استهلال: «أود طبعا أن تتعدد المناقشات والتعقيبات لخلق جو فكري إسلامي حول إشكاليات جديدة محررة من قيود الأرثودكسيات والميتولوجيات». م. أركون حين عزمت النية على قراءة كتاب الأستاذ محمد أركون «تاريخية الفكر العربي الإسلامي، توجهت إليه بأسئلة مسبقة. أي قصدته وفي ذهني أسئلة بعينها أبحث لها عن أجوبة. هذه الأسئلة هي نفسها التي قرأت بها ثلاثية محمد عابد الجابري وقرأت بها كتاب «مفهوم العقل» لعبد الله العروي، وكتاب «الكلام العربي» لمنصف الشللي. تتعلق هذه الأسئلة أولا باللغة من حيث هي بيانات قارة ومتغيرة (سانكرونية، دياكرونية) ومن حيث هي تراكيب وصياغات في علاقاتها بالفكر من حيث هو جملة أفكار تفرزه ويفرزها تشَكله ويشَكلها. وتتعلق ثانيا بالعقل الذي أبدع هذه اللغة وتطور في كنفها وتطورت في كنفه. لا يتأخر الجواب الذي يصوغه محمد أركون كموقف عام في الظهور منذ الصفحات الأولى. ففي مقدمة الكتاب موضوع قراءتنا «إشارات وتنبيهات» نقرأ ما يلي: لا أفصل طبعا بين اللغة والفكر بقولي هذا. إني أعرف أن اللغة والفكر في تفاعل مبدع ومستمر، وكلاهما يستمد غذاءه المشترك وديناميكيته الخلاقة من الممارسة الوجودية (الحياتية) اليومية: أي من التاريخ الفردي والجماعي معا. ولذلك ألح على العلاقة الثلاثية الدائرية التفاعلية (لا الخطية ولا السببية) بين العناصر التالية. وتكون العلاقة على الشكل التالي: ويقصد بذلك أن اللغة العربية (المقصودة هنا) هي «كسائر اللغات لها تاريخها الفكري الخاص، أي منظومتها الخاصة من الدلالات الحافة المرتبطة بالنزعات الإيديولوجية بين القوى الاجتماعية، إنها بحاجة إلى تطوير وتجديد وتطويرها وتجديدها لا ينطلق من كون هذه اللغة «قاصرة» ولا أن فكر المسلمين ضيق أو ضعيف بالطبيعة أو بشكل أزلي «إنما يرتبط بالتعالي على المعوقات التي حالت دون منح هذه اللغة تاريخيتها وذلك بالانتباه إلى «ما لم يفكر فيه بعد». أي «لابد من الإشارة إلى أن التفكير في أصول الدين (اللاهوت) وفي أصول الفقه كفلسفة الحقوق وفي علم الأخلاق وفي علم الروحانيات على غرار ما قام به الغازالي في إحياء علوم الدين. كل ذلك منسي أو مجهول أو ثانوي اليوم بالنسبة إلى ما أسميته بإيديولوجيا الكفاح والدفاع عن «الإسلام» بشكل تبريري وتسجيلي بصفة عامة. اللامفكر فيه إذن هو تلك الجهة أو الجهات الفكرية والمفهومية التي دخلت لهذا السبب أو ذاك طي النسيان أو التجاهل، وهي في نظر محمد أركون مجال الإشكالات الجديدة التي يمكن استكشافها لإعادة الوعي بها مجددا لكن وفق مناهج جديدة ومتعددة تفرض ضرورة البحث العلمي للإحاطة بها. على رأس هذه المناهج المقصد السليم للسانيات خاصة لما تتضمنه من إشكاليات منها أساسا «مشكلة المشاكل في كل لغة بشرية وخاصة في الخطاب الديني باللغة العربية ألا وهي مشكلة ما سميته بمنظومة الدلالات الحافة أو المحيطة. مجمل هذه الإشارات والتنبيهات تركز على أن اللغة بنية لها دلالاتها بما فيها تلك الحافة، تقارب وتمس الفكر الواعي ولكن أيضا ذلك «اللامفكر فيه». كل هذا في حقبة تاريخية متطورة أو في صيرورة دائمة يومية. الفكر الإسلامي واللامفكر فيه: من أجل تأسيس تاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي لابد من شروط منها انفتاحه على تجليات هذا الفكر وعلى منتجاته اللامفكر فيها على الخصوص، وانفتاحه على علوم الإنسان والمجتمع ومناهجها وتساؤلاتها كما تبلورت لدى الغرب خلال مدة ثلاثين سنة مضت. «أقصد بذلك أني أحرص على الإلتزام بمبادئ المعرفة العلمية وإحترام حقوقها مهما يكن الثمن (...) كما أني أهدف إلى إدخال نوع من البحث الحي الذي يفكر ويتأمل بمشاكل الأمس واليوم (...). ومنها ما يميزه عن التاريخ التقليدي. فهذا الأخير يعتمد الفرضية التي نعتقد بأن للأفكار قوام قار ومتماسك، ذات قوة ذهنية تتجاوز التاريخ، وهي بذلك جواهر وماهيات ثابتة، «كائنات منفصلة ومتفرقة تستمر فقط بقوة الذهن (العقل) مؤسسة على الأنطولوجيا المتعالية ومؤسسة لها. هذا الفهم التقليدي والسائد لتاريخ الفكر الإسلامي هو الذي أفرز لنا التصورات الأنطولوجية التيولوجية ذات المنحى التوفيقي المتعالي (...). ومن نتائج هذه التصورات بالإضافة إلى منح الأفكار ضربا من الإستقلالية، تشظي المعرفة وتبعية فروعها المختلف (أدبية، لغوية، بلاغية) للأصل الديني. أي أنطو-تيولوجيا مهيمنة إذن. تاريخ الأفكار المنشود هذا يملك برنامجا ضخما يميل إلى فهم كل المنتجات الثقافية العربية (بما فيها الأدب بالمعنى الصرف للكلمة)، فهما كليا ويبحث في شروط صلاحيتها بحثا نقديا. لا يكتفي بالوصف والتصنيف والتبويب، أي لا يدعي البحث الأكاديمي الذي يغفل «اللامفكر فيه» كالمخيال العربي واللاعقل في مقابل العقل، والكتابي في مقابل الشفوي. إنه تاريخ يركز اهتمامه على العمليات المختلفة لإنتاج المعنى. البحث في معنى التأريخ ومعنى فن السرد والمخيال الأسطوري بالإضافة إلى التصنيفات السابقة: الأدب، اللغة، البلاغة.. هذا هو لعمري مفهوم «الإبستيمي» أو نظام الفكر كما سماه فوكو. نظام يبدو لنا من خلال عينة من الحقول المعرفية كما حددها محمد أركون: * القرآن وتجربة المدينة. * جيل الصحابة. * العقل المخيال في الأدبيات التأريخية والجغرافية. * رهانات العقلانية وتحولات المعنى.... كيف برز العقل في هذه الفضاءات وما هي السمات المميزة له؟ إذن هذه الموضوعات «تتيح لنا تجميع الخصائص المكونة للفكر (العقل) الإسلامي والمتمثلة في العناصر الأساسية للتصور والاعتقاد وأشكال الإدراك ومحاكمة الأشياء، ثم تأطير التعبير وأساليبه والتوترات الثقافية... وآليات الانتقاء والقبول أو الرفض والطرح». إذن لا يمكن الحديث عن العقل دون الحديث عن اللاعقل أو الخيال، وعن الشفاهي دون الحديث عن الكتابي، وعن المعنى دون الحديث عن اللامعنى، لأن التاريخ الجديد للأفكار لا يؤمن بالإقصاء والاستحواذ بقدر ما يؤمن بالتكرار والاختلاف. إن خطاطة اللغة - الفكر- التاريخ تجد تطبيقها الملموس في مساءلة القرآن وعلاقته بالمدينة حيث لا يمكن فهم لغة القرآن دون ربطها بالواقع المعيش. ولا يمكن فهم أفكاره دون إرجاعها إلى اللغة التي جاء فيها. من هنا فكل الشروح والتفاسير التي جاءت فيما بعد هي تأويلات أرادها أصحابها وليس محمولات اللغة كما عبر عنها القرآن. «يحملونها ما لا تحتمل». هذه العقلانية المطابقة للواقع المعيش، قد تضطر إلى البحث فيما هو لاعقلاني لتوطيد أركانها. هذا ما نلمسه مثلا في موضوع الصحابة حين لا نغفل الجانب الأسطوري والخرافي في قد قوام هذه الشخصيات. لقد لعب الخيال دورا في نسج صورة هؤلاء الصحابة، لا يجب طمسه بل بالعكس يجب التركيز عليه في فهم الموضوع. أما بصدد موضوع الخلافة والإمامة، فيبدو أن الموضوع قد استنفد كل جوانبه وحيثياته، إلا أن محمد أركون يذكرنا بما بقي «لا مفكرا فيه» في هذا الموضوع بالضبط: مثل مسائل الفلسفة السياسية، والسيكولوجيا التاريخية، والسلطة، والسيادة، والمقدس، والخيال الاجتماعي...، تبدو هذه المفاهيم إذا تركت كما فهمت سابقا مستهلكة، لكن سحنتها التحديثية تنبع من ربط المقدس بالمخيال الاجتماعي، وربط وظيفته بسيكولوجية الأفراد.. ووضع كل ذلك في منهجيات حديثة تمتاز بتداخل الآفاق والسبل. من المواضيع الأكثر حساسية في إطار تحليلنا هذا (اللغة-الفكر-التاريخ) موضوع صلة الشعر بالفلسفة. كان الناس وما يزالون ينظرون إلى الشعر من حيث هو خيال ووجدان وينظرون إلى الفلسفة من حيث هي عقل وتفكير. هذا هو السبب الذي جعلهم لا يرون في العلاقة بينهما إلا لمسات وصلات خفيفة، فينسبون آراء فلسفية للمتنبي أو للمعري ولا يتجاوزون ذلك. والمسكوت عنه حسب أركون هو أن شعرية ما يسمى بالشعر العربي والمكانة الفلسفية للكتابات المصنفة في خانة الفلسفة أو الحكمة لا تزال تنظر تحديدا ودراسة لغوية وسيميائية ونفسية. هذه الدراسة اللغوية تأخذ مشروعيتها من النظر إلى الشعر باعتباره أولا وأخيرا مجالا لقرض اللغة وتفجير معانيها، وإلى الفلسفة باعتبارها مجالا لقرض المفهوم وتفجير مستوياته (دولوز). «إن الأساليب التي يستخدمها الفيلسوف في تحوير الواقع بمساعدة نوع من المفردات والأساليب البلاغية يذكرنا بذلك الذي يستخدمه الشاعر». لكن لا يجب الوقوف عند هذا الحد في فهم علاقة الشعر بالفلسفة. خاصة وأن اللغة هي القاسم المشترك بينهما. بل يجب القيام بمغامرة تنظر إلى الشعر باعتباره نظاما يخفي مقومات اللغة (العربية) كما يخفي موجهات إنتاجها للمعنى. إن كل قراءة للفكر الإسلامي لا تنتبه «للانقلاب الأنطولوجي الحديث» كما يسميه أركون، لا يمكن اعتبارها قراءة جدية. والإنقلاب هذا يهم الاستكانة والاطمئنان مقابل المغامرة القلقة للروح الباحثة عن المعنى وتحولاته. وحين يتعلق الأمر بالمعنى وإنتاجه وفهمه وتأويله يجب أن نتساءل: من ينتج المعنى ويسوغه؟ ما علاقته باللامعنى؟. المقدس موجود ومعطى، وكيفية قراءته واستنباطه حددها أركون فيما أسميناه «بالعقل المطابق» أي دراسة النصوص في زمنها ومكانها ولغتها ومحيطها، والإبقاء على معناها الأول كما جاءت به تلك النصوص ما أمكن. أما معنى المعنى أي مواكبة المعنى الأول للتاريخ والتطورات التاريخية فيخضع لا محالة للعقل البشري وتأويله «العقل الذي يعرف فلسفيا إن الوعي يتوصل إلى تغيير العالم عن طريق الممارسة ويجسد الأبدي من خلال التحول والصيرورة». وإذن لا يكفي التأكيد على الحقيقة الأبدية السرمدية، بل يجب الانتباه إلى كيف يؤكد البشر في حياتهم الآن هذه الحقيقة، وكيف يكيفونها مع تطلعاتهم ومصالحهم. حيث أنه في آخر المطاف «ليس هناك من حقيقة غير الحقيقة التي تخص الكائن الإنساني المنفرد والمتشخص والمنخرط ضمن أوضاع محسوسة وإيضاحات جاهزة.الحقيقة هي فهم الإنسان لأوضاعه ومحيطه. وأول مدخل منهجي لفهم هذه الحقيقة هو اللغة والسيميائيات. فبدل الصيغة الكلاسيكية في الفلسفة: الكلمة تساوي الشيء وتؤدي إلى المعنى هناك الآن بنية جديدة لتصور الدلالة وهي: العلامة/الدال والمدلول، الصورة المادية والتصور الذهني.