«فحيازتك لتراث أمتك، لا تكون تامة إلا حين تستعيد التجارب التي مرت بها الأمة لا أن تكتفي بحفظه كما لو كان جثة ميتة» إذا كان على السياسة أن تبني حياة الدولة المدنية، فإن الأداة ستكون هي الفكر السياسي النظري الذي يستمد مقدماته من العلوم الإنسانية وليس من التيولوجيا لأن السياسة حين يتم دمجها في الدين تتحول إلى علم الكلام، فتفترض أن هناك أعداء ينبغي دحضهم، أو تبكيتهم بلغة الأشاعرة الذين يحددون علم الكلام بأنه تحصين للعقيدة والدفاع عنها ضد الأعداء. فكيف يتم استثمار هذه الدعوة الكلامية في أطروحة الأحزاب التيولوجية في العالم العربي؟ وبعبارة أخرى لماذا العودة إلى إحياء علم الكلام في هذا الظرف بالذات؟، وما علاقة هذا البعث بالربيع العربي؟، وكيف استطاع علماء الكلام الجدد أن يحولوه إلى خريف حزين؟. من البديهي أن التاريخ لا يتطور إلا من خلال إبداع العصر الذي يساير نمط التفكير السائد عند شعب ما، ولذلك أن الفضاء السياسي العربي كان يقابله فضاء عصر بدون حرية وتفكير إنه عصر إنه عصر الاستبداد الذي يقوم على معادلة دمج الدين في السياسة والجيوش المنظمة وجهالة الأمة، فداخل هذه البنية ينمو الفكر المتطرف، لأنه يعتبر نفسه معتزلا ويقوم بدعاية مضادة للاستبداد بأدوات الاستبداد، حيث ينطلق من أطروحة تحصين العقيدة والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف. وبخاصة وأنه لا يجد صعوبة في تبليغ دعوته لأن المادة الأولى تكون مهيئة للتصنيع، وتفهم بسهولة كلام المرشد والوعاظ، لأنهم ينطلقون من أراء يعرفوها مسبقا من يستمع إليهم. هكذا يتطور الحماس الملتهب إلى نشوة بالمذهب الجديد على الرغم من أنه يقوم على مقدمات قديمة دوغمائية، يتم تكرارها منذ الفرق الكلامية، حيث تتجه إلى مقارعة الحجة بالحجة، غايتها الانتصار: جور الحاكم يقابله الأمر بالمعروف، الاستبداد تقابله الثورة، القانون الوضعي يقابله القانون الإلهي...إنها تقابلات تسعى إلى هدم أطروحة المخالف في الرأي، وإقرار أطروحة المنتصر. ثمة برهان على فشل هذه التيوسياسة لكونها تقوم على الأنقاض، عشق الأنقاض باعتبارها فضاء تنمو فيه الروح، ذلك أن روح الإنسان العربي تراثية تقوم على الإيمان المباشر بالمطلق، ثم تحكم على نفسها بالانكماش، مما يجعلها مادة أولى يتم تصنيعها بواسطة المذاهب الفقهية والكلامية، لا من أجل الاعتقاد ، بل من أجل الوصول إلى السلطة وتحقيق الثروة.. لكن كيف يمكن أن تتحول الآراء الشائعة إلى فكر؟، بل أكثر من ذلك كيف يمكن بناء سياسة مدنية في غياب مجتمع مدني قوي؟. لابد من إثراء روح الأمة داخل فلسفة التاريخ، وإبعادها عن الحروب الطائفية والعنف المذهبي، لأنهما يعجلان بانهيارها، ومادام أن الحقيقة لا توجد بشكل صحيح سوى في النسق العلمي، فإننا لم نصل بعد إلى الحقيقة، لأن غياب العلم، والفكر يساهمان في انتشار الروح في الضياع. مما يجعلها تتشبث بالحقيقة الموروثة، على الرغم من أنها تريد أن تأخذ مظهرها الجديد، ولكنها لا تستطيع أن تتخلص من عالمها القديم. فالطعم اللامع الذي يثير رغبة الروح في العض، حتى يتم اصطيادها، لا يقدم سوى هوية الفراغ: وعظا وإرشادا، ونشوة بالحماس الملتهب، والوجدان الشرسة، التي تقوم بالقتل وتأمر به. فكيف يمكن تفسير أن أمة تقتل بعضها البعض باسم الدين؟، أو ما علاقة الدين بالسياسة في هذه الأمة التي هدمت العمران وأحرقت المراكب، واستنزفت ثرواتها الطبيعية؟، وكيف يمكن لأمة أن تنهض وهي تحارب ادوات النهضة؟. لا يمكن لهذه الانقسامات وهذه الحروب أن تحل إلا بالعودة إلى العقل، ومبدأ العقل هو الهوية في الاختلاف، لا الهوية التي تطمس الاختلافات فتصبح كالليل الذي تبدو فيه جميع الأبقار سوداء بلغة هيجل، هكذا تصبح الحاجة إلى الفكر الفلسفي من أجل رفع التعارض بين الفرد والمجتمع، وبين طبقات المجتمع نفسه. أجل إن الحقيقة هي هدف الفلسفة، بل هي هدف تاريخ الإنسان بأسره، وهي لا تفهم إلا في إطار صيرورة التاريخ، والذين لا يفهمون هذا الخطاب ينبغي أن يلوموا أنفسهم قبل أن يتوجهوا باللوم إلى العلماء الحقيقيين وليس إلى تلك المجالس الوسطوية التي تتمتع بالأبخرة واللذات الحسية. إذ يجب أن نشيد روح الأمة على المعارف العلمية، والفكر الفلسفي والسياسي الحداثي، بعيدا عن أولئك الذين يتمتعون بقدرات متواضعة ونمطيين ودوغمائيين، وإلا سنظل نفسر الانتقال بالانتقال، ونحكم على الروح بارتداء ثياب النوم ليتم تأهيلها إلى الموت. في أعماق هذا الانحطاط، ينبغي على الأرواح العلمية أن تنتفض ضد علم الكلام لأن الروح أو الإنسان يصنع حضارته وتقدمه. والحقيقة تقتضي أن نقول بأن كون الشعب لا يريد التخلي عن «اللا أنا» بأي شكل من الأشكال، لأنه يخشى التنوير والعقلانية، وصراع الذات مع نفسها التي تعودت على الراحة والكسل، وعلى الرغم من أن ذلك يكون على حساب كرامتها وحريتها، ولذلك فإن فلسفة الحرية ستسعى إلى جعل من فكرة الأنا ذات حرة بعيدة عن الشيئية، ويعترف هيجل بأن الفلسفة الحدية اكتشفت كرامة الإنسان، لكن هذه الكرامة لم تتحقق بعد في الحياة السياسية لبعض الشعوب، فمن المسؤول على استعباد الناس، وحرمانهم من الحرية والحياة الكريمة؟. مع فلسفة التنوير إذن نستطيع أن نحقق حريتنا بالنضال، وكرامتنا بالقتال، ولا نستطيع تحقيقهما مع سياسة الموسم الانتخابي، سياسة تجارب الضرائب، وخيرات البلاد، والطمع في القوت اليومي للأبرياء، هؤلاء الذين يتمتعون بالقصور والسيارات الفخمة، وينظرون إلى الشعب نظرة احتقار، بل ويعتبرونه مجرد غوغاء وأعشاب ضارة بلغة ابن رشد. فبأي معنى تظل الفلسفة تقترح على آلام هذا الشعب؟ وإلى متى نترك هؤلاء الأغبياء يخربون إرادة الأمة؟. لقد وجب علي أن أكون النضال والمستقبل والهدف، لذلك لا يعرف الشعب الطريق التي يسلكها إذ هو لم يدرك حقيقة إرادتي التي تقول الشعب يريد السعادة.