« يستند تفسير الماضي على القياس مع الحاضر. وبدوره يغذي هذا التفسير طريقة فهمنا للحاضر» أنطوان بروست «تكسير حاجز الصمت»، العنوان الفرعي للفيلم الوثائقي الثاني لطارق الإدريسي، يقول أشياء كثيرة عن روح هذا العمل الذي يسعى لمقاربة الأحداث الأليمة التي شهدتها منطقة الريف سنتي 1958 و1959. حيث اختلفت الروايات في توصيف ما حدث بين من يرى فيها ثورة ذات أبعاد سياسية، ومن ينعتها بالانتفاضة الشعبية، وحتى من يميل إلى كون الأمر يتعلق ب»أحداث مفتعلة». وإذا كان الوثائقي قد أفلح في الإمساك بخيوط هذا التعقيد التاريخي والتزام المسافة الضرورية للاستماع إلى جل أطرافه (من دون أن نغفل غياب أي ممثل عن الجيش بحكم صعوبة كسر التكتم الذي يلف هذه المؤسسة في المغرب)، محققا التعاقد الضمني الذي يحمله العنوان الفرعي، أي كسر الطابو وفضح المسكوت عنه في هذا الموضوع، فإنه للأسف لم يتمكن من إيجاد المسافة والصيغة المناسبتين لمقاربة البعد الإنساني للمأساة. الشهادات في قلب المقاربة مباشرة بعد جينريك البداية، ينطلق مسلسل الشهادات مفصحا عن المقاربة الأساسية التي اعتمدها سيناريو الوثائقي (كتبه المخرج رفقة خافيير رادا) التي ترتكز على الذاكرة أكثر من أي شيء آخر. ذاكرة يجسدها على الخصوص الشهود المستجوبون، ولعل الترافلينغ الأمامي نحو وجوهههم التي لا بفتأ تتكرر مشكلا النسق الجمالي المهيمن الذي يحكم حركة الكاميرا، أبلغ دليل على محورية دورهم في الفيلم. «في هذا الموضوع، هناك كثير من الذاكرة وقليل من التاريخ» يقول أحد الخبراء المستجوَبين، وهذا يعود في الأساس إلى ندرة الوثائق التاريخية التي تتعلق بهذا الحدث، من دون أن ننسى تأثير الثقافة الشفهية التي تسيطر على المخيال المغربي. لكن هذا لا ينفي قصور نفس التحقيق في عمل الإدريسي خصوصا على مستوى السؤالين الثالث والرابع من الأسئلة الأساسية التي تُطرح عادة في حوادث من هذا القبيل: ماذا حدث؟ من أمر به ؟ من نفذه ؟ ومن استفاد منه ؟ تنطوي شهادات الضحايا على قسم مهم من الحقيقة في الإجابة على السؤال الأول، من دون أن تدّعي أنها تمتلكها كلها لأن هذا بكل بساطة ضرب من المستحيل من المنظور العلمي. يقول طارق الإدريسي في حوار مع مجلة «ليومنيس» الالكترونية: « الكاميرا كانت بين الشهود، وأنا أتكلم من أجلهم. من جهة أخرى، الناس غالبا ما ينتظرون مني الحقائق، حيث لم يسبق أن أُنجز فيلم عن هذا الموضوع من قبل. لكن وظيفتي ليست هي إيجاد الحقيقة. (...) الحقيقة التي توصلت إليها في الختام هي أن هناك حقائق متعددة. وبما أني لست ممن يتبنون نظرية المؤامرة، فإني أؤمن بالتعقيد وتشابك العوامل المتحكمة. هناك دائما شخص يتميز بالذكاء والقوة اللازمين ينجح في حسم اللعبة لصالحه داخل سياق جيوسياسي معين». يختار المخرج الشاب إذا بوضوح أن ينحاز إلى صف الحقيقية التاريخية لكنه يهمل واجب الالتزام بالمسافة النقدية والأسئلة الأخلاقية التي تتحدد بناء عليها. حيث أننا لم نحس أبدا بنبرة الشك المحفّز على البحث التي ينبغي أن يزرع الوثائقي بذوره في نفوس المشاهدين ويجعل منه محرك السرد والتشويق الدرامي والحارس من خطر التيه والتشتت. فلا مناص من نبرة الشك من أجل بلورة الغموض الفني الذي من دونه لا تستقيم المعادلة الجمالية. لأن المتلقي لا يجد داخل العمل موضع تموقع للتفكير وبناء خلاصة خاصة به إلا من داخل الفسحة التي يتيحها الغموض. أما صيرورة البحث والتشويق الدرامي فهي ضرورية كي يصوغ الوثائقي التاريخي نسقا خلاقا، يفرد من خلاله مقاربته الخاصة وهي تتحقق شيئا فشيئا أمام أعين المتلقي، إلى أن تصل إلى برالخلاصة والخلاص. وهذا ما لم نره في «الريف 1958 59» الذي بدا وكأنه حسم في الإجابات حتى قبل أن يبدأ في طرح الأسئلة. خيوط العقدة قبل الغوص في رواية الأحداث الدامية الذي تركزت في بداية سنة 1959، تم إدراج تقديم يسهب في شرح السياق التاريخي لأحداث الريف، من خلال عرض على شكل ملخص لأهم المعطيات التي تشكلت في السنوات التي تلت استقلال المغرب وخرائط توضيحية وصور وأشرطة من الأرشيف. إذا كان هذا التقديم قد خدم طرح الفيلم من الناحية الموضوعية، فإنه من منظور الشكل قد أضفى جمودا على الحبكة مما جعل الفيلم يكاد يلامس الأكاديمية في كثير من أطواره. فالسلاسة واحدة من أهم مقومات أي وثائقي ولهذا يعتبر المونتاج مفتاح النجاح الأساسي فيه أكثر من الفيلم التخييلي. كان القطع في «الريف 195859» جافا ولم يتسلح للأسف بالمجهود الإبداعي اللازم من أجل استجلاب معنى أعمق من الحكي الخطي. من جهة ثانية، فقد تمكن الفيلم، بفضل مجهود البحث والتمحيص في الجانب المتعلق بخلفية الأحداث، من الإمساك بخيوط التعقيد بين النظريات التي تعتقد بوجود مناورات حركت خيوط التوتر من وراء الستار حتى تحقق مآرب سياسية تحكمية من جهة، والرأي الذي يدفع في اتجاه أن الأمر يتعلق بانتفاضة شعبية كانت تطالب بحقوق اجتماعية وسياسية، وبين الطرفين، ثمة رأي ثالث ربما هو الأقرب إلى «الحقيقة»، يعتقد أن المطالب الشعبية كانت موجودة لكنها وُظّفت من قبل الأطراف الساسية المتنازعة على النفوذ بالمنطقة بما فيها فرنسا وإسبانيا، دون أن نغفل الدور (المُختلف حول أهميته) الذي لعبه نفوذ وتأثير محمد بن عبد الكريم الخطابي في هذه القضية. ما وراء الفظاعة يفضي اعتماد الوثائقي في الأساس على شهادات (تتخللها لقطات تحريك تعيد تركيب القصص والمناخات الواردة في الروايات) إلى قصور في النفاذ إلى البعد الإنساني لمحنة الضحايا. حيث أن تكرار الحديث عن الفظاعة بشكل شبه مباشرلا يلبث أن يفقد مفعوله. فكم كنا نودّ ونحن نشاهد الوثائقي، أن يندمج السرد في معيش الضحايا اليومي ويلمس في ثناياه آثار الجراح التي لم تندمل بعد، أو أن تعانق الكاميرا تلك المساحة الهائلة التي ظلت خارج «كادر» الاستجواب. حيث أن اللقطات النادرة التي تخترق فيها عفوية الضحايا جدار الاستجواب الرسمي فيتحدثون عن الحاضر والمستقبل من وجهة نظرهم كانت لحظات سينمائية بتميز، على غرار اللقطة التي سألت فيها الضحية الطاعنة في السن طاقم التصوير بنبرة مزاح: « هل أنتم متأكدين أنكم لستم مبعوثين من «المخزن» ؟ فأنا لا زلت أخاف منه». هذه لقطة تستجلي حقيقة أساسية مفادها أن صورة «المخزن» المخيف لم تختف بعد بشكل تام ولا زال تأثيرها ساريا على الخيال والإدراك الباطن. هناك أيضا مشهد قوي يقول فيه إبن الحاج سلّام أمزيان (أحد قادة صفوف المنتفضين) بحرقة مكتومة أن ما يهمه اليوم هو أن شباب الريف لا زالوا يديرون أعينهم نحو أوروبا بدل بلدهم، وأن أبناءه المزدادين بهولندا قد تنقطع صلتهم بالمغرب بشكل نهائي في المستقبل. من جهة أخرى، فإن الفيلم لم يبحث على النبش بدقة كافية في ذاكرة الأماكن التي شهدت المآسي من أجل تحقيق التفاعل السحري المعروف في أبجديات الوثائقي بين الإنسان والمكان. وهذا ما يحيلنا (مع مراعاة الفوارق بالطبع) على واحدة من أروع التجارب الوثائقية في السنوات الخمس الأخيرة: ثنائية جوشوا أوبنهايمر حول مجازر سلطة الانقلاب العسكري بأندونيسيا في حق الشيوعيين في ستينيات القرن الماضي. حيث توفق أوبنهايمر على التسامي فوق الفظاعة نحو مستويات حافلة بالانسانية من خلال اعتماد جمالية الزيف التمثلي في «فعل القتل» (2012)، ثم المقابلة الخلاقة بين الجلاد والضحية التي تضع «قناع فيرونيك» (العزيز على قلب اندريه بازان) فوق وجه معاناة أقرباء الضحايا في فيلمه التالي «نظرة الصمت» (2014). يبقى الريف 1958 59 رغم كل ذلك محطة مهمة في رفع الصمت عن ذاكرة فصل تاريخي مأساوي شهدته بلادنا، في انتظار أعمال أخرى تتسلح بنفس تحقيقي أعمق واختيارات جمالية أرفع، من أجل إماطة اللثام عن حقيقة ما وقع وتلمس أثره في المعيش اليومي لمنطقة الريف، وانعكاساته على حاضر أبنائها ومستقبلهم.