحيحة كي تصيح مخرجا ليس فقط في امتلاكك لوجهة نظر شخصية، وإنما أيضا أن تفرضها داخل الفيلم. ويضيف: «على كل مستوى، فأنت تصنع فيلمك، كما لو أنك تصنعه لنفسك، دائما على أمل بطبيعة الحال، أن ما أحببته فيه سيحبه أيضا الآخرون. لو أنك حاولت صنع فيلم للجمهور، فإنك تفاجئهم ولو أنك لم تفاجئهم فإنك ستجعلهم يتأملون أو يتطورون. ولهذا، يعد الفيلم أولا وأخيرا فيلمك. هل عليك كتابة السيناريو بنفسك كي تصير المؤلف الحقيقي للفيلم بأكمله؟ لا اعتقد ذلك. بل على العكس، فأنا أؤمن بأن لديك حرية أروع للحركة لو أن كل ما تفعله هو الفيلم. عادة ما أعيد معالجة سيناريو شخص آخر، ولكن في موقع التصوير، أضيف الكثير من نفسي حتى أقوم على نحو منظم بمباشرته. فالسيناريو هو مجرد أساس، ركيزة اتكئ عليها لبناء هندسة الفيلم. لم أسمح لنفسي إطلاقا بأن أظل محبوسا داخل النص. أظل منفتحا على الأفكار الجديدة التي يقدمها الممثلون أو ظروف التصوير وفوق كل ذلك، ودائما ما أتاكد أن الفيلم سيحتوي على كل أنواع نفس العناصر الشخصية. وهذا يفسر الوجود الدائم للهائمين، للأعراس، لفرق موسيقية نحاسية، وأشياء أخرى دائما في أفلامي. فهذه هي وساوسي التي تظهر بانتظام، تشبه قليلا حمامات السباحة في لوحات هوكني التشكيلية. فالعناصر هي دائما ذاتها، ولكنني أعيد وضعها بشكل مختلف في كل مرة كي تروى حكاية أخرى على مستوى تكتيكي أيضا، يعد إخراجي ذاتيا تماماً. فكل مخرج يواجه من الناحية الأساسية، معضلة عندما يحين وقت وضع الكاميرا. فلابد أن يكون هناك قرار فني يتخذ معتمداً على منطق ما، وحتى تأويل اخلاقي او اعتماداً على غريزة نقية. ودائما ما أجعل غريزتي ترشدني، ولكنني أتفهم الآخرين عندما يجدون أن المنطق أكثر ضمانا. على أية حال، ليست هناك بالفعل قواعد – نحوية – سينمائية، أو بالاحرى هناك مئات منها، طالما أن كل مخرج يبدع قواعده أو يبتكر قواعده الخاصة». أما كيف يتعامل كوستوريكا مع الكاميرا ومع إدارة الممثلين، فيقول: «عندما أقوم بتحضير منظر ما، دائماً ما أبدأ بتحديد موضع الكاميرا، طالما أنني أؤمن بأن الإخراج يتضمن أولا وقبل كل شيء التحكم في المكان، وماذا تريد أن تراه داخل هذا المكان. هذا هو أساس كل سينما الآن، يجب أن يمارس هذا التحكم في المكان عبر الكاميرا وعلى الممثلين أن يتمثلوا للتأطير السابق التحضير، ولأي طريقة أخرى. فأول شيء، ولأسباب عملية، فإنه من الأسهل أن تطالب ممثلا ما بالتكيف مع المحددات البصرية أكثر من التكيف مع الجانب التكتيكي الذي يفكر فيه هو. وحينها، ستقوم الكاميرا بمساعدة المخرج على توجيه الممثلين. فالكاميرا هي حليف المخرج طالما أنها مصدر قوته، إنها النقطة التي يحدد على أساسها كل قراراته، حتى ولو كانت مع ذلك اعتباطية». ويذهب صاحب «الحياة معجزة» إلى أن «الخطأ الذي يرتكبه المخرجون المبتدئون هو التعامل مع السينما باعتبارها شكلا من مسرح مصور فيكونون شديدي الامتنان لعمل الممثلين. حتى إنهم يمنحونه الأفضلية، ولا يتمكنون من فرض وجهة نظرهم البصرية. وعادة ما يشتغل هذا الميل ضدهم، طالما أن الممثلين في حاجة لمن يوجههم، وفي احتياج للتأطير داخل مكان متغير الحدود. فالمخرج الذي يسمح لممثلين بأن يظلوا مطلقي السراح سيجد نفسه في الحال ضعيفا وغير حاسم، وسيسبب ذلك لهم الذعر والهلع». وتابع المخرج البوسني الذائع الصيت: «في نفس الوقت عليك تجنب ضيق الأفق، فعندما يكون من المهم للغاية الاقتراب الملموس من تصوير منظر ما، فإنه من الأهمية القصوى أيضا، أن تصير مستقبلا لمفاجآت وأفكار من خارجك. وبينما أعرف دائماً ما سيكون عليه المنظر الذي أريده، فمن النادر أن أتمكن من تخمين ما سيتبدى عليه في النهاية». وإذا كان كل مخرج يسعى نحو هدف جمالي واحد فحسب عند صنع فيلم، فعليه أن يتحمس لما ينوي تصويره. يقول كوستوريكا: «أعرف أنه منظر رائع عندما أشعر بدقات قلبي، أسرع، ومبرر صنعي للأفلام هو شعوري بهذا الإحساس. أحتاج للعبور إلى العالم بفعل تقديم الفيلم. وعندما أصنع ذلك، أؤمن بأن ذلك الإحساس يمر عبر الشاشة، وأن المتفرج سيشعر به بدوره. ولتحقيق هذا، وبرغم كل شيء، أعتقد أنك في حاجة للاقتراب من كل فيلم كما لو أنه فيلمك الاول. تجنب الوقوع في الروتين، ولا تقف أبداً للاستكشاف أو للاستنباط ومع الخبرة صار الامر سهلا للغاية أن تعود للعادات القديمة وللتغير البسيط للعدسات كي تخلق ديناميكية جديدة. لكن عليك أن توقف نفسك عن فعل ذلك. فمثلا، أرفض دائما تغطية منظر ما فأقرر طريقة واحدة للتصوير وأثابر عليها، حتى لو أن ذلك سيسبب صداعا اثناء التوليف. إنه تحد متواصل ولكنه يجبرني على التفكير في القرارات التي على اتخاذها في موقع التصوير ولا اتردد أبدا في الدفع بأية فكرة إلى منتهاها» . ويضيف أن «هناك أوقات عندما كنت أجادل بشأن رد الفعل المتأخر للقطة، لكنني أجبرت نفسي على سبر الغور إلى أقصى حد، للدخول إلى القلب، لنفسي جوهر المنظر وهذا يفسر كيف انتهت بي الحال إلى تصوير خمس عشرة أو عشرين لقطة من أجل لقطة واحدة». ويعترف كوستوريكا أنه عدد ضخم ومخيف بالنسبة للمنتج، ولكن العزاء في أن مخرجا من طينة أكتشف ستانلي كوبريك يصور خمسين لقطة، وليس عشرين.