أن تلتقي بشاعر بقامة محمود درويش الشعرية، هو شيء لا يتأتى لأي كان لاعتبارات متعددة لعل أهمها عمق الأثر الذي أحدثته التجربة الشعرية لمحمود درويش في الشعرية العربية المعاصرة في أبعادها الجمالية، وفي ارتباطها بالأبعاد الوجودية لمحمود درويش وللإنسان الفلسطيني خصوصا، والعربي على وجه العموم. هذا العمق الذي لا يوازيه إلا عمق الجرح الفلسطيني النازف في الوعي الفلسطيني وفي والروح الفلسطينية التي ما زالت تقاوم بكل ما أوتيت من خنادق ومتارس شعرية في مواجهة الاحتلال. محمود درويش كان وسيبقى اللغم الشعري المتفجر في وجه المحتل العابر في الكلام العابر. محمود درويش كان وسيبقى اللغم الشعري العابر لمعالم الزمن الفلسطيني. العابر ،أفقا واسعا، للحلم الفلسطيني . العابر درعا أخيرا في وجه آلة النسيان والعدم. أن تلتقي خمس مرات بشاعر باسق يحمل في أبعاده كل هذه المعاني، والمحاط بهذا الكم المهول من الحب من كل جماهير الشعر العربية والعالمية، هو أن تلقي بنفسك عرضة لكل إشعاع القصيدة، ولأي إشعاع، ولأي قصيدة. هذا ما خلت صديقي الكاتب والإعلامي عبد الصمد بن شريف قد فعله ونجح فيه إلى أبعد مدى وهو ينشر فينا هذه الصرخة الجميلة مساهمة في التصدي لآلة النسيان والعدم لأدوات الاحتلال العديدة. صرخة ضد الغياب: ليس غريبا على هذا الذي خبر الشعر يافعا هناك على مشارف كلا ايريس وباديس. هناك في قرية إيزلوكن بالحسيمة .ليس غريبا على هذا الذي خبر معنى الحرية ومعنى السجن والسجان وهو هناك في قلعة من قلاع الحرية في وجدة يحضن القصيدة ويغني للقضية ينظمها ويهديها عربون حب لقضيتنا جميعا للقضية الفلسطينية. ليس غريبا على هذا الذي في سار طرق الشتات الطويلة، محاولا زرع نبتة جديدة لتكون مشتلا أو برعما لا بد أن يتفتح يوما ما ويطل نجمة أخرى في أفق الحرية. من إذاعة طنجة إلى جريدة الميثاق إلى كوكبة الأوائل داخل القناة الثانية إلى موقعه اليوم في المغربية ليس غريبا أن يصاب بكل جماليات المقاومة في ألغام محمود درويش الشعرية، وأن يتعرض لكل إشعاعات القصيدة الضاجة بالحياة. نكاية في إرادة النسيان وزراعة العدم وضدا على كل أشكال الغياب. هكذا كان محمود درويش وكما أراد لنفسه الشعرية أن تكون. «مقابل التدمير في الزمن العام ، كان علي أن أرمم الحلقات المتقطعة في زمني الشعري وزمني الشخصي»(ص37) كان ترميم النفس الفلسطينية وترميم الزمن الفلسطيني فعلا مقاوما بامتياز، «علي أن أحمي لغتي من السقوط وعلي أن أحمي ذاكرتي « (ص37) هكذا يتحول الاشتغال اليومي على تطوير شكل اللغة وشكل القصيدة إلى فعل مقاومة كي لا تسقط اللغة كي تُحمى الذاكرة. كيف لا والشاعر الملتحم بعمق كينونته الفلسطينية ، الرابض في عمق الجرح الفلسطيني يجعله أقرب إلى استشراف آفاق المقاومة الروحية المضادة لأنساق الهزيمة والانكسار عبر كسر جدران العزلة والنسيان والعدم بفتح نوافذ جديدة مشرعة على الحلم وضد كل أشكال التغييب. «أحد تعريفات الشعر الكثيرة تقول: إن الشعر رؤيا» (ص56) «الشعر لا يستطيع أن يقدم تعويضا، أو عزاء عن الهزيمة العربية الشعبية، وما يستطيع أن يفعله الشاعر الفرد، هو أن يكتب شعرا جيدا ،وأن يدافع عن عدم سكوت الروح عن الهزيمة. الشعر توازن للروح الإنسانية، فدفاع الشعر عن الروح وعدم احتلال الروح هو أيضا أحد أشكال الدفاع» (ص57) وبرغم كل السمو في تجربة محمود درويش الشعرية وريادتها، فقد كان دائم القلق والتساؤل حول طرق التجديد الشعري في تجربته عبر الإنصات إلى نبض المتلقي في أفق التطوير المستمر في صياغة جماليات القصيدة شكلا ومعنى. «لا يمكن للشعر أن يتطور من دون قارئ متطور ، فالاطلاع على المتطلبات الجمالية للجمهور هو إحدى العبر والدروس الجمالية الأساسية في العملية الشعرية» (ص44) هكذا كانت صرخة عبد الصمد بن شريف ضد الغياب، من تلك الهزات الارتدادية التي نمت بفعل الزلزلة التي أحدثتها التجربة الشعرية لمحمود درويش في جمالية الشعرية العربية وفي أدوار القصيدة العربية الجديدة ، كألغام لغوية مضادة لآلات النسيان والعدم. إشعاعات جمالية عابرة للهزيمة العربية ، للزمن الفلسطيني والروح الفلسطينية . إنها بالفعل ألغام شعرية لا تقل فتكا بالعدو عن أي سلاح آخر في خنادق الجبهة. _____ * ورقة ألقيت بمناسبة تقديم وتوقيع كتاب «ضد الغياب « للكتاب والإعلامي عبد الصمد بن شريف يوم 27 فبراير بمندوبية وزارة الثقافة بطنجة. **د.عبد النور مزين : طبيب روائي قاص وشاعر من المغرب . القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر 2016 عن رواية "رسائل زمن العاصفة"