« إن خريطة المغرب التي لا تحتوي الفلسفة غير جديرة بالنظر إليها ، لأنها إهانة للعقل والفكر « من أجل بناء مشروع النهضة العقلانية ، ينبغي تحرير السياسة من القداسة ، ذلك أن السياسة هي حياة الدولة ، والمحرك الأول للنهضة الثقافية ، إذ انطلاقا من مؤسساتها ينتشر التنوير والوعي التاريخي ، إنهما نفس الشيء ، لعبة الحقيقة مع ذاتها ، والحقيقة لا تمتلك هويتها إلا حين تتحقق في الواقع ، والواقع هو الوعي الذاتي الذي يعلن عن عصر العقل ، والكشوفات العقلانية ومولد الذات الفاعلة. وإذا كان كل من دعا إلى الكفر فهو كافر ، فإن كل من دعا إلى نبد العقل فهو جاهل ، و إنطلاقا من هذه المعادلة سنتوجه إلى تلك العقول النمطية التي لا تفهم الأدلة البرهانية ، بل تقتصر على الأمثال والأدلة الموجودة في النصوص المقدسة ، إنها تسخر نفسها للعقيدة الساذجة ، من أجل أن تحمي نفسها بشراسة العامة في مواجهة تلك النخبة من المفكرين والفلاسفة والعلماء. ولذلك أضحت الفلسفة تهمة : لأن من يقرأ الفلسفة ويشتغل بعلم التنجيم أطلقت العامة عليه اسم زنديق ...فإن زلَّ في شبهة رجموه بالحجارة أو أحرقوه قبل أن يصل أمره السلطان أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة . فإلى أي مدى ظل هذا الفكر التكفيري الجامد يسري في الجسد المغربي كالسرطان ؟ ، ومن يمثله الآن ؟ ، ألا تكون تلك الأحزاب الدينية ، والتيارات العدمية التي تمارس الهيمنة السياسية والسلطة الانضباطية مرعبة لكل فكر تنويري ؟ . من الحكمة أن نعترف بأن الصراع بين محبة الحكمة وعلم الكلام ، قد إنتهى بسيطرة الأشاعرة على الفلاسفة ، وتمكنوا من الهيمنة على السلطة الروحية ، ولذلك قاموا بتوجيه كل مؤسسات الدولة نحو التقليد والخرافة والعقل الأسطوري ، ومن المؤسف أن هذا التوجه ظل سائداً في المغرب إلى يومنا هذا ، مما حكم على النهضة العقلانية بالانهيار ، ولم يعد بإمكاننا مقاومة هذا التيار الشرس لأنه يتحكم في كل شيء ، السلطة والمال ويستطيع أن يدمر كل من يعارضه ، هكذا تم تغيير النهضة العقلانية بالنهضة الكلامية ، وعوض أن تكون هويتنا رشدية أصبحت أشعرية ، وبما أن هذا القدر الحزين أحدث ثقوباً في الكينونة ، فإنه من الصعب على الفيلسوف أن يرمم هذه الثقوب ، ويوجه إلى مصدر ذلك النور الفطري الذي ينمو فيه العقل بلغة ديكارت ، حين يثبت وجوده انطلاقاً من الفكر : أنا موجود بلا ريب ، لأنني إقتنعت ، أو لأنني فكرت بشيء ، ولكن لا أدري ، قد يكون هناك مضل شديد القوة والمكر ، يبدل كل مهارته لتضليلي دائما ..فيضلني ما يشاء انه عاجز أبدا ، عن أن يجعلني لاشيء ، ما دمت أفكر . والحال أن هذا الفيلسوف قد إستطاع لوحده أن يخوض ثورة العقل، من أجل تأسيس نهضة الفكر ، لأنه كان شجاعاً ، لكن من أين جاءت هذه الثقة في العقل ؟ ، وما هو هذا الشيء الذي يفكر ؟ ، وهل يستطيع كل إنسان أن يتدوق هذا المقام ؟ وما المانع من النظر إلى الإنسان كحيوان عاقل ، بدلا من حيوان عابد ؟ لنفترض الآن أن ديكارت قد انبعث في هذه الأمة ، فهل يستطيع تحريرها من هذا الثقل التيولوجي ، من أجل تثبيت وجودها ، من خلال الفكر؟ أم أنه سيفشل كما فشل من قبله ابن رشد والرشدية . التي خاضت معركة حقيقية مع التيار الكلامي الذي تسلل إلى السلطة السياسية وأمسى يتحكم في المؤسسات العلمية والدينية ويظهر بواسطة تقنيات الضبط ، من أجل الإخضاع . ذلك أن هذه الأشعرية الجديدة تحولت إلى أخطبوط يتحكم في الجامعات والمؤسسات التعليمية ، والتشريعية ، والحكومية ، منتشرة في كل الأمكنة ، وليس لها من هدف سوى الانحطاط وقمع الفكر التنويري . لا أمل لنا إذن ، ومع ذلك نقاتل ، وننتظر شمس الأنوار ، ومولد الوعي بالذات ، عسى أن تتحقق تلك الأحلام الرشدية الناعمة ، عندما كان نسيمها يحمل رائحة الوجود والفكر. هكذا سيظهر الإنسان المواطن بالمعنى الذي يعطيه التنوير للمواطن وهو: خروج الإنسان من حالة القصور الفكري إلى الرشدية ، عندما يصبح العقل العام والعقل الخاص في تناغم ، أي أن يضع كل واحد منهما نفسه في خدمة الآخر ، بيد أن مغادرة الإنسان للقصور الفكري الذي اقترفه في حق نفسه ، لا يتم إلا بالمعرفة والحرية ؛ حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور : ولكي يستخدم الإنسان عقله عليه أن يتخطى الكسل والجبن وحكم الأوصياء ممثلا في الكتاب والطبيب ورجل الدين ، وعليه أن يتجاوز حالة القصور التي أصبحت طبيعة ملازمة له . والحال أن الأوضاع الراهنة تشكل صدمة للتنوير ، مادام أن الناس لا يزالون بعيدين عن استخدام عقولهم المستقلة في أمور الدين استخداما صالحاً واثقا بدون توجيه غيرهم ، وأنهم ليسوا على إستعداد لذلك ولا هيئوا للقيام بهذه المهمة . ومع ذلك يمكن القول بان هنالك تحولات في التاريخ المعاصر ، تسعى إلى تحقيق هذا الهدف ، وبإمكاننا أن نحلم بعصر التنوير عندنا . فكيف تكون الوصاية في أمور الدين هي السبب في القصور الفكري الذي يعتقل الإنسان في المغرب الراهن ؟ ، ومن يمارس هذه الوصاية ؟ وكيف يمكن تحرير الإنسان منها ؟ . من أجل أن يعامل الإنسان معاملة تليق بكرامته ، ينبغي عليه إستعادة حريته : وأنه لا خوف على الأمن العام ووحدة المجتمع من إطلاق الحرية ، فلا خطر في الحرية وفي إستعمال الناس لعقولهم ، على أن هذا يتطلب وجود دولة قوية وعقلانية . لكن الوصاية ضرراً وإمتهاناً لكرامة الإنسان ، لأنها لا تساير الوصاية في العلوم والفنون والفلسفة ، ولذلك لا تترك للإنسان الحرية في إستعمال عقله ، بل تحاصره بالواجب الديني والأخلاقي .لأن هدفها الإخضاع والطاعة ، والذي يطيع لا يستعمل عقله ، أو بالأحرى يفقد عقله ، مما يبعده عن سيرورة التنوير التي تعلم الناس الحق في التفكير كما ينبغي ، والخضوع للواجب كما يجب . ومعنى ذلك الابتعاد عن الطاعة العمياء التي يروج لها الحزب الديني ، والسلطة الانضباطية .لكن كيف يمكن تحقيق الحرية من هؤلاء الأوصياء ؟ ، بل كيف يمكن للإنسان أن يكتشف نفسه ؟، هل من خلال الاعتقاد بأنه ولد حراً ؟، أم لأنه يملك العقل كأثمن كنز؟. فبالمعرفة نتحرر ، ذلك أن بلوغ شاطئ الحرية يتم عبر مركب المعرفة ، فلا حرية بدون معرفة : كن حرأً ولا تخف ، واحترم حرية الغير .وعلى هذا الأساس تقوم نظرية الدولة المدنية العقلانية ، لأنها تحكم بالحرية ، بل جعلت منها طريقة للعيش والحياة ، لأن الإنسان محكوم عليه بالحرية .وبما أن الإرادة الحرة تشيد الذات الناقدة ، فإن هذه الذات هي التي تقوم بنشر التنوير ، الذي يكون دائما نتيجة الفلسفة النقدية : شعارها التحرير من خلال المعرفة. ومهما يكن التنوير مرعباً للأرواح التيولوجية ، فإنه لا يتخلى عن أخلاقيات الحرية باسم العقلانية النقدية ، لان التعليم يقود الناس إلى إحترام القانون والواجب الأخلاقي ، على عكس الجهل الذي يؤدي إلى التطرف ، وعدم الإيمان بالمعرفة والتعدد الثقافي ، فمحاربة الفقر بالعلم هي محاربة للفقر والجهل معاً ، أما إحداث صندوق للتضامن مع الفقراء وحرمانهم من التربية والتعليم ، فإنه برميل بلا قعر ، يهدد المجتمع بالإنفجار . وربما يكون هذا هو شعار المرحلة ، التي تتهرب من العقلانية النقدية ، كما لو كانت هي الدواء الأعظم للاستبداد السياسي . ذلك أن الذين يحكمون لا يعرفون بأن الحل هو النهضة العقلانية ، ولن تكون سوى رشدية ، فالمدرسة الرشدية ممكنة في المغرب ، لأنها بدأت ، وينبغي أن تستمر. وهي قادرة على تدمير الظلام ، وفتح المجال أمام التوير . ولذلك لابد من الانتقال المطلق من الذات التيولوجية التي تعلم الناس الجبن والكسل إلى الذات الناقدة ومسؤوليتها العلمية والأخلاقية ، هكذا ستقود ثورة إصلاح التعليم ، لا كشعار سياسي زائف بل كغاية أنبل لفلسفة التنوير ، لأن الظلامي ينشر الظلام ، والتنويري ينشر التنوير ، فأيهما أقرب إلى النهضة العقلانية؟ ، وكيف يمكن لمن جعل المغرب في آخر المراتب أن يحكم ؟ ، ولماذا أن الذات الناقدة تظل مهمشة ؟، ألا يكون من السخرية أن نحاور الغرب بعقل تيولوجي تيوقراطي، ونخفي العقل الأنواري ؟ بل لماذا يتم تهميش الأنطولوجيا التاريخية ؟ ولماذا أبعدت المدرسة الرشدية من الحق في الوجود. تلك هي الأسئلة التي ينبغي صياغتها في صمت لأنها ظلت في النسيان كل هذه القرون ، وأرغم التاريخ المزور أن يحل محل التاريخ الحقيقي ، والفكر الخرافي محل الفكر الفلسفي ، ليلقى بالمغرب في الضياع ، بيد أن الحقيقة لا تتأخر في الوصول عندما يحل موعدها ، لأنها تعرف بأن اضطهاد العلماء لا يخدم مصلحتها ، ولذلك فإن الأمة التي تضطهد الفلاسفة هي أمة تطرد الحقيقة من وطنها ولكن يستحيل أن توقف تقدم النهار على الليل والمعرفة على الجهل ، فضوء النهار سيبدد ظلمة هذا الليل ، ويتخلص منه ،من أجل أن تصبح علاقة المعرفة بالحقيقة علاقة انطولوجيا .