أعادت الصور التي نقلتها مختلف الفضائيات ليلة الأربعاء الخميس، إلى الأذهان حريق القاهرة الذي عرفته العاصمة المصرية في يناير 1952 ، والذي تعددت الروايات حول من وقف وراءه وأسبابه وإن اتفقت أنه هو الذي رسخ قناعة الضباط الأحرار آنذاك بقيادة جمال عبد الناصر بضرورة الحل الجراحي لإنهاء حكم الملك فاروق وتسلم الجيش للسلطة . والذين اعتقدوا أن حريق القاهرة صفحة من الماضي تصلح للدرس واتخاذ العبر لم يكونوا يعتقدون أن ألسنة اللهب ستعود إلى القاهرة وهذه المرة كنتيجة لهجوم مواطنين مصريين على مواطنين مصريين آخرين يختلفون معهم في الحل الأنجع لأزمة الحكم القائمة حاليا بمصر. قاهرة نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد ، قاهرة أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب ، قاهرة رواد السينما والمسرح وحركة النهضة والتنوير التي ألهمت وأثرت في مجموع الدول العربية ، هذه القاهرة التي يحب أهلها وعشاقها تسميتها بالعامية مَصْر لأنها ترمز إلى جمهورية مصر العربية كلها ، تعيش حاليا أحلك أيامها منذ حريق 1952 . ورغم تعدد الروايات ونفي هذه الجهة لما قالته تلك إلا أن ما نقلته كاميرات التلفزة في أكثر من فضائية كان دليلا على أن ما جرى ، ويجرى إلى حدود كتابة هذه السطور ، كان مخططا له من طرف الجهة أو الجهات التي ترفض رحيل الرئيس مبارك . ذلك أن الهجوم على « شباب ميدان التحرير» واستعمال الجمال والخيول ، ثم قنابل المولوطوف التي طالت حتى دبابات الجيش وكادت أن تؤدى إلى كارثة قومية وإنسانية عندما اقتربت من المتحف المصري ، كان يتطلب تنظيما ودعما ماديا ولوجيستيكيا هدفه إخراج المحتجين بالقوة من ميدان التحرير ووضع حد لجميع أشكال الاحتجاجات المطالبة برحيل مبارك الآن وليس في شتنبر. وربما هذا ما يميز الحريق الحالي عن حريق 1952 ، فقد اتضحت حقيقته وأهدافه عكس السابق الذي لم تكشف ألغازه ليومنا هذا . لكن الهجوم على ميدان التحرير ، وحسب المواقف التي صدرت عن أكثر من جهة ، كان له عكس المفعول الذي سعى إليه من خططوا له . الولاياتالمتحدة طالبت هذه المرة علانية بضرورة رحيل مبارك كحل للاحتقان الذي تعيشه أكبر دول الشرق الأوسط ، فقد أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض أن الرسالة التي أبلغها الرئيس أوباما لمبارك هي أن الوقت قد حان للتغيير موضحا أن ذلك يعني الآن وليس في شهر شتنبر ، موعد انتهاء ولاية مبارك . وفي أوروبا دعا قادة كل من بريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا واسبانيا في بيان مشترك الخميس الى البدء الفوري في العملية الانتقالية السياسية . أما الشباب المحتج بميدان التحرير وعدد من أحزاب المعارضة فقد رفض دعوة نائب الرئيس إلى الحوار قبل تنحي مبارك . لكن ما يثير المخاوف سواء في مصر أو خارجها أن يتأجل الحل السياسي ويترك المجال لمنازلة دموية بالشارع بين أنصار ومعارضي مبارك تأتي على الأخضر واليابس ، خصوصا أن الجراح والخلافات بين الطرفين قد تعمقت إلى أقصى الحدود . بين هذا الاحتمال أو ذاك يبقى موقف الجيش مفصليا . لقد كان موقفه ليلة الأربعاء الحميس مثيرا للتساؤلات ، زادها حدة تواري مختلف المسؤولين عن الأنظار مما رجح أن خلافات وصراعات كبيرة تدور بين أعمدة النظام حول « ما العمل؟» في غضون ذلك ماتزال قائمة وصفة مبارك للحل ، البقاء في كرسي الرئاسة إلى شتنبر والإعداد لانتقال هادئ للسلطة ، فقد لوحظ أن الجيش اتخذ مواقع وسط القاهرة للفصل بين طرفي المعادلة بالشارع ، وسط إنزال كبير لمناصري الرئيس في العديد من شوارع القاهرة ومدن مصرية أخرى ، في الوقت الذي أعلن رئيس الوزراء الجديد أحمد شفيق أن هناك ثغرة كبيرة جدا بجهاز الشرطة تجري معالجتها . غير أن تطور الأحداث وموازين القوى على الساحة المصرية منذ 25 يناير يؤكد أن الاحتمالات كلها ما تزال قائمة ، حتى في أسوأ صورها . القاهرة تحترق لكن أهلها ، ورثة تاريخ وحضارة لا يختلف اثنان عن ريادتها قادرون على إطفاء نيرانها ، وقد بدأت أولى المبادرات تلوح في الأفق ، أهمها مبادرة « أنقذوا مصر» التي أطلقها عدد من الشباب المثقفين حيث وجهوا دعوة إلى أسماء مرموقة وذات وزن بالساحة الثقافية والفكرية لتكوين درع كجدار فاصل يحول بين من يريد التظاهر دعماً للرئيس أو معارضة له، ومن بين الذين وجهت إليهم الدعوة الروائي بهاء طاهر والموسيقار عمار الشريعي والدكتور يحيى الجمل الفقيه الدستوري...إلخ . في أغلب الأزمات تتوارى إلى الوراء أصوات العقل والحكمة ويحتل المشهد المهيجون وتجار الوهم ولوبيات المصالح ، ومصر ساحة الآن لكل هؤلاء لكنها أيضا تحفل بطينة من أولئك القادرين على إخراجها من العتمة .