في ما يتعلق بنظام تفكيري، القصة القصيرة، ملكة الملكات، تتأثر بشكل مفاجئ، غريب وخفي يصل إلى تخوم التراجع، نتيجة ما يدور ويمور في جوانب ومدارات مملكتها المترامية الأطراف حد الشعر، الرواية، المسرح والسينما، حد مختلف أشكال الكتابة عموما. يبدو الأمر كما لو يتعلق بما يشبه الكيان المدموغ بالشعور والأحاسيس، هذا التأثر المحسوس يقيد سلطتها إلى درجة الصمت المدوخ والمهيب. هي تعرف من غير أن تعرف أن خدامها - فرسانها، من القصاصين البررة، الأوفياء من الغم والضيم في حالة، ورغم ذلك لا تنبس ببنت شفة. هذا المنحى يرهن بنية نظام تفكيرها بشكل عقلاني حتى مشارف الوقوف ولو من بعيد على طبيعة مسببات هذا الجرح المسكون بصمت يشبه الموت حين لا موت. وهي تقف أمام مرايا ممالكها الشاسعة المساحات تتأمل أحوال مسار لغتها- جسدها الموقوفة حركته عما يشبه النبض ، تهزها الضربة تلو الضربة على نحو مباغت، فتنسحب محتمية بالجملة الأخيرة ، تستعيد اللغة على مهل صفاء وضوح مراياها، فتدرك أن الأمر لا يتعلق فقط بالإجهاز على مختلف مكوناتها ، بل بمحو أصلها وفصلها وقطع دابر مؤثثات وجوده، من الأرض لغاية البحر مرورا بالسماء. الأمر إذن اضطراري، وهو يدفع بالقصة القصيرة لأن تدمدم وهي تسعف جراحات ممالكها القصية. واحد مثل أنيس الرافعي يدرك كل هذا. يتأثر بذبذبات القصة القصيرة وغمغماتها، يحس بها كما لو كان يضع سماعة على قلبها ، ويستوعب صمتها. واحد مثله خادم مخلص لها ، وينزهها في كل تجربة أمام مرايا مختلف الفنون والأشكال التعبيرية الأخرى. واحد مثله صائغ ماهر للغتها ومقيم بارع في جملتها الأخيرة. في الصورة حين لا صورة، ينتصب القاص أنيس الرافعي، الخفي مثل الومضة والساكن على شاكلة تراتبية هدوء الضجة المشغولة بمختلف الأعضاء الموصولة بنسيج العروق لغاية حبة القلب. ينتصب مطبوعا بمزية اختلاف من القدرة والبهاء على تجاوز آثار جيل/ أجيال من القصاصين الممجدين. الصحيح تخطي آثار من المستحيل الالتفاف عنها أو حولها ولو صدقا، كيف، وهل أنا من الوعي والجسارة حد الزعم والإقرار تصنيفا؟ ما علينا، أنيس الرافعي، واحد دون غيره، من « أشياء تمر دون أن تحدث فعلا» إلى «مصحة الدمى»، غيره نهج سبيل القصة القصيرة كاختيار جمالي إبداعي ، غير أنه من فرط وحدته المتعددة، يقاوم اختياره من حيث لا يدري، وينهج سبيلا متفردا ومتعرجا محمولا على أطياف أمواج قراءاته العميقة، الهادرة. ألم يدعي الرجل، ذات يوم في سورة جنون خلاق، أنه ذو أصل أرجنتيني؟ من جهة أخرى هي كل الجهات، عندما يكتب، ما يشبه القصة القصيرة ( تمارين، تعاقبات، ملاحظات، مينيماليات، قصص صوتية، طقوس، دليل حكائي، فوتوغرام...)، من موقع ألفباء واقعية مخاتلة أو عجائبية مجنحة، يشعل من خلال هذا الذي يجترحه في كل كتاب قصصي جذوة اعتراض على كل ما هو تقليدي. هذا الاعتراض المفكر فيه ، هو الذي ينمي القدرة على مقاومة المعيار كلما تعلق الأمر بتكريس الجاهز من أشكال بائدة، وإرهابية أحيانا . وذم أنماط الكتابة المفخخة العمياء. القصة القصيرة من قريب لبعيد يعرقل حركة خطاها هذا العمى المستفحل. وأنيس الرافعي يتقن استراتيجية الخروج من هذا العمى: في قصصه القصيرة ينتظم غير قليل من الإحساس بما يشبه دوخة الدم في الشرايين. المغايرة والاختلاف هي التي تحكم بنية هذا الأمر. قصة مخادعة. أجل، ينظمها وتر نغمة من الفقدان حد الانقلاب. هذا الانقلاب المفكر فيه بروية هو الذي يرتب من غير أن يرتب، قصص الرافعي القصيرة ، يرتب ما يشبه قصص الرافعي القصيرة التي تشبهه. يسويها ضمنيا ويمنحها شرعية سكون دهشة وجاذبية التجديد. طبعا، من الصعب الحديث اليوم داخل مستويات جغرافيا القصة القصيرة، المغربية أو العربية، عن ملامح أنفاس التجديد، ولا عن شبه آثار علاماته وخياله. أنيس الرافعي، وحده يضع نصب معوله / قلمه هذا الأمر، ويحكم – هندسة التخطيط للبناء، على هامش التدمير أو المحو. وهو أمر بين عندما يشيد بناء صرح قصة قصيرة تكتب ما تنشده من تغيير من موقع البحث المشروع عن قصة مرتجلة، تعبد البحث عن مسار للخروج من رذالة قصة قصيرة تقليدية متقادمة حد العجز. هذا الشكل المحسوس على بساط جوهر – معطى سمته خلخلة بنية تفكير القارئ، هو الذي يسم تجربة أنيس الرافعي من منظور ضبط اشتعالات علاقاته بالقارئ. هنا العلاقة سوية دونما اعتلاء أو ادعاءات. قصصه القصيرة تأخذ سبيلها وقارئ عليه أن يبحث عن طريقه، عليه أن يبحث عن الاهتداء إلى روحه. إنّ أعمال أنيس الرافعي، من وجهة نظري، هي صورة اللامتناهي في السرد الحكائي، وصاحبها هو محرك الساكن في القصة القصيرة.