إهداء إلى روح مصطفى المسناوي الذي كتب «طارق لم يفتح الأندلس» ليس من السهل الانخراط في سينما مستقلة، والبحث عن سبل أخرى لتمويلها، خاصة إذا كان المخرج يسعى إلى التعبير بلغة مغايرة عن واقع الحال. سينما مغايرة تجترح لها طريقا موغلة في أرض صعبة. سينما حرة تتمرد على القيود والرقابة. سينما مخادعة ومستفزة تسعى لتحريك الراكد فينا والمسكوت عنه. رهان صعب لكن ليس من المستحيل تحققه. فكيف يمكن لمخرج مغربي أن يحل هذه المعادلة؟ يبدو أن هشام العسري استطاع أن يتوفق في هذه التجربة، رغم بعض التنازلات التي يقدمها حينما تدفع به الظروف إلى أن يلبس قناع التلفزة وينزل درجات سفلى كي يضمن لنفسه العودة إلى السينما في أبهى تجليات الذات المتمردة. ليس من حقنا أن نحاكم المخرج من خلال هدا الوضع. فنحن ندرك جيدا أن هناك مخرجين عالميين اكتووا بهذا الانزلاق، لذا نورد على سبيل المثال لا الحصر سبيلبرغ الذي اضطر أحيانا إلى اخراج أفلام تجارية، كي يتمكن من خلال ذلك، من تمويل أفلامه التي أحب إنجازها وفق رؤيته السينمائية الخاصة. ونعرف جيدا أن هشام العسري كي يضمن نقاء روح إبداعه كما يراه، يجد نفسه أمام خيار التمويل الذاتي والتعامل مع المؤسسات التي لن يكون لها الكلمة الفصل في منجزه الإبداعي. ليس من السهل الدخول إلى عالم هشام العسري، لا بد من المعرفة التي من شأنها أن تكون ذلك النور الخافت، والذي ينير لك طريق المعنى. ليس بالمعنى البسيط للكلمة ولكن للغوص عميقا في التجليات المتخفية داخل عوالمه، لأن هشام العسري يعرف كيف يبني معناه وليس بشكل ترميزي، وأحيانا بشكل بدائي كأن يرمي في وجهك جثة المعنى متعفنة. تتقزز للمشهد وتأخذك في ارتعاش رهيب إلى مكمن خوف داخلي وعميق. «البحر من ورائكم» هذا العنوان الذي ما هو إلا شق من خطاب لطالما شنف أذاننا به الكبار عن أمجاد بطولة منسية. «البحر من ورائكم والعدو أمامكم» ومشهد البواخر التي أحرقها طارق بن زياد. إذ ليس أمام الجيوش إلا أن تمضي الى الأمام. مشهد سينمائي ملحمي في ذاكرة الانسان العربي، لكن في فيلم هشام العسري يتقزم المشهد وتنتفي الألوان. يرغمنا المخرج عبر إشارة في الجنيريك أن نتخيل مكانا آخر عبر هذا التنبيه «في مكان آخر، في بلد بدون ألوان». لقطة ثابتة ليد طارق المقيدة الى سياج حديدي لنافدة (البطل المهزوم في الفيلم) تليها اللقطة الشهيرة لأفلام الغرب الأمريكي، اللقطة الأمريكية لكن من الخلف، طارق يمشي بطريقة خنثوية تستدعي تعليقات تمس رجولته، يلتفت وتبقى نفس اللقطة، ليس هناك مسدس، يندفع اتجاه الأصوات، تندلع معركة. الخاسر الأكبر هو طارق. لماذا هذا التنبيه في الأول؟ لماذا الأسود والأبيض كشرط وجودي لتلقي هذا الفيلم؟ يستدعي هذا التنبيه قراءة محايثة. كان بالإمكان أن لا يضمن المخرج فيلمه هاته الاشارة. إلا أن حضورها شكل نوعا من الميثاق الذي يريد المؤلف أن يعقده مع المتلقي ليحفز انخراطه في عوالم الفيلم دون الارتهان إلى أي مرجع مكاني وزماني. إن الفيلم عمل فني بغض النظر عن أي تأويل بسيط يتغيى من خلاله المتفرج أن يسيج المعنى. وحضور مفهوم المكان بدل الوطن له بعد الاتساع وشمولية التجربة الانسانية، لكن كل هذا لا يمنع اختباء الوطن في معطف غوغول. المخرج يتمترس خلف هذا التنبيه حتى يدفع عنه التهمة أو يتنصل من كل ما من شأنه أن يقدم له تأويلا خاطئا. يحيلنا هذا الانعطاف إلى مسألة الرقابة. كما تعودنا في زمن ما حينما كنا نتصفح الروايات التي كان يضمنها أصحابها بالإشارة الشهيرة «جميع شخصيات الرواية وأحداثها من وحي الخيال، وأنّ أي تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية هو من قبيل المصادفة». نوع من إخلاء الذمة، لكن هشام العسري من خلال أعماله السابقة يتبدى لنا كمن من يريد أن يضع الأصبع في المكان الموجع. إنه يشحذ ذكاء المتفرج ولا يريده أن يقيم الحواجز بل يستنفز كل حواسنا، لأن المكان هو بالضرورة مكاننا. إن العديد من المخرجين اختاروا تصوير أفلامهم بالأبيض والأسود. ليس للفت النظر أو إرضاء لنزوة نرجسية للاختلاف. هناك شيء ما قوي وملغز في الأسود والأبيض. تنتفي الألوان ويبقى رسوخ الأشياء في بعد آخر. ينتفي الزمن لأن للون علاقة بالنور والنور الذي ينبعث من خلال الأسود والأبيض لا ينهض من زمن محدد. ينفرط عقد الزمن، يتمطط ويذوب وقد ينمحي دون أن تدرك ذلك. لا يبقى للألوان سلطة المعنى. حينما تؤطر الكاميرا وجه طارق، والذي جسده مالك أخميس بثقافة ممثل يعرف كيف يغوص في قلب وأحشاء شخصية مركبة، يعود للقطة المقربة أوجها الأول والذي شكل ثورة تعبيرية قصوى ميزت الفن السابع عن الفنون الأخرى. دعوة للغوص داخل الشخصية. اندحار العالم الخارجي أمام العالم الداخلي للشخصية. انتفاء الزمن والمكان وبروز الانسان. نحن أمام الانسان المتشائل بتعبير الكاتب الفلسطيني ايميل حبيبي. طارق بلا ألوان. طارق يخترق الزمن ويملأ الشاشة، يختفي كل شيء وراء وجهه، لكنه لا يساوي شيئا. طارق في زمن آخر لا لون له. يريد أن يحس بأي شيء، يريد أن يبكي، أن يخرج من الإطار. هذا ما يقدمه لنا الحوار الداخلي لكائن منخرط محاولة لاستعادة رجولة ضائعة في أرض خراب. طارق شخصية اختار لها الأب أن تعمل كراقص بلباس نسائية فوق عربة يجرها حصان يدعى العربي. حصان متهالك ينضاف إلى مشهد الانهيار. الأب وصل إلى سن لم يعد بالإمكان الاستمرار في هذه المهنة. ليتحول العربي إلى شخصية محورية ووصلة همز بين الأب والابن. العربي لم يعد قادرا على جر العربة. ليدخل الأب في متاهة البحث عن حل من أجل انقاذ ما يمكن إنقاذه. زيارة البيطرية كانت كافية للحسم في النهاية. يتحول الحصان إلى استعارة لموت «الانسان العربي» وسقوط الشعارات. يقترب الابن من الأب من أجل القتل الرحيم لهذا الحصان. خاصة وأن الحصان أقرب إلى الأب منه إلى الابن. علاقة ملتبسة. يفشل في القتل، وحتى في إرساله إلى المجزرة، كي ينتهي في بطون الأسود الجائعة داخل حديقة الحيوان. كما لو أن العربي لا بد له من موت بطولي. وهذا ما حدث في الأخير منهيا حياته بعدما جر في سرعة جنونية صديق طارق الجريح إلى المستشفى. نهاية ميلودرامية تضج بخبث جميل للإجهاز على أسطورة العربي. تعبر حكاية هذا الحصان فضاء الفيلم مشكلة نوعا من التسلل الناظم لمسار طارق وهو يمضي كما لو كان مسرنما. لا يستطيع فعل أي شيء. تأخذه الأحداث، ينتفض أحيانا ويستسلم أحيانا أخرى. ليظهر ضابط الشرطة. شخصية غرائبية لا انتماء لها، لحية وأظافر بطلاء وسيجارة وقنينة خمرة. إذ يشكل هذا الأخير يشكل سببا في تحطم طارق منذ أن أبكاه آخر مرة لم يعد طارق يعرف طريقه إلى البكاء. أخد منه زوجته وقتل أطفاله واستوطن بيته. لكن مأساة ضابط الشرطة أن الكل يخافه. يستطيع أن يبكي خاصة وأنه لا يعيش وضعا أحسن من طارق. لذا فإن المازوشية هي ما يحرك هذا الوجه البغيض في الفيلم. كما لو أن المخرج يمعن في تأطيره بشكل يضاعف بشاعته. أشبه بكابوس في أحلام يقظة طارق. إذ سيتلاشى في لحظة وهو مستسلم لقضاء حوائجه داخل مرحاض مفتوح على اعترافاته الشبيهة بحوار داخلي رغم إجبار طارق للسماع له في هذا المكان بالذات. يمضي طارق داخل فضاء قيامي. يبحث عن تطهير داخلي. العالم يحمل أثر مرور العاصفة. الانسان والحيوان في نفس الدرك. يبقى البحر وحده أمام طارق. « البحر من ورائكم» وأفلام هشام العسري الأخرى تشكل حساسية جديدة داخل مناخ السينما المغربية. لا يمكن أن ندعي أن هناك قطيعة، بل هناك تتبع ذكي لما كان وارتماءة جريئة في قلب سينما مغايرة تحمل بصمة مخرج مثقف وكاتب له نظرة خاصة وتحليل لوضع الانسان العربي بشكل عام والمغربي بشكل خاص. ينطلق من مجموعة من الأشياء التي شكلت الوعي العربي لتفكيكها وفق منطق إبداعي يرتكز على الغرابة المسنودة برؤية واضحة عن مآل الانسان. شخصيات مركبة تحمل جرحا عميقا وتجلس بجوار فوهة بركان. أما فضاءات هاته الشخصيات فتنبني وفق تصور تخييلي يفقد المكان منطقه الترتيبي ليتحول إلى فوضى وخراب يلتهم الحيوان والانسان. إنها صرخة عارمة في وجه قتل الانسان.