نص الحوار الذي أجراه توماس لاميو، مع يمينة بنكيكي، ونشره موقع Périphérie.net سنة 2003، حيث تعبر المخرجة عن أفكار وهموم لها راهنيته اليوم بحكم النقاش الحاد الذي أصبح يثار من جديد بخصوص الهجرة والمهاجرين. o لم يكن آباؤنا لاجئين سياسيين، ولو أن العديد من شباب الضواحي يعتقدون ذلك. بعضهم قال لي: «ترك والداي كل شيء في الجزائر، أراضيهم، منزلهم.. كل شيء». لكن، لا، هذا غير صحيح. ليست تلك هي الحقيقة. الحقيقة هي أن آباءنا كانوا رعاة. وإذا كانوا عاشوا أربعين سنة في فرنسا، فذلك لأن الفرنسيين ذهبوا إليهم وعملوا على الإتيان بهم إلى هنا. لم يبحثوا عن مثقفي المدن. هذه هي الحقيقة. والآن، كيف نتآلف مع كل هذا؟ n إذا لم نعرف تاريخنا، فنحن نخطئ التاريخ كله. ذلك كل ما في الأمر. علينا، اليوم، أن نحكي. نحكي كيف حدث، في الستينيات والسبعينيات، أن عمالا كانوا يتجهون يوميا إلى عملهم، يجدون عند الخروج موفدي مصلحة المهاجرين الدوليين الذين يضغطون عليهم لجعلهم يوقعون وثيقة المساعدة على العودة. كانوا يتنازلون عن حقوقهم، عن نقط تقاعدهم. ينبغي أن نحكي كيف أن بعضهم - إلا أنها محكيات حياة لا غير- كانوا يتجنبون المرور أمام المكتب. لأن البقاء هنا كان يُسبب لهم الخجل. اختارت مصلحة المهاجرين الدوليين مغاربةً وجزائريين يتكلمون اللغة. عرفوا، وقتها، كيف يعثرون على أناس يتكلمون اللغة لتسوية المشاكل. فلماذا لا يجدون اليوم حلولا للغة، وهذه الساكنة ترغب في البقاء هنا. عرفوا كيف يتدبرون الأمر، سطروا استراتيجيات لا تصدق، خلال الستينيات والسبعينيات. كانوا يسافرون إلى القرى الصغيرة في المغرب لتشغيل أناس يتكلمون لغة «لبلاد». كانوا يرحلونهم مع صناديق الخضر، لكي يفسروا للعمال أنهم إذا وقعوا، فسيكون بالإمكان أن يتحولوا إلى تجار صغار. كان هؤلاء العمال يرجعون ومعهم الختم الذي كان عليهم أن يضعوه إلا أنهم لم يفعلوا ذلك. وفي اليوم التالي، يعودون إلى العمل. وهم لا يتحدثون عن ذلك مع أي كان. كان للأطفال آباء من هذا الصنف. ينبغي أن يعرفوا هذه الحقيقة. زرت عدة ثانويات في الدائرة 20 بباريس. داخل القاعات المرتفعة الحرارة، كان يشاهد الشريط 300 تلميذ مهتاج، وحين كنت أعود بعد العرض، كان الهدوء يحل. كان يُغضبهم أن يسمعوا آباءهم وهم يتحدثون بهذه الطريقة. o رغبت لو ألتقي أعضاء حركة الهجرة والضاحية لكي نتناقش. فرسالتهم كانت ساذجة. كانت من صنف: «لماذا لا نبرز أمورا إيجابية؟» هل أبرزت أمورا سلبية؟ هل كان علي أن أُنجز شريطا يتحدث عن ابن مهاجر حقق النجاح؟ هذا الرئيس المدير العام أو ذلك المنشط التلفزيوني؟ لكن أعضاء الحركة الذين التقيتهم يؤاخذون عليك - رغم عدم مشاهدتهم الشريط، وهذا دال - كونك تجنبت الحديث عن الانحراف البالغ الأهمية بالنسبة لهم هم الذين يناضلون ضد العقوبة المزدوجة. n ما لا يعرفه أعضاء حركة الهجرة والضاحية هو أنني كنت، خلال الثمانينيات، من الأوليات اللواتي شاركن في إنتاج شريط يتناول العقاب المزدوج - كان عنوانه «شاب». أما فيما يخص الانحراف، فقد تطرقت له في «مذكرات مهاجرين»، و ليس بطريقة مباشرة. تناولته من خلال وجه «مونسي». فقد قضى، رغم مظهره الجميل، خمسة عشر سنة في السجن. لم يكن منحرفا مبتدئا. بل كان منحرفا خطيرا، إلا أننا نفهم أصله كذلك. كيف نجح في تجاوز تلك المرحلة. إنه شريط، وليس فضاء لتجميع أي شيء، أخذت شيئا من هنا وشيئا من هناك. إن أعضاء الحركة لم يفهموا مساري السينمائي. بالنسبة ل «مذكرات مهاجرين»، سعيت إلى أن أحكي قصة كانت هي قصة الذاكرة. سيمضي هؤلاء الشيوخ دون أن يتركوا لنا أي شيء. هل أقوم أنا بسرقة الكلمة منهم؟ لا. من أجلنا ومن أجل أبنائنا كذلك. نحن مهاجرون أبناء مهاجرين، وقد كنا بلا ذاكرة. كان لدينا بياض. ذلك هو محور عملي. اشتغلت على الشريط من أعماقي، خلال ثلاث سنوات، أنجزته لأجل أبنائي. لم أفكر في ما سيحدث بعدها؛ كل ما كنت أطمح إليه هو أن أُدون آباءنا في التاريخ. وأنا أشتغل، اليوم، على شريط تخييلي حول سيدتين جاءتا من الجزائر. وإذا فكرت يوما ما في إنجاز شريط حول من لا يتوفرون على الوثائق الرسمية، فإني سأتبع طريقة جاك كيباديان [من شجيرة إلى أخرى]: يختار نقطة انطلاق، حكاية رجل. ذلك هو موضوعه. لا يمكن أن نفرض عليه الحديث عن العقاب المزدوج. خلال أحد النقاشات، سألني شخص حاد الطباع - كنا نحس ذلك، له خطاب قوي، كان جاء مؤخرا من الجزائر - لماذا لم أخصص ثلاث ساعات في الشريط لحرب الجزائر. لكنني لا أقدم شريطا حول حرب الجزائر. ليس بإمكاني التطرق لهذه الحرب خلال عشرين دقيقة. وصور روني فوتيي التي أدرجتها في « مذكرات مهاجرين « تعبر عن نفسها. الجميع كان ينتظر ما سأقدمه بهذا الخصوص. لاحظت ذلك عند عرض الشريط في «كانال». في لحظة معينة، كان الناس يرتعشون لأنه كان علي أن أقدم شيئا ما حول الأجيال الأخيرة من المهاجرين، شيئا ما حول الفتيات اللواتي يتم إجبارهن على الزواج، شيئا ما حول العقاب المزدوج، عن الذين لا يتوفرون على الوثائق الرسمية. لا: إنني أنجز شريطا، ومن حقي أن تكون لي نظرتي الخاصة بي. لم أَدَّعِ أكثر من ذلك. سرت حتى نهاية الشريط الذي كنت أرغب في إنجازه. والآن، بإمكان حركة الهجرة والضاحية أن تتعامل مع مخرجها المفضل، جان - فرانسوا ريشي، لإنجاز الشريط الذي يرغبون فيه. ليكفوا عن استغلال الضاحية، ولينجزوا معا شريطا حول العقاب المزدوج. هذا واضح. في إقليم الباسك، واجهت حركة الهجرة والضاحية والحركيين، إلا أن الحركيين كانوا أكثر لطفا. يستحق الحركيون فيلما مدته ثلاث ساعات، وأن تتم معالجة الموضوع بنفس الطريقة المتبعة في «ذاكرت مهاجرين». يوم أنجز شريطا حول الحركيين، سيقول الناس بأن أبي حركي. لأننا لا نزال هنا، لا نزال في الجيل الراهن، لا نزال في الضواحي. الصبيان يشتمون بعضهم البعض: «والده حركي». إنها أقبح الشتائم. والسبب، هو نفسه دائما: عدم معرفة الماضي. هناك ضرر آخر: العلاقة بين بعض أعضاء حركة الهجرة والضاحية المغاربيين وبيني أنا - الفتاة التي تفكر في الخيانة. المسألة ثقافية، إنها نظرة الأخ الأكبر لأخته. حين أنجزت «نساء الإسلام»، وخلال المناقشات كان أناس يأتون جماعة بعد العرض - لم يشاهدوا الشريط أبدا - ويتحدثون إلي بالعربية: « ألا تعرفين أن ما تقومين به وقاحة؟ إنك تلطخين الإسلام، كيف أمكنك فعل ذلك، وأنت عربية؟ دورك أن تنقطعي عن الكلام». ماذا أفعل أمام جماعة من الناس لا يفهمون ما يقولونه لي. خلال المرات الأولى، قلت لنفسي بأن ذلك مستحيل. لا يكفي أنهم لم يشاهدوا الفيلم، بل إنهم يفرضون علي العودة إلى المنزل... وأنا أختار لغة مهذبة لما أصرح به هنا. هذا الحق في التصرف في المرأة، يمضي بنا إلى الهاوية. كنت أفكر، قبل أي شيء آخر، في إنجاز شريط حول كرامتي، حول احترام الآخر، حول النظرة للآخر. لكي نتمكن من التفكير المركز معا في هذا المجتمع - لأننا لن نعود إلى أي مكان آخر. إذا كان لي هذا الطلب - انطلاقا من «ذاكرات مهاجرين»- فربما لأن هناك رغبة التقدم في هذا الطريق. كنت أرغب، في العمق، في تجنب شرك الفيلم المبني على الحقد. إذا لم يكن هناك حقد، فلا يعني ذلك أننا نختار لغة الخشب. المقاربة مختلفة. عشت كل ما عاشه أولئك الصغار الذين يتمردون بطريقة عنيفة. أعرف معنى الاحتقار، معنى العنصرية. أعرف معنى أن يكون والداك جزائريان. أعرف كذلك حرب الجزائر، تبعاتها وعواقبها. لم يأت والدي إلى هنا كعامل مهاجر، بل جاء كزعيم من الحركة الوطنية الجزائرية. جاء إلى هنا، اعتُقل، وعمي قتل وسط غابة. أنحدر من عائلة حكم عليها بالإقامة الإجبارية بسان - كونتان طيلة سنوات حرب الجزائر. فقدت الكثيرين من أفراد عائلتي خلال تلك السنوات. قضى والدي أربع سنوات في السجن، واحدة منها في زنزانة انفرادية. لم أتلق تربيتي وأنا ملفوفة في القطن. تربيت في وسط يملأه الحقد، الحقد على فرنسا فعلا. كان علي أن أقتل أول فرنسي ألتقيه، وأذهب مباشرة إلى الجنة. كان كابوسا مرعبا، قبل أن تظهر الخطب الرنانة لجبهة الإنقاذ الإسلامية. أما أنا، فالسينما هي التي زودتني بهذه النظرة. بالنسبة لأبي، بعد الجزائر، كانت هناك فلسطين وبعد فلسطين جبهة الإنقاذ. إن أعضاء حركة الهجرة والضاحية صغار سذج. أما ولدي، فكان له إضافة إلى ذلك خطاب متماسك. إنه مثقف، له ماضي. إنه تشي غيفارا. كان كل ما يهمه قبل أي شيء آخر هو القضية، القضية، القضية... وحين لم تعد هناك قضية... ! وفي الوقت نفسه، لم يرجع أبي. في الوقت نفسه، كبرنا جميعنا هنا. وفي الوقت نفسه، فما أفعله، اليوم، هو نتيجة تربيته أيضا. ذلك ما رسخه لدي حول العالم. إلا أنني أنا، اليوم، لأنني امرأة ولأن لي مصير- عليهم أن يبعثوني إلى البلد لتزويجي -، أقول لا، حياتي هنا. لم يكن ذلك بديهيا بالضرورة. حين خرجت، لم أكن أعرف أحدا. تدبرت أمري، مارست السينما. إلا أنه يتعذر علي أن أكون في نسخة متطرفة للأمور. لأن طفولتي ومراهقتي علّماني أن ذلك يقود إلى الاصطدام بالجدار. يقول البعض: « أحب فرنسا» وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن نحب بلدا يضايقنا إلى حد كبير. في الوقت نفسه، ينبغي أن نعيش ونتقدم. التقيت فتاة محجبة قررت الانغماس في الدين لكي تخوض صراعا مع المجتمع. أما أنا، فأضع هذا المجتمع أمام مسؤولياته. « هؤلاء الناس، أنتم من جاء بهم إلى هنا». أنا لا ألعب دور الأب، لا أقول لنفسي بأن هذا المجتمع لا يعنيني. مستحيل أن لا يشعر الإنسان بأنه مواطن. أن يشعر الإنسان بأنه مواطن، لا يعني كذلك أن ينقطع عن ثقافته، بالعكس. ذات يوم ولأجل الجزائر، أنجزت الشريط، مشيت. سترسل نسخة من « ذاكرات مهاجرين «إلى الخزانة السينمائية بالجزائر العاصمة. أنا مرتبطة بكل هذا، إلا أنه من الواضح أني لا أندرج في حكاية جزائرية. لقد أدرجوني في حكاية الهنا. حياتي هنا بالضرورة. ليس بإمكاننا وضع قنابل فقط. تلك شيزوفرينيا كلية. لا يمكنني المطالبة بحقوق وأنا لا أشعر، في الوقت نفسه، أنني معنية بهذا المجتمع. بالمقابل، إذا أمكنني، في يوم من الأيام، أن أؤثر في أمور ما، فإني سأمارس تأثيري. سأتكلم إذا كانت كلمتي مهمة. لا يهمني إطلاقا أن يسألني الناس: «هل ستتحدثين دائما عن المهاجرين؟». نعم، وماذا بعد؟ لماذا، إنها بداية أمر ما. أرغب في الاشتغال على التخييلي، على الوثائقي. وما سأحكيه، فعلا، لن يكون لأجل المجموعة. المغاربيون هم الذين يختلطون اليوم بشكل أفضل، لأن لنا حكاية مع فرنسا. لي جدة تقول كلمة باللغة العربية، ثم كلمة باللغة الفرنسية. إذا كلمناها بالعربية فقط، لا تفهم شيئا. شاهد شريط «مذكرات مهاجرين» محامون وقضاة. وزيرة العدل أيضا. لا يمكنها أن تظل عديمة الإحساس. إنه يحرك بالضرورة ربع ملمتر في الدماغ. بعض الناس اكتشفوا الإنساني في المهاجر؛ إذا كنت نجحت، فربما لأنه لا يزال هناك اليوم أمل. ما ينبغي فعله كثير. * حول «مذكرات مهاجرين»: لقاء شارك فيه أمازيغ كاتب، نادية زوارغ، فتيحة داميش ومختار مركاوي. انتهى