عندما فكر في كتابة مذكراته ، لم يكن ذلك بدافع الرغبة ، ولكن تحت تأثير الحاجة إلى الكتابة ، وكذا الفراغ الذي كان يعيشه الحسين داخل زنزانته بالسجن المركزي بعد منطوق الحكم القضائي ، وتحديد عقوبة الحبس في حقه لمدة عشر سنوات . ولما استعاد الحسين شريط ذكرياته قبل أن يخط أول كلمة على بياض الأوراق ، توقف كثيرا عند نشأته الاجتماعية بتخوم الجنوب ، وتحديدا بأحد الدواوير التابعة لإقليمتيزنيت ، هناك قرب الهضبة المنتصبة على مقربة من الوادي مارس الحسين شغبه الطفولي صحبة زمرة الأقران من أبناء الدوار ، ومع ذلك فقد كان مهتما بالدراسة ، وحريصا على إنجاز كل الواجبات المدرسية ، ومواظبا على قطع مسافة طويلة مشيا على الأقدام للوصول إلى الفرعية المكونة من ثلاث حجرات دراسية . وبعد اجتيازه للامتحان الإقليمي لنيل شهادة الدروس الابتدائية ، كان إجباريا عليه أن يلتحق بالقسم الداخلي التابع للثانوية الإعدادية ، وهناك فضل الحسين ألا يؤسس أية علاقة صداقة مع تلاميذ المؤسسة المنحدرين من الدواوير البعيدة ، معتبرا أن «الفيلاج» فضاء غريب بالنسبة إليه ، وأن المتعلمين الوافدين على الداخلية غرباء عنه ، ويكبرونه سنا ، ويتفوقون عليه شغبا ، ففضل الانزواء بنفسه ، والتفرغ للدراسة ، خصوصا وأن عائلته تعيش وضعا اجتماعيا هشا ، وتعلق آمالا كبيرة على ابنها . وبما أن الحسين لم يبرح بيت أسرته إلا عندما التحق بالتعليم الإعدادي ، فقد كان صعبا عليه أن يندمج داخل فضائه الجديد ، وأن ينخرط في علاقات يعتبر نفسه غير مؤهل نفسيا واجتماعيا .. لنسج خيوطها بالقسم الداخلي حتى مع العناصر الثلاثة التي تقتسم معه غرفة المبيت ، تحسبا لأية مفاجأة قد يكون لها تأثير سلبي على مسيرته التعليمية وحياته الدراسية ، سيما وأن «الفيلاج» كان يشكل شبحا مهابا بالنسبة لهذا الطفل المنكمش على ذاته . وتزداد معاناة الحسين النفسية عندما التحق بالتعليم الثانوي التأهيلي داخل الوسط الحضري لتيزنيت ، ليس لكونه بصم على مرحلة المراهقة ، ولكن للاختلاف الكبير بين ما تشربه من سلوكات داخل الدوار ، وما أضحى يشاهده داخل فضاء الثانوية التأهيلية ، وكذا بالقسم الداخلي من سلوكات وممارسات يعتبر نفسه بعيدا عنها ، ولا تنسجم مع أخلاقه وتربيته . تفوقه الدراسي جعل الأساتذة يحترمونه ، ودفع بالتلاميذ والتلميذات إلى الاقتراب منه ، لكن الحسين لم يكن يعبأ بكل التحرشات والاستفزازات ، حيث انخرط كليا في المثابرة ، ورسم كهدف له شهادة الباكالوليا ، وبالفعل فقد حصل على هذه الشهادة بميزة حسن شعبة العلوم الفيزيائية . ورغم قدرة الحسين على مواصلة تعليمه الجامعي ، فإن الوضع الاجتماعي لعائلته المكونة من أربعة أولاد ، وثلاث بنات يشتغلون كلهم بالفلاحة وتربية الماعز ، هذا الوضع أجبره على الانخراط في سلك التعليم ، والالتحاق بمركز تكوين المعلمين بالرباط ، حيث قضى به سنتين من التدريب ، وتم تعيينه بإحدى المجموعات المدرسية المتواجدة في النصف الشمالي للمملكة . كان على الحسين أن يدخل غمار تجربة مهنية لأول مرة ، حاول أن يضع تكوينه النظري البيداغوجي على محك التجربة الفعلية ، كي يوازي بين التنظير والتطبيق ، لكن الظروف الصعبة والواقع المعيش بالمنطقة التي عين بها، عاملان غير محفزين على تقديم الدروس بالشكل المطلوب ، ومع ذلك كان الأستاذ الحسين يسخر كل طاقاته ، ويبذل كل الجهود لإنجاح الدروس ، وتحقيق الأهداف المسطرة من كل حصة دراسية . عندما زاره ذات صباح المفتش التربوي ، أعجب بعمله ، وهنأه على مجهوداته ، وقدم له بعض النصائح والتوجيهات الديداكتيكية ، وكان لهذا الانطباع المشرف الصادر عن مفتش المنطقة تأثير ايجابي على نفسية الحسين الذي بادر إلى مضاعفة الجهود بما يضمن الاستمرار في الرفع من وتيرة التحصيل عند المتعلمين رغم الظروف غير المساعدة . ورغبة في الانتصار على عساكر الروتين ، كان الحسين يقضي ليلة السبت وصبيحة الأحد بالمدينة المجاورة ، وكان يتردد على إحدى المقاهي حتى أصبح أحد روادها ، ولعل ما كان يشده إلى هذا الفضاء العمومي ، ويزوره خلال نهاية كل أسبوع ، هو موقعه وتزيينه ونظافته وطريقة التعامل مع الزبناء ....وكان الحسين يوزع الوقت الطويل الذي يقضيه وهو جالس بالزاوية المطلة على الواجهة الأمامية بين قراءة بعض المراجع ، وإعداد الجذاذات ، والتفرج على التلفاز ، وبما أنه يعتبر نفسه غريبا عن المنطقة ، فقد كان يفضل الجلوس لوحده ، وعدم التحدث لأي من الزبناء ، يحتسي قهوته غير عابئ بما يدور حوله ، وينفح النادل بقطع نقدية ، وينصرف في هدوء ، ولعل هذا السلوك غير المصطنع للأستاذ الغريب أثار انتباه صاحب المقهى عبد اللطيف أو عبدو كما يحلو للناس تسميته الذي كان يلج الفضاء لمدة زمنية قصيرة جدا ، ثم ينصرف ليعاود الكرة عدة مرات خلال نفس اليوم باعتباره « مول القهوة « . اضطر عبدو إلى إجراء بحث حول هذا الزبون الجديد بدافع الفضول وأشياء أخرى ، فاهتدى إلى أنه أستاذ التعليم الابتدائي يدرس بإحدى المجموعات المدرسية التي تبعد عن المدينة بأزيد من ستين كيلومترا ، لكن هذه المعلومات لم تشبع نهم فضول صاحب المقهى ، وصاحب مجموعة من المشاريع ، وأحد أغنياء المدينة ، فاضطر إلى تسخير بعض رجاله لتهيئ بطاقة تعريف دقيقة عن هذا الأستاذ الذي أجبرته ظروف العمل على القيام برحلة من الجنوب إلى الشمال بحثا عن استكمال خبرة التدريس ، ورغبة في تطوير فعله التعليمي التعلمي ، وفوق هذا وذاك ، تحسين وضعيته الاجتماعية ، ومساعدة عائلته المعوزة . واعتبارا للمكانة التي يحظى بها عبدو داخل المدينة، فقد توصل بكل المعلومات عن الحسين الذي لم يعبأ بكل هذا السيناريو المفتعل من أجله ، والذي لا يفكر سوى في خلق توافق مهني ، وتنوير عقول تلاميذ أفواههم مفتوحة لفك رموز الحروف ، والنطق بها عن طريق التهجي . وبعد ما تمكن عبدو من رسم بورتريه عن الأستاذ الوافد من مناطق سوس ، تأكد له أن هذه الشخصية مؤهلة فوق العادة للتعامل معها ، وتبين له بأن الحسين هو الأنسب لترويج ما يتاجر به عبدو فقال في قرارة نفسه : « يبدو أن هذا الأستاذ ساذج إلى الحد الذي أوظفه في تعاملاتي التجارية ، لكن كيف السبيل إلى ربط علاقة معه ، وجعله يثق في معاملتي له ؟ « . وتابع متحدثا مع نفسه وهو يخطط للاقتراب من الحسين : « سأزوجه ابنتي عفيفة ما دامت نقطة ضعف الشبان الغرباء المهاجرين هي المرأة « . لم يكن بمقدور عبدو الانتظار طويلا ، حيث استغل ظهور الأستاذ الحسين ، وهيأ سيناريو الاقتراب منه ، والجلوس بجانبه مستفسرا إياه : تبدو لي غريبا عن المنطقة ، أنا عبد اللطيف صاحب المقهى . أهلا وسهلا، تشرفنا بمعرفتك . أجاب الحسين بنبرة خجولة ، وأضاف « أنا قادم من إقليمتيزنيت ، وأشتغل مدرسا بالمنطقة المجاورة « . ماذا لو دعوتك لتناول وجبة غذاء «؟ ومع أن الساعة كانت تشير إلى الواحدة زوالا ، حاول الحسين أن يبدي رفضه بحركة رأسية ، لكن صاحب المقهى أصر على دعوته ، ومرافقته إلى مطعم فخم متخصص في تهيئ أطباق السمك وفواكه البحر ، فدعاه إلى ركوب سيارة رباعية الدفع ، ولم يضع الحسين حزام السلامة إلا بعد سماع صوت المنبه ، فقال عبدو : » في اعتقادي لم يسبق لك أن ركبت مثل هذه السيارة «. لكن الحسين اعتبر السؤال ملغوما ، ويتضمن ما يفيد التراتبية بينه وبين مضيفه ، فذهب به شروده إلى التفكير في الفوارق الاجتماعية إلى أن استفاق على صوت الموسيقى المنبعثة من راديو السيارة وأغنية « بغيت بلادي» لمجموعة المشاهب فسأله عبدو : » هل يطربك هذا اللون الموسيقي ؟».أجابه الحسين بعد أن أخذ نفسا من التفكير: » الأغنية المغربية بجميع أطيافها تشدني وتطربني خصوصا ذات الطابع الفولكلوري «. بدا المطعم بفسيفسائه غريبا عن الأستاذ الحسين ، ودخله مطأطئ الرأس ، فيما ظهر عبدو مزهوا بنفسه وهو يلج فضاء المطعم يوزع التحية على المستخدمين وبعض الزبناء، وبعدما تناولا وجبة الغذاء التي كانت غنية ومتنوعة ، انخرطا في الحديث ، وتبين للمدعو عبدو أن الأستاذ شخصية تناسبه ، وتليق بمشروعه التجاري ، لكنه عاود السؤال في قرارة نفسه عن الطعم الذي يليق باصطياده . دعوة جديدة وجهها عبدو «لفريسته» وكانت هذه المرة الضيافة بالفيلا التي يقطن بها ، حيث قدم له وجبة غذاء مغربية ، وبمشاركة أفراد العائلة ، وكان الهدف من هذه الجلسة العائلية ، خلق فرصة لتقديم ابنته البالغة من العمر ثماني عشرة سنة ، والتي حاولت عن قصد أن تجلس أمام الحسين ، وهي ترتدي لباسا يستفز الأحاسيس ، وترسل نظرات لإثارة المشاعر ، وخلال لحظة من اللحظات انفرد الحسين بالشابة عفيفة ، لكن مسافة الصمت بينهما كانت طويلة ، وهذا عنوان بداية حب بدأت خيوطه تنسج كما خطط لها عبدو الذي تدفع به المادة أحيانا إلى الدوس على الكرامة ، حيث ابتلي بالجشع إلى الحد الذي جعل منه شخصية بدون مبادئ ، لكن مشاريعه وأناقته وأمواله واستعلاءه .... مواصفات جعلت منه شخصية تحظى بالاحترام المبالغ فيه . علاقة الحسين مع عبدو جعلت الأستاذ يستفيد من مجانية المشروبات بالمقهى ، وتناول الوجبات بين الفينة والأخرى بالمطعم ، بل أضحى يتردد على بيت عبدو دون استئذان ، وأحيانا يضطر إلى المبيت بالفيلا ، فأصبح مع مرور الوقت أحد أفراد عائلة عبدو ، وأحس بجاذبية عاطفية تجره نحو عفيفة ، بل أضحى ينفرد بها لتبادل قبلات خلسة ، فازداد تعلقه بها ، وهو الذي لم يسبق له أن ربط علاقات صداقة أو حب مع الفتيات . عندما قرر الحسين زيارة عائلته خلال عطلة منتصف الأسدوس الثاني ، كانت المناسبة سانحة أمام عبدو لتقديم بعض الإغراءات المالية ، حيث منحه مبلغا مغريا ، واشترى له كل ما تحتاجه أسرته من مواد غذائية ولباس وعطور ... وكان لهذه الالتفاتة وقع كبير على الأستاذ الحسين الذي ذهب به تفكيره بعيدا وهو على متن الحافلة المتوجهة إلى تيزنيت ، وعلى طول الطريق كانت مجموعة من التساؤلات تطرح في رأسه من قبيل :» ما سر العلاقة التي يؤسس لها عبدو ؟ ولماذا يهيئ لي كل ما أحتاجه ، وما لا أحتاجه ؟ وبينما هو يسبح في بحر الأسئلة ، استفاق على رنين هاتفه المحمول ، ودخل في حوار عاطفي مع عفيفة التي برهنت عن اهتمامها به ، وعبرت عن حبها له ، فعاد ليغوص من جديد في يم التساؤلات : « هل ستوافق عائلتي على زواجي بهذه الفتاة ؟ وهل صحيح أن والدتي تفضل أن تزوجني ابنة خالتي فطومة ؟ وما حدود نجاح هذه المؤسسة الاجتماعية إذا اخترت عفيفة شريكة حياتي ؟ كان على الحسين أن يستأجر سيارة أجرة بعد وصوله محطة تيزنيت في الساعة السادسة صباحا ، وتناوله وجبة فطور عبارة عن بيصارة وقطعة خبز وكأس شاي ، ولما وصل إلى الدوار استقبلته عائلته بالزغاريد ، واحتضنته أمه لمدة ليست بالقصيرة ، وكذلك فعل إخوته وأخواته ، وتخيل للأستاذ كأنه عريس خلال ليلة زفاف . لم يستطع الحسين طيلة مدة العطلة التي قضاها بين أحضان عائلته أن يكشف عن علاقته مع عفيفة ، وحاول في أكثر من مناسبة أن يبوح بسر هاته العلاقة لأمه ، لكن الظروف لم تسعفه ، وكذلك الخجل والتخوف من رفض أسرته ، ومع ذلك حاول ركوب صهوة التحدي ، وهمس ذات مساء في أذن والدته بأنه اختار شريكة حياته ، وكشف عن اسمها ، وعنوانها ونسبها ، وعلاقته بوالدها ، والوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه ، والمساعدات التي تقدمها عائلتها له ، والترحاب الكبير الذي يحظى به من قبل أسرة عفيفة . ورغم الرفض الذي عبرت عنه عائلته ، فقد أصر الحسين على الاستسلام لنزواته، فقرر من تلقاء نفسه ، وبدافع من عواطفه أن يعلن خطوبته من عفيفة، ومارس طقوس الحناء في غياب الأهل والأحباب ، لكن ذكاء عبدو الرجل الذي يمزج بين التجارة المسموح بها والمحظورة ، دفع به إلى تأجيل كتابة عقد الزواج بين ابنته وخطيبها الحسين ، لأن مخططاته كان يغلب عليها طابع الأنانية ، والربح السريع والوفير ، هكذا هي شعارات مروجي المخدرات الذين يحبكون سيناريوهات تفضي إلى كسب المال ولو على حساب الكرامة . العملية الأولى التي انخرط فيها الحسين كانت ناجحة ، واستفاد عبدو من أرباحها المقدرة بالملايين ، وكذلك الأستاذ الغريب ، هذا الأخير وقف وقفة تأمل في مصيره ، وفي سلوكه ، وفي العمليات التي كتب سيناريوهاتها عبدو ، وجعل من الحسين أحد أبطالها ، فاهتدى إلى عدم الاستمرار في ممارسة لعبة التجارة في المحظور ، رغم الجاذبية العاطفية التي كانت تؤثر عليه بين الفينة والأخرى . فكان طبيعيا بحكم مهنته كمرب ، والتربية التي تشربها ، أن يعلن قطع حبل الود المزيف الذي كان يربطه بالمدعو عبدو . القرار الذي اتخذه الحسين ، وهو الذي أضحى عارفا بعمليات المتاجرة في المخدرات ، لم يرق والد عفيفة الذي فكر في وضع كمين سقط فيه الأستاذ بين أيدي رجال الدرك ، وهو يباشر آخر عملية للاتجار في المحظور باتفاق مع عبدو ، فكان المصير هو الزج بأستاذ غريب في غياهب السجن لقضاء مدة الحبس التي حددها القاضي في عشر سنوات .