لا يستقيم في نظري الحديث عن الكاتب العربي الكبير الراحل نجيب محفوظ خارج العلاقة الوطيدة والجدلية التي ظلت تربطه على مدى العقود بالسينما والأدب على حد سواء. إنه لمن نافلة القول أن نذكر أو أن نؤكد على الدور الكبير الذي لعبته السينما في سعة، بل وشمولية انتشار أدبه وجعله يسهم في خلق الوجدان الموحد متبوءا عن جدارة واستحقاق لا جدال فيهما مكانته كأديب الشعب والناطق بأحاسيسه سواء تعلق الامر بالمواطن القارئ أو غير القارئ. لقد كان نجيب محفوظ أول أديب يكتب مباشرة وخصيصا للسينما بداية من العام 1945، بل إن وظيفته ليست فقط الإبداعية، بل الإدارية أيضا ارتبطت بالسينما بشكل مباشر الى حين إحالته على التقاعد سنة 1971. إذ منذ العام 1959 عمل مديرا للرقابة ثم رئيسا لمؤسسة السينما، ثم مستشارا لوزير الثقافة في شؤون السينما وبذلك كانت له بصمات واضحة في الحياة السينمائية المصرية سواء على صعيد التشريع أو التدبير، ناهيك على مستوى الخلق والابداع السينمائيين. وبالعودة إلى بداية علاقة نجيب محفوظ بالسينما ، نجد الكاتب الكبير نجيب محفوظ يفسر ذلك بتواضع العلماء طبعا، كما هو مثبت في المؤلف القيم نجيب محفوظ على الشاشة للناقد السينمائي المصري هاشم النحاس بقوله: عرفني صديقي المرحوم الدكتور فؤاد نويرة بصلاح أبو سيف وطلب مني أن أشارك في كتابة السيناريو لفيلم بعنوان مغامرات عنتر وعبلة وكان صاحب فكرة الفيلم هو صلاح أبو سيف، وعندما سألته (أي أبو سيف) عن ماهية كتابة السيناريو الذي لم أكن أعرفه أجابني هو الذي كان قد قرأ لي رواية عبث الاقدار ليوهمني بأن كتابة السيناريو لا تختلف عما اكتبه. والحقيقة يقول نجيب محفوظ إنني تعلمت كتابة السيناريو على يد صلاح أبو سيف. هكذا إذن دأب نجيب محفوظ على الاشتغال منذ الاربعينات بكتابة السيناريو واستمر كذلك الى سنة 1960 وما بعد . ولكننا نتوقف عند هذه السنة لأنها تمثل اللحظة التي سيتم فيها أول اقتباس لإحدى رواياته الشخصية والتي هي بالضبط بداية ونهاية. ومن المثير للانتباه والجدير ليس فقط بالتسجيل، بل محتاج للتفكير والتمحيص هو أنه وافق على الاقتباس السينمائي لروايته ولكنه حرص على أن لا يتولى هو شخصيا هذه العملية، بل يتركها لغيره، وكان السيناريست المصري صلاح عز الدين هو من تولى الإعداد السينمائي وكتابة السيناريو لرواية نجيب محفوظ بداية ونهاية وقام بإخراجها صديق العمر المخرج صلاح أبو سيف . وجب التنصيص إذن على أن حضور نجيب محفوظ في السينما هو حضور مزدوج، أي حضور بصفته سيناريست محترف وحضور بصفته أديب وروائي تستقطب أعماله العديد من كتاب السيناريو المخرجين اللامعين وكان نجيب محفوظ قد كتب الى حدود سنة 1960، أي تاريخ إخراج أول عمل مقتبس من روايته بداية ونهاية قرابة 17 عملا ما بين سيناريو وقصة سينمائية ومشاركة وكتابة السيناريو. ولا أدل على خصوبة هذه الحقبة وفرة الاعمال التي كتبت خلالها، نذكر على سبيل الاستئناس: لك يوم يا ظالم 1951 من إخراج صلاح ابو سيف، درب المهابيل 1955 إخراج توفيق صالح، الفتوة 1957 وأنا حرة 1959 وكلاهما من إخراج صلاح ابو سيف، هذا بالإضافة الى جميلة بوحريد 1959 الذي أخرجه يوسف شاهين، احنا التلاميذ 1959 إخراج عاطف سالم. وجدير بالذكر أن بعض هذه الاعمال خصوصا التي كتبها مباشرة للسينما مثل فتوة أو درب المهابيل ضاهت في تماسكها الدرامي وقوة شخصياتها ومكوناتها السردية وعمقها الفلسفي اعماله الروائية مما جعلها قمة في صناعة السينما الخالصة، اي السينما غير المقتبسة من عمل أدبي. ولا غرابة أن نجد من بين الأحسن مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، كما حصرها الناقد المصري المرحوم سعد الدين توفيق في موسوعته قصة السينما مصر 1969 ، 17 فيلما يحضر فيها نجيب محفوظ سواء كأصل أدبي أو كاتب سيناريو وهذه اللائحة تحتوي بالإضافة الى ما ذكرناه من أفلام في الفقرات السابقة خان الخليلي ثرثرة فوق النيل الذي يعتبر من أجمل الافلام التي صورت بعمق وجمالية وجرأة أزمة المثقفين العرب. ومكنت هذه الاعمال الأثيرة نجيب محفوظ من أن يتعامل مع أهم الرواد، صناع العصر الذهبي للسينما المصرية الذي نورد إضافة الى من ذكرناهم أسماء نيازي مصطفى، حسن رمزي، كمال الشيخ، حسن الإمام، حسام الدين مصطفى، أنور الشناوي.. وعلى سبيل الختام لهذه الورقة السريعة يمكن القول مع الناقد السينمائي المصري هشام النحاس بتصرف وإضافة: إذا كان صلاح أبو سيف قد علم نجيب محفوظ حرفة كتابة السيناريو وإذا كانت السينما قد منحت نجيب محفوظ الشهرة وبتعبير أدق الانتشار، فإن نجيب محفوظ قد نفخ في السينما الروح المصرية ووهبها الشخصية والمحلية التي رفعتها للعالمية ومدها بأفلام تتمتع على مستوى السيناريو بسلامة بناء الشخصيات وحدة الصراع وقوة الحبكة، وبذلك يكون هو من استنبت السينما كتقنية فنية جديدة في التربية المصرية بجدارة المؤسسين الذين لا نملك إلا أن نقف بخشوع تحية لأرواحهم ونخص في هذا المقام روح الكاتب المصري العربي الكبير، هذه الروح التي ستظل ترفرف فوق نهر النيل العظيم، بل ترفرف فوق ربوع العالم العربي من الخليج الى المحيط.