منذ فيلمه الأول، «النهاية»، الذي تم عرضه في مهرجان الفيلم الوطني في طنجة 2011، بل منذ أفلامه القصيرة، لفت السيناريست والمخرج والروائي، هشام العسري، الانتباه إليه كواحد من المخرجين الذين يشتغلون على لغة سينمائية غير مستهلكة، وأحيانا مزعجة. لكنها لغة مفكر فيها، يمزج فيها بين العديد من المكونات: كاميرا ذاتية مشوشة، حركة تصعيدية، لقطات خاطفة، تكرار، إبطاء لإيقاع الصورة، كادرات عوجاء، لقطات مشهدية تخترقها موسيقى تصويرية طريفة (الهيب هوب على سبيل المثال)، أصوات حادة وشخوص منكسرة كأنها تتحرك في مسرح مفتوح. هشام العسري مخرج أثبت أنه لا يضيع الوقت. يعمل بسرعة، وقد أخرج إلى حدود الآن ستة أفلام هي على التوالي: «النهاية»، «هُم الكلاب»، «جوع كلبك»، «البحر من ورائكم»، «الجاهلية»، و «الأقزام». لقد أدرك أن الأفلام لا تصنع بالإنتاج الضخم، وأنه بالإمكان صنع أفلام جيدة بإمكانات محدودة وزمن قياسي. في ما يلي هذا الحوار الذي أجراه معه «الاتحاد السينمائي» على هامش عرض فيلمه «البحر من ورائكم» بالمعهد الثقافي الفرنسي بالدار البيضاء: n هل يمكن اعتبار السينما التي يقترفها هشام العسري سينما خارج الإطار بكل تجلياته؟ نلاحظ في هذا الفيلم مثلا، أنك تضع الشخصيات على هامش الإطار.. p أظن أن شخوصي في الأساس كلها مهمشة أو تعيش على الهامش وتخوض حربا من أجل الوصول إلى المركز أو إلى الحياة الطبيعية. لذا فإن كل أفلامي صورت بطريقة السكوب باستثناء فيلم "هم الكلاب". هناك دائما فضاءات واسعة وغالبا ما تكون شخصياتي غارقة في هذا الفضاء، ففي أول لقطة في الفيلم نرى رأس طارق في أسفل الإطار وكأنها غريقة ومخنوقة لأنها تخاف من الأماكن المغلقة. أنا شكلاني إلى أقصى حد، وكل فيلم بالنسبة إلي هو في حد ذاته مغامرة جمالية جديدة ويجب أن يكون كذلك وإلا فإنه غير جدير باهتمامي. لا أكتب سيناريو من أجل أن أنفذه ولكن لأتجاوزه أو أتسامى عليه رفقة الممثلين. كل فيلم جديد يتعارض مع الفيلم السابق وفي نفس الوقت يجب أن يحمل أطروحة محددة. مثلا في فيلم "البحر من ورائكم" طرحت مسألة كيفية تصوير عالم متألق ولكنه في نفس الوقت عفن وقذر، كما أن لشخوصه كرامة. كيف يمكن تصوير هذه الشخصيات من زاوية سفلى وفي وضعيات تبدو فيها فاشية ومسحوقة مثل شخصيات "ليني ريفنشتال" التي تصورهم بطريقة يفتتنون بها. أحاول أن أصل إلى فكرة إنسانية من خلال هذا كله، فالمجتمع سحق هؤلاء لأنهم قبلوا بذلك ورضوا بمصائرهم، ولكن اثناء الإخراج أرفض مصائرهم وقدرهم ولا أقبل به أبدا. وهنا يكمن الفارق فأنا لا أضع مثلا موسيقى حزينة حين يتعلق الأمر بمشهد حزين أو موسيقى ذات إيقاع سريع حين يكون الإيقاع سريعا. أنا دائما في تعارض مع هذه الطريقة وهو ما يمنحني القدرة على خلق فضاءات جديدة للمتفرج الجيد الذي يحس بالمسافة بين ما يجب أن يراه ويسمعه وما يجب أن يفهمه. يجب ألا نسقط في هذه السذاجة كأن نحكي قصصا وأحاجٍ يفهمها الجميع في النهاية. المسألة ليست هي أن نفهم أو لا ولكنها أبعد من ذلك بكثير. n هل يمكن اعتبار السينما التي يقترفها هشام العسري سينما خارج الإطار. لا يبدو أن السيناريو أساسيا في أعمالك بقدر ما هو ذريعة للحفر في كتابة سينمائية تهدف إلى العثور على لغة خاصة بك. لاحظنا في فيلم "البحر من ورائكم" أنك راهنت على "تفضية" أخرى خارج المكان والزمن، ولكنك تستدعي مع ذلك أصوات كراديو لوكس وموسيقى معاصرة لهوبا هوبا سبريت وكأنك تومىء إلى هذا الزمن الحاضر، كيف تفسر هذه المعادلة؟ p ليس بالضرورة.. الموسيقى ليس لها زمن محدد، فحين نتحدث عن لوكس راديو فإننا نتحدث عن راديو معروف في المغرب فقط، فالمشاهد غير المغربي لا يطرح هذا السؤال بتاتا، بالنسبة إليه، تلك مجرد أصوات منبعثة من راديو. نقصد هنا المتلقي المغربي تحديدا.. n ليس الفكرة أن نكون في الواقع أو في واقع أعيد تشكيله من خلال توظيف الموسيقى. هناك مثلا موسيقى زهرة الفاسية التي تعود إلى فترة الستينيات، ولا علاقة لها لا بعالم الفيلم ولا بشخوصه، ولكن تلاقح وتصادم هذه الحساسيات هو من يعطي للفيلم شكله هذا. سواء في طريقة التصوير، فكل شخصية تحاول حجب الأخرى. هناك حقل وحقل مضاد ولكن لا نرى فيه وجوه الشخصيات، لا يهمنا ما نسمعه بل المهم هو هذه المواجهة وبين الأب والابن. لست محتاجا لبيع هذا الصراع بطريقة درامية. المسألة الثانية هي أن السيناريو أساسي بالنسبة لي. ولكن مع ذلك دعنا نتساءل: كيف نعرف السيناريو؟ هل هو القصة أم الحوار الذي يبنى عليه الفيلم أم مقصديات الإخراج؟ p بالنسية لي، السيناريو وسيلة لتقديم أطروحة وعالم منسجم مع قوانينه الداخلية. هناك الكثير من الناس في المغرب يتحدثون عن أزمة السيناريو وأن أفلاما مغربية كثيرة تنتج سنويا لكن القليل منها يعبر الحدود لأن المسألة متعلقة بأزمة كتابة السيناريو. في رأيي، ليست لدينا أزمة سيناريو ولكن أزمة رؤية سينمائية. ما يجعل السينما مهمة هو انتقالها إلى الميتاسينما، لم نعد نتحدث السينما كما صنعها كريفيث أو ايزنشتاين وعلاقته العضوية مع المونطاج، هؤلاء اخترعوا السينما وواجبنا نحن اليوم هو إعادة اختراعها من خلال إعادة النظر في الفضاء، أي كيف نحول الفضاء إلى شيء مختلف، وكيف نخلق طراوة أمام هذا الكم الهائل من الأفلام؟ كيف يمكننا أن نفاجئ الجمهور حين ندرك أنه شاهد كل شيء. هنا تأتي أهمية السينما التي تستهويني، سينما تقاوم ولا تستسلم. السناريو ليس سوى أداة مثله مثل الكاميرا. أنا أكتب كثيرا حتى يحس المتفرج أني لا أكتب. المسألة بسيطة جدا، مثلا حين نسمع هذا الحوار" لماذا تشتم الكلاب مؤخراتها حين تلتقي" فإننا نعرف أن الأمر لايتعلق بفكرة سينمائية ولكن بالسيناريو. ولكن كيف استعملتها كلازمة في الفيلم في السيناريو فهذا هو المهم. ولكن هنا نحس بالسيناريست مائة بالمائة أو حين تتساءل إحدى شخصيات الفيلم "لماذا البحر أحمر"؟ ، نتحدث عن اللون في عالم لا توجد فيه ألوان علما أننا لا نرى البحر لأنه خارج الحقل، ولكنها دعوة لإعادة النظر في ما نرى. إذن، هذه الأمور متعلقة بالسيناريو. أنا أصور دائما باللقطة المتتالية ولكن لا يمكنني أن أصور بها إذا لم يكن السيناريو يستوجب ذلك. يجب أن يكون السيناريو صلبا ومتينا لأنه هو الأساس وفي نفس الوقت لا يجب أن يكون نصا أدبيا. هناك أفلام كثيرة تطغى عليها كثرة الحوارات وفي الغالب يكون هدفها الشرح والتفسير، باستثناء بعض الأفلام مثال أفلام وودي آلن التي يتحول الحوار فيها إلى نوع من الموسيقى. والسينما المغربية يطغى عليها الحوار كثيرا، ولا يحاول أن تخرج من هذا الوضع. أما حين يتحدث الناس عن السيناريو، فهذا يضحكني كثيرا، لأنني أعتقد أن ما يجب الاهتمام به هو الرؤية السينمائية وليس أن ينتظر المخرج الكوطا أو دوره لينجز أفلاما. وحتى إن كنت غير متفق مع فلان أو فلان، فالمهم، في نظري، هو أن يعمل ويخرج أفلاما أو على الأقل أن يحاول ذلك. أعتبر نفسي محظوظا لأنني أعمل بدون ضغط و يمكنني أن أصنع أفلاما. مثلا، السنما الإيرانية قوية لأن مخرجيها يرتبطون بقضايا بلدهم ويبدعون أشكالا جديدة..هل نتحدث عن السيناريو حين نرى أفلام عباس كيورستامي مثلا. لا، إطلاقا.. ولكن نتحدث عن طريقة الإخراج والتعامل مع الفضاء والزمن وبناء الشخصيات، إنها مسألة هوية ورؤية سينمائية. n على ذكر إعادة بناء الشخصيات وبناء الرؤية السينمائية تبدو الشخصيات داخل الفيلم خليط هجين من عوالم كافكا،وأرسن ويليز ووودي آلان وفيديريكو فليني.. ولكن مع ذلك تبدو صادقة ومُقْتَطَعة من الواقع .كيف استطعت أن تحقق ذلك؟ p بالفعل، لأنني اشتغلت كثيرا وأبحث وألاحظ وأمضي كثيرا من الوقت للتقرب من هذه الشخوص .أكتب دائما سيناريوهاتي باللغة الدارجة .أسمع موسيقى المجتمع ليس من أجل أن أتظاهر أني أفعل ذلك ، ولكن أحاول أن أتقرب من الناس، كيف يتكلمون وما هي مرجعياتهم وهواجسهم.. إلى غير ذلك. وهكذا نحس بأن شخوص أفلامي يتكلمون بطريقة صحيحة. حين كنت مراهقا كنت أسمع الحوارات في الأفلام المغربية وكنت أحس أنها غير صادقة، تحس أن الحوار مكتوب والذي يقرأه لا يحسن قراءته، تحس أن النبرة غير صحيحة. أنا أشتغل على الحوارات كثيرا رغم قلتها، لأنها ستكون المدخل الذي من خلاله يستطيع الممثل أن يقوم بدوره، وأعطيه أحيانا بعض القطع الموسيقية ليسمعها أو أعطيه فكرة عن الشخصية التي سيجسدها كأن أقول له أنه يشبه فلانا، ويمكن أن أواجهه مع شخص له طريقة خاصة في الكلام واللباس، كما أن الممثلين لهم قدرة كبيرة على استلهام أفكارهم من الواقع، لذا يجب أن أنصت إليهم وأحاول أن أكون قريبا أيضا من نبض المجتمع. فحين تتحدث كل الشخوص بكلام نابٍ في كل الفيلم وبشكل زائد، فمعنى ذلك أن هناك مشكلا في الكتابة، لأنه لا يمكن للشخوص كلها أن تتكلم اللغة نفسها، وبنفس الطريقة. يجب ألا تكون للشخوص نفس النظرة للعالم. يجب أن تكون كل شخصية محددة وهذا مهم جدا لكن بعض ممثلينا لا يفهمون ذلك، ولهذا نجدهم يلعبون مجموعة من الأدوار بنفس الطريقة ونفس النوتة، كأنها دور واحد. n هل هذا يعود إلى ضعف إدارة الممثل؟ p هناك عدة عوامل متداخلة كضعف القصة وضعف الإخراج وضعف الممثل وضعف إدارة الممثل، وهذا التهجين هو الذي يؤدي إلى هذه النتيجة، أضف إلى ذلك أن بعض المخرجين يحاولون إرضاء الممثلين. يجب أن يكون الفيلم فعلا عنيفا نوعا ما. فمثلا، يمكني أن أستدعي ستين شخصا في الصباح الباكر وأطلب منهم أن يبدأوا في العمل، كأن أطلب من ممثل أن يصعد الدرج جريا ويعيد نفس المسألة أكثر من عشرين مرة. أن يتعب أولا فهذه مسألة تخصه هو، أما ما يخصني فهو أن أحصل على ما أريد منه. يجب أن تكون هذه القسوة حتى نصنع أفلاما جيدو، ولهذا لا أحب إرضاء الممثلين لأن ذلك سيعطينا فيلما باردا وباهتا يمكننا أن ننساه بعد مشاهدته. نعم يجب أن يكون هناك شيء من القلق والغضب. يجب أن نتحدث عن أنفسنا كما نحن، كأفراد وكشعب كشعب ودولة. إذ هناك أشياء تؤلمنا يمكن أن نتحدث عنها فيما بيننا وفي الراديو، و لكن لن يعدو أن يكون هذا سوى نوع من التفريغ لأننا لا نملك تصورا للموضوع الذي نريد أن نصوره. ما يهمنا أنا هو الأثر الفني، مثلا في فيلم " هم الكلاب" تحدثت عن الحقبة وعن الناس، ولكن أردت أن أتحدث عن شخصية ذات بعد إنساني يتجاوز المحلية، ويمكن أن تُفْهَم في كل مكان. يجب أن تستثمر هذه المشاكل وهذا القلق والترسبات وأن نصنع منها أفلاما أو فنا. هناك مقولة لبيكاسو "لو سجنوني سأرسم بغائطي "، وهذا معناه أن علينا أن نبدع مادامت المادة متوفرة، وهنا تكمن قوة الصورة، كونها تستمد قوتها أيضا من ضعفها، لأننا في النهاية إنسانيون، ولنا القدرة على الحلم حتى لو سجنونا في صناديق. نستطيع أن نفكر وأن نحلم. السينما بحاجة إلى الغضب والجنون. لكن لسوء الحظ نحن بلد تنتشر فيها الشعوذة والجنون بشكل كبير، ولذا ينظر إليهما بشكل سلبي. فالناس تتعاطف مع المجنون فقط لأنه كذلك، في حين أن الجنون هو انفتاح على العالم، يسمح لنا برؤية الأشياء بشكل مختلف،لأننا نخرج من الواقع ونراه من زاوية أخرى. كافكا حين كان يكتب، كان يعيش حالة بين الجنون والعقل، وهذا حال كل المبدعين الكبار. وكذلك أورسن ويلز الذي أنهى حياته مجنونا. نحن بحاجة إلى شيء من الجنون لنبدع. n لنعد إلى مسألة الشخصيات، لا حظنا أنك تشتغل مع نفس الممثلين مالك أخميس وحسن بديدة و غيرهم ، ولكن في كل فيلم نلاحظ أن هذه الشخصيات تنجح في تقمص أدوارها دون السقوط في النمطية. فهل هذا يعود إلى حسن إدارة الممثلين ، أم إلى أن هؤلاء خبروا طريقة اشتغالك؟ p الإشكالية المطروحة في السينما المغربية هي أن هناك أفلاما جيدة تحاول قدر الإمكان أن توصل نظرة المخرج، لكن غالبية الأفلام تهتم بمسائل هامشية، من قبيل هل يجب القفز على محور الكاميرا؟ هل الإطار جميل أم لا ؟ بأي نوع من الكاميرات سأصور الفيلم؟ مازال هذا النوع من الأسئلة التافهة والتطرق البدائي للسينما متفشيا. بالنسبة لي حين أسمع محرجا يقول بأنه أنجز لقطة أو إطارا جميلا، فهذا يزعجني كثيرا. ولكن ما معنى لقطة جميلة؟ جميلة لكون الأداء كان فيها جيدا أو لأن الإضاءة فيها جميلة أم لأن لها ثقلا كبيرا في الفيلم. ليس لكل هذا في رأيي أي معنى. سيغضب مني الكثيرون حين يسمعون ذلك ولكن لا بأس من ذلك. وأؤكد مرة أخرى أن المشكلة هي مشكلة رؤية سينمائية بالأساس. لقد أنجزت ثلاثة أفلام بعد فيلم "البحر من ورائكم" و هي: "الجاهلية" و "جوع كلبك" و "الأقزام". و كل فيلم يتناول موضوعا مختلفا وبطريقة مختلفة وبوسائل مختلفة. أجد متعة في ذلك لأني لا أطبق كل ما أعرفه، بل يجب أن أنساه حتى أستطيع الإتيان بشيء جديد. يجب أن أغامر. فكل الممثلين الذين تحدثت عنهم غامروا جميعا مند فيلم "النهاية"، لأن هناك ثقة ترسخت بيننا. فحين أطلب منهم أن يقوموا بأشياء صعبة يقبلوا بذلك بسهولة. أحيانا يقومون بأشياء لا يفهمونها، ولكن يفعلون فقط لأنني طلبت منهم ذلك. هناك مجموعة من المشاهد أصورها دون أن أفسر لهم ماذا سأفعل بها أثناء المونطاج. "مالك أخميس" مثلا لا يتقن السباحة. لذا فالمشهد الذي كنا نراه مسترخ فوق الخشبة كان صعبا جدا بالنسبة إليه. كان يغمض عينه وهو خائف من الغرق. وفي فيلم "هم الكلاب" اللقطة الأولى التي صورت هي "لحسن بديدة" حيث نراه يرتمي في البحر، علما بأنه لا يسبح جيدا، كان ذلك في شهر دجنبر حيث الجو كان قارسا. ومع ذلك ارتمى في الماء دون تفكير فقط لأنه يثق في كمخرج. هؤلاء الممثلون ليسوا أنانيين بل يعطون كل مالديهم دون غش، وعملهم هذا يندرج ضمن صيرورة يعرفونها ويفهمونها جيدا. وحتى إن لم يفهموا أحيانا فهم يقبلون بفلسفتي، فهم يدركون جيدا أنهم سيمضون معي أوقات عصيبة ولكن في النهاية يمكنهم أن يفرحوا. من الطرائف التي يمكن أن أحكيها لكم هو أن مساعدي يقول لي دائما أنه لا يفهم ما أصوره، ومع مرور الوقت أصبح يقول للناس: "لا تسألوه لأنكم لن تفهموا ما يصور إلا بعد مشاهدة الفيلم". إن الفيلم في النهاية لا شيء، يمكنك أن تأتي و تصور مثلا هذه النملة التي تمر أمامنا الآن (يشير إلى نملة كانت تدب على طاولة الحوار). ولكن كيف تصورها وأين سيكون موقعها في الكادر، هنا تكمن المسألة. فالسينما هي أن تسرق لحظات قصيرة ليست في ملكك وتوظفها وتعطيها بعدا كبيرا في فيلم مكتوب مسبقا. n هل تعرف شكل الفيلم الذي تصنعه في البداية أم في النهاية؟ p يمكن أن أقول أن فيلمي يكون مكتوبا بنسبة 75 في المائة، لكني أترك دائما أبوابا مفتوحة، لأني أحب أن أُفَاجَأَ أيضا. يجب أن أجد أشياء جديدة أثناء التصوير أو أن أصنعها. أحيانا أطلب من الممثل أن يضرب ممثلا آخر أو أن يدير ظهره ويتركه يتحدث دون علم هذا الأخير بذلك. n لكن حين يفاجأ هذا الممثل كيف يكون ردة فعله؟ p لقد أصبح الممثلون مع المدة على وعي بذلك. ولكني أفعل ذلك لأن الممثل حين يضبط إيقاعه فإنه يسير عليه طوال الفيلم. ولذا أحاول دائما أن أخلق المفاجأة. مثلا في فيلم "جوع كلبك" حول إدريس البصري، كانت أمام الكاميرا قطعة زجاجية تعكس ما يوجد أمامها، وأيضا ما خلفها، ولمدة أسبوع كنت أطرد التقنيين الذين يفترض أن يظلوا وراء الكاميرا وأطلب منهم أن يصطفوا في نفس الخط معها، لكنهم لم يفهموا لماذا. وفي الجهة الأخرى يقف الممثلون ولكني لا أصورهم. أصور فقط صورتهم المنعكسة على الزجاجة وأمزجها مع لقطة مكبرة للشخصية الموجودة أمام الكاميرا. صحيح الكثير من الممثلين لا يفهمون ما أصور إلا بعد المشاهدة، ولكنهم بدؤوا مع المدة يعرفون طريقة اشتغالي لأنهم يعرفون أنني أحب التجديد، ولا أومن بالبديهيات والأشياء الجاهزة، وأجد متعة في ذلك. ولهذا فإن ما يقع أحيانا بالصدفة يمكن أن يكون أكثر أهمية من الأشياء التي نكتبها ونعد لها مسبقا، كأن يدخل مثلا قط أو طائر في الإطار أثناء التصوير. وهذا هو الأساس الذي اشتغلت عليه في فيلم "هم الكلاب". حيث ذهبنا وبدأنا نصور وسط حشد من الناس دون أن نخبرهم بذلك . كانوا ينظرون الى الكاميرا باستمرار، وهذا الفضول والقلق والدينامية أصبحت جزءا من الفيلم لهذا وظفت كل هذا لأن طبيعة الفيلم تتحمل أن ننظر إلى الكاميرا. بمعنى أن المنطلق كان هو أن آخذ هذا الجزء البسيط من التخييل الذي كتبته وأرميه في بحر الواقع لأرى كيف سيتفاعلان. و في النهاية ما وقع هو أن الممثلين تخلوا عن الواقع ونفس الشيء بالنسبة إلي. هناك أشياء أبرمجها وأحسبها ولكن أحيانا تقع أشياء لا أتوقعها. إن للواقع قوة خارقة وقوة سينمائية هائلة أيضا. قد نقول إن هيتشكوك مثلا يوظب فيلمه في ذهنه ويعرفه مائة في المائة، وهذا خطأ. ذلك أنه إذا كنت تطبق تصميما مثل المهندس المعماري فهذا شيء مؤسف جدا. صحيح أنه نوع من الفن الأليغوري أو فن الباوهاوس، لكن أين هي الحياة فيه؟ لقد كان هتشكوك دائما في قلب الحياة. n تبدو الحيوانات في الفيلم و كأنها تحاكي الشخصيات، الحصان المتهالك. الحمار النافق. الحمار الذي يمارس عليه الجنس. الخروف الذي يذبح. الأسد الجائع.. لماذا هذه المحاكاة الساخرة؟ p كما أشير إلى ذلك في بداية الفيلم هناك "عالم يعتبر فيه الإنسان حيوان والحيوان عدم" أظن أننا نعيش في عالم بيولوجي تفوق فيه طبيعتنا حضارتنا. وأعود لأذكر بما قاله بيكاسو "لو سجنوني لرسمت بغائطي" هذه هي المسألة في النهاية، ما الذي نريد أن نكونه داخل إطار معين. فالفيلم يتحدث عن شخص منبوذ من طرف المجتمع، هناك سوء فهم لمعنى "المتحول جنسيا" و "المثلي" كما جاء في إحدى حوارات الفيلم حين خاطب أحدهم: "أنت لست مثليا ولكن لم تكن يوما ما رجلا". يصعب تفسير هذا الأمر لأجنبي. قدمت الفيلم في الولاياتالمتحدة، فسألني الجمهور مستغربا: ما معنى أن تكون مثليا دون أن تكون رجلا؟ n لكن نتحدث هنا عن الرجولة كقيمة وليس كهوية جنسية؟ p صحيح، ولكنها مرتبطة بمجتمع وسياق معينين وبفترة معينة. والكلمة نفسها ليس لديها نفس المعنى في سياقات أخرى. وحين نتحدث عن هذه الأشياء، لا يمكن أن نجزم. فإما أن تكون بيضاء أو سوداء، أنا أحاول أن أكون دائما بين المسافة الفاصلة بين الرمادي والأكثر رمادية. ولهذا كان ضروريا بالنسبة لي أن أظهر عالما كل الناس فيه مسحوقين. وإذا سحق الإنسان فأكيد أن الحيوان سيسحق أكثر، لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه لأنه لا يملك صوتا. لا يمكن أن يضرِبَ ولا يستطيع أن يهرب ولا يمكن أن يأكل إلا إذا ناولته الأكل... من المشاهد المثيرة للضحك، تلك التي نرى فيها الحصان يجري بسرعة وهو يجر العربة، وخلفه يجري نفر من الناس ونسمع الموسيقى المعاصرة لمجموعة هوبا هوبا سبريت. يعطينا هذا لمشهد الانطباع بأننا في فيلم من أفلام الحركة... n مع ذلك، فإن الحصان هو الذي يتحكم في الإيقاع؟ p نعم هو من يعطي الإيقاع لأن الفيلم يبدأ حين يتوقف الحصان. وعلى خلاف باقي الشخصيات، فإن الحصان هو الوحيد الذي يملك إحساسا، فالأب كان يبكي على الحصان ولم يبك قط على إبنه أو على أحفاده الذين قتلوا، لأن علاقة قوية كانت تربطه بالحصان. هذا الترابط القوي بين العربي الأب والعربي الحصان، وبين القذارة والماء، وبين الخير والشر وبين القوة والضعف، وبين الهوية كسمك والهوية كتمزق، يترجم لنا أنه ليست هناك حدود، بل هناك تداخلات. أنا بطبعي إنساني، وأعتقد أن أي إنسان مهما بلغت درجة قساوته فإنه يحتفظ دائما بجانب من إنسانيته . من السهل جدا أثناء الكتابة أن نقول فلان طيب وفلان آخر شرير أوهذا جميل والآخر قبيح. يمكن أن يسري هذا الأمر على أفلام سرجيو ليوني أو حين نكون إيطاليين ونصنع أفلام الويسترن على الطريقة الإيطالية، حيث حضور الثقافة الشعبية بقوة أو الميتاسينما رغم هذا التباعد الزمني. بالنسبة لي أعتبر فيلم "الرجل الذي قتل لبيرتي فلانس" من أهم الأفلام العالمية، إنه فيلم حول تاريخ أمة، وفيلم"الطيب والشرير والسفاح" لسرجيو ليوني هو تقريبا إعادة قراءة من الدرجة الثانية لهذه الأسطورة، عن طريق التهكم. وبالرغم من بعض المشاكل في الكتابة وبالرغم أيضا من كونه أعطى نظرة خارجية وقحة وخاطئة ولكنها مهمة جدا ومجسدة بشكل قوي تدخلتنا في عوالم شبيهة بأفلام الرسوم المتحركة وعوالم غودار... ولذلك فإن ما يهمني هو أن أكون بين الرمادي والرمادي الناصح، وليس بين الأبيض والأسود على الإطلاق. فالأبيض والأسود مجرد لونين صور بهما الفيلم، لأننا بحاجة إلى خلق مسافة بين المتفرج والأشياء التي يراها، وأن يكون الفيلم بمثابة عدوان على نمط وأسلوب عيشه، وأن لا يكون سهلا في الفهم، بل يجب أن يهاجمه ويعنفه. أنا دائما على علاقة لهو مع المتفرج. ففي فيلم "النهاية" نشاهد أول لقطة مقلوبة، وفي كل مكان يعرض فيه الفيلم يعتقد بعض المتفرجين أن بكرة الفيلم مقلوبة، ونفس الشيء بالنسبة للصوت في فيلم "هم الكلاب" حيث يعتقد البعض أن هناك عطبا تقنيا أو مشكلا في الصوت، ولكن منذ هذه اللحظة التي يدرك فيها المتفرج هذا التعاقد بيني وبينه يبدأ في أخذ الحذر، ويعرف أنه سيرى فيلما مختلفا. من المهم جدا أن تقترح دائما أشياء جديدة ومختلفة، رغم أني أعي جيدا أن هذا قد يخلق لي عداوات مع بعض الأشخاص. هناك مخرجون مرتاحون لطريقة عملهم لأنهم يقدمون سينما يحترمون فيها القواعد السينمائية وقواعد الكتابة عموما، وهذا من حقهم، ولكنهم يحاكمون أفلامي بشكل سلبي لأنها لا تشبه أفلامهم، أو لأنها ربما غير موجهة إليهم. أن يقولوا عن أفلامي أنها تافهة أو شيء من هذا القبيل، فهذا لا يهمني إطلاقا. علي أن أتحمل مسؤولية الاختلاف عن هذه المجموعة، لأن السينما بالنسبة لي وطن ولغة. ولكن في المقابل يهمني أكثر أن تشاهد أفلامي في برلين وفي متحف الفن الحديث والمعاصر لا"موما" بنيويورك وفي روسيا وغيرها من البلدان، بنفس "الدهشة" و" المفاجأة". أحيانا لا يملك المتفرج الأجنبي مفاتيح لحل بعض الرموز، فمثلا حين يشاهد علبة الكبريت "وقيد السبع"، فهذا شيء عادي بالنسبة له. غير أن الأمر يختلف تماما حين يتعلق بالمتفرج المغربي، تبدو هذه الجزئية البسيطة بروستية (نسبة إلى بروست) لإنها تستحضر طفولته أو مراهقته أو جزءا من ذكرياته أو الحنين للماضي. إذن فهذه الجزئيات مهمة ويجب على الفيلم أن يكشفها. فحين أتحدث عن الشخصيات يجب أن يكون لدي حنان و تعاطف تجاهها، ونفس الشيء بالنسبة للممثلين. لا يمكني الاشتغال مع أشخاص لا أحبهم. لست ساديا ولا أريد أن أعذب أحدا. و لكن ما يثير الاستغراب هو اني أعذب فقط الأشخاص الذين أحبهم. أُعذب الشخصيات كثيرا في أفلامي ولا أشفق عليها لأني أحبها. لا يمكنني مثلا أن أحكي قصصا عن أشخاص يعيشون على الهامش مثل حارس المرأب أو رجل يرقص في "الهدية" إذا لم أحس بهذا الحنان تجاههم وإلا فسأكون متعاليا عليهم، كأن أراهم من أعلى مثل باحث علمي وأصدر أحكاما. وهذا النوع من السينما يمارس بشكل كبير في المغرب، كأن نحكي مثلا عن قصص العنف ضد المرأة أو عن مواضيع طنانة ومصطنعة. أنا لا يهمني ما يسمى ب"سينما الجنوب" لأن تفاصيلها وأهدافها منحطة، فهي تحاول دائما استعمال معاناة الآخرين بنوع من السخرية وتنجز حولهم أفلاما فقط لأنهم فقراء. يجب أن أحس بأني في مستوى معاناة هؤلاء الشخصيات حتى أحس بها وأتعاطف معها. حين تشاهد أفلامي تدرك أني لا أصدر أحكاما، لأن العلاقات الإنسانية في النهاية هي ما يهمني، و يمكنك أن تحس بذلك، لأن الكاميرا ليست فقط مجرد آلة ولكنها جهاز لكشف الكذب، فهي تفضح حين لا تسير الأمور كما يجب. n هل يحيلنا مشهد توقف "الحصان العربي" وعجزه عن إكمال الطريق إلى ما يسمى بالربيع العربي؟ p المسألة أكبر من ذك، إنها اليغوريا حول الشعب العربي بشكل عام. وعلى كل حال يمكن أن أقول إن تاريخنا توقف بعد حرب الخليج بل منذ حرب البترول في 1973 أوقبل ذلك، وبعد تفكك منظومة ما يسمى بدول عدم الانحياز واستقلال مجموعة من الدول العربية، أصبحت كل دولة تدافع على مصالحها الخاصة. وهذا التفكك نجم عنه إعدام مجموعة من الدول (فلسطين والعراق وسوريا ...) وهناك دول تحتضر كمصر وتونس وأخرى تنتظر دورها. لدينا انطباع اليوم بأن تاريخنا توقف وأصبحت لدينا قناعة بأننا ضحايا أنفسنا، شئنا ذلك ام أبينا. هنا يأتي طارق بن زياد ليحدث توازنا حول تفكك الهوية العربية. اليوم حين نتحدث عن العالم العربي فإننا نتحدث عن الإمارات العربية المتحدة وعن الدول التي تملك تكنولوجيا عالية و اقتصادا قويا، اما السياسة فقد اصبحت مختصرة في العلاقات الدبلوماسية بين البلدان حين يتعلق الأمر بالحرب أو ما شابه ذلك. ولهذا فإن أهم ما كان إيجابيا في الربيع العربي هو إعطاء مكانة للفرد وهذا شيء لا يقدر ثمنه، لأنه من الصعب أن يجد الفرد مكانته في المجتمعات العربية اللهم إلا إذا كان من النخبة المثقفة أو منحدرا من عائلة ميسورة وفرت له شروط متابعة الدراسة. في اللقطة الأولى مثلا يطلب من الشخصية أن تقول كل ما لديها ولكنها لا تستطيع، وهذا حال جل الناس في الواقع. ليس لديهم ما يقولون، ليس لهم صوت. ولهذا السبب نجد أن الجيش أو الإسلاميين هما من استولى على السلطة في البلدان التي عرفت الربيع العربي، لأن السلطات العربية عرفت كيف تقضي مند سنين على كل الرؤوس التي أينعت. قتلوا كل الذين كان بإمكانهم أن يكونوا زعماء سياسيين. نحن اليوم في مجتمع أصبح فيه مستوى جل الناس هزيلا. ناس انتهازيون يبحثون عن مصلحتهم الخاصة ويفضلونها على المصلحة العامة.