«توجد هندسة في دندنة الأوتار، كما توجد موسيقى في فراغات الأشكال الكروية» فيثاغورس تظل الرواية «مختبرا» إبداعيا جديرا بإدماج العديد من الأنماط الأدبية والفكرية والعلمية والأخلاقية، بناء على كفاياتها التوليفية والتلاؤمية. وفي ارتباطها الوثيق بالحضارات الإنسانية، فهي تكتب التاريخ الإنساني بخاصيتها الخيالية، باعتبار «الحقل الأدبي هو الذي ساهم بشكل أقوى في تحديث الوعي التاريخي» (1). علاوة على علاقتها العضوية بالسينما والمسرح، تمتلك الرواية آليات استيعاب مختلف الإبداعات المرئية، وخاصة الفنون التشكيلية منها (التصويرla peinture ، النحت، الفوتوغرافيا، الفن المعماري)، بإعادة صياغة الأفكار والأساليب والمفاهيم الفنية وتطويعها لغويا، في اتجاه تعيين واسترجاع صانعي الآثار «التصويرية» وإبراز حمولاتها الدلالية والجمالية وسياقاتها التاريخية، باعتماد قدر من أدوات النقد والقراءة الفنِّيَيْن (تاريخ الفن، تاريخ الأفكار، علم الجمال، علما النفس والاجتماع، ثقافة وعلوم الصورة)، بحسب سعة ثقافة الروائي البصرية. إذ يبقى النقد الفني – في نهاية المطاف- لونا أدبيا بامتياز. مثل هذا النموذج الروائي، يتجسد في «جيرترود» لحسن نجمي ( 2012 )، إذ تقوم الرواية على معطيات وحيثيات واقعية تنهل من مجال تاريخ الفن المعاصر الذي استطاع الكاتب أن ينفتح على هوامشه، ويَحْفرَ فيه منافذَهُ الخاصة لتوليف سَيْرٍ سَرْدي ذي خُصوبة «تخييلية بيوغرافية» محكمة، بتوجيه سيرورته التي تمليها حقيقة وتاريخ المدن والفضاءات والأمكنة والأروقة والصالونات الفنية والفنانين التشكيليين والكتاب، ومختلف المبدعين العالميين وميولاتهم ومواقفهم الفكرية والأسلوبية، وفق سياقاتها المذهبية والتاريخية. ضمن سلسلة الأحداث هذه، تبقى الأمريكية جيرترود ستاين (1898- 1946) المقيمة في باريس منذ 1903، تمثل قطب الرحى في تحريك وتفعيل هؤلاء المشاهير، نظرا لمكانتها الاعتبارية، بوصفها كاتبة وناقدة فنية وأدبية، حولت بيتها إلى أشهر صالون فني يستقطب كبار الفنانين والكتاب من عيار بيكاسو وماتيس وهيمينغواي وأبولينير في القرن الأول من القرن العشرين. فيما عُرِفَت بعلاقتها «السحاقية» (2) مع «أليس توكلاس» التي عاشت بصحبتها كعشيقة ومديرة أعمال. لعل القيمة الرمزية لهذه الشخصية، وارتباطها بعوالم الفن خاصة، هي ما دفع الكاتب لمنحها البطولة الرئيسَة، كي يستمر في إبحاره البصري، انطلاقا من رحلتها الفعلية سنة 1912 مع قرينتها أليس إلى طنجة الدولية، قِبلة المبدعين العالميين زَمَنئذ، وهي الزيارة المُوثَّقة في سيرة جيرترود «السيرة الذاتية لأليس توكلاس،1934»، حيث سيجعلها تُثْمِر على مستوى المتخيل، تلك العلاقة العاطفية العابرة في طنجة، بين الكاتبة الأمريكية ومحمد الطنجاوي. غير أن هذه العلاقة سرعان ما تتطور عبر سير الأحداث، بعد أن يقرر محمد «البطل اللّامعروف» تحقيق دعوة جيرترود والالتحاق بها في باريس ويصبح من أفراد أسرتها، إلى أن تلحقه الخيبة فيعود إلى مدينة طنجة. عبر هذا الرِّباط الإنساني يتسامى التخييل مع تدخل السارد حسن الكاتب (الصحفي) الذي رافق محمد في آخر حياته بطنجة، وربط بدوره علاقة مع ليديا الدبلوماسية الأمريكية بالرباط، هذه الأخيرة التي قدمت له المساعدة لتنفيذ وعده بكتابة سيرة محمد وعلاقته بجيرترود من جديد، بناء على بعض الصور والمخطوطات والوثائق التي أودعها إياه صديقه محمد قُبَيْل وفاته، وبعد أن خَصَّه بالحكي عن هواجسه وسرائره الدفينة. هذا التقابل العلائقي بين محمد وجيرترود وبين حسن وليديا، المحبوك بحس معياري رفيع، يشكل البنية التكاملية لإعادة نحت صورة وحياة ودواخل محمد المذكور بطريقة عَرَضية فقط في سيرة الكاتبة الأمريكية من جهة، ولخلق الأرضية اللائقة للتوغل حثيثا في إثارة الأسئلة الجوهرية والمستفزة حول علاقة الذات والآخر، وعلاقة الشرق والغرب ضمن رؤية منفتحة من جهة أخرى. الرؤية المنفرجة التي تتوسَّل بالتأمل اليقظ والمجادلة الاستكشافية المدعومة بثراء ثقافي تتخذ فيه المرجعيات البصرية أهمية بالغة، وهي المقصدية الأساس التي تبناها حسن نجمي، لتصريف ثقافته الفنية النابعة من اهتمامه المستدام بالمجال التشكيلي، استنادا إلى شخصية جيرترود التي يعود انشغاله بها إلى ثمانينيات القرن الماضي «انطلاقا من كتاب «سيرة أليس توكلاس»، الذي قرأه خلال تلك الفترة، فتتبع مسارها الحياتي والفني والأدبي ليكتشف كتابتها عن الخادمات وعلاقتها مع فنانين من طينة بيكاسو وماتيس وكتاب من عيار همنغواي»(3). في جولته البصرية الشيقة، عمل الكاتب على تأكيد اعتبارية المغرب الفني من خلال أعمال فنانينا الراحلين أحمد الشرقاوي (1934-1967) وجيلالي غرباوي (1930-1971) ومحمد القاسمي (1942-2003)، التي نصَّبها على جدران صالون ليديا،إضافة إلى عمل جاك ماجوريل (1886-1962) الذي عاش في المغرب(4). كما أشار إلى أوجين دولاكروا الذي تربطه أواصر فنية بالمغرب، حيث نزل في طنجة وأقام في مكناس ضمن بعثة ديبلوماسية فرنسية في عهد السلطان عبد الرحمان بن هشام سنة 1832م. فيما جعل من هنري ماتيس أحد الشخصيات الفاعلة في الأحداث، إذ يلتقي مع محمد، بَدْءاً من الحديث عن الموديل «حميدو» ولوحته التي أنجزها ماتيس إبان إقامته بفندق «فيلا دو فرانس» بطنجة في 1912، إلى أن يقوم بتحذير البطل الطنجاوي: «هذه الشابة مزاجية جدا. إنها تحب وتكره في نفس اللحظة (...) قد تتخلى عنك الأمريكية في أي لحظة كما لو كانت تفرغ من واجب !»(5). إن اعتبار محمد من «أسرة الأدباء» و»كرسام وأحيانا كنحات سيراميك»، يجعل ربط صلة الصداقة بفنانين من عيار بيكاسو وبراك ودولوني وخوان غري وموديغلياني وغيرهم من المبدعين أمرا مستساغا داخل شبكة الصداقات التي تتيحها جيرترود، المغرمة بِ»غابة اللوحات» التي تقتنيها، موضحة بصددها بأنْ لا حياة لها من غير تلك اللوحات: «سأظل هكذا إلى أن أموت، أقرأ وأكتب وأرافق هذه الاعمال وترافقني. قد أتعب من الناس أو يتعبون مني. ولكن هذه الكائنات الملونة لاتتعب مني ولا تتعبني. لقد حنَّطْت روحي في هذه الأعمال، وسأبقى حية طالما ظلت هي حية ! «(6). عبر صالون جيرترود وحركيتها وعلاقاتها المكثفة برموز الفن والأدب، يقحمنا الروائي بِنَسْجِهِ البديع ولغته الشاعرية والأنيقة في صلب أجواء باريس عاصمة الفن في بداية القرن العشرين، حيث عرفت ذروة الأساليب التشكيلية الموصولة بسيرورة تاريخ الفن المعاصر الذي نَتَلمَّس حقبته القوية في الرواية، باعتبار « عالم الأدب يُجيزُ أقوالا ليس بالإمكان الشك فيها، وهو بالتالي، يعطينا نموذجا، مُتَخَيَّلا بقدر التخَيُّل الذي تُريدونَهُ له، للحقيقة. وهذه الحقيقة الأدبية تنعكس على ما ندعوه حقيقة تأويلية « بتعبير أمبيرتو إيكو (7). يبقى الفنان الإسباني التكعيبي بابلو بيكاسو (1881-1973) من بين الأبطال المُؤثِّرين في الرواية بحسب تقديري، إذ يتكرر ذكر اسمه بكثافة ملحوظة من خلال سطوته الفنية كشخصية ملفتة ومنتجة للأعمال والأفكار والمواقف، ومن خلال البورتريه الذي أنجزه لصديقته جيرترود عبر أكثر من ثمانين وِضْعَة pauses، الأمر الذي يشي بتَعَمُّدِه أخْذ الوقت الكافي لتحليل الموديل وليس لإنجاز البورتريه فحسب، وهذا غيوم أبولينير يؤكد أن «رجلا مثل بيكاسو يدرس الشيء كما يفعل الطبيب الجراح الذي يشرح جثة» (8) ، زيادة على اعتبار الموديل «المسترجَل» و»البَدين» يستجيب لذوقه ولمبدإ التكعيبية القائم على البساطة الشكلية التي تتيحها الأشكال الدائرية والأحجام الكروية التي تُميِّز سلسلة من أعمال العري le nu الغرافيكية التي نفذها بيكاسو بتقنية الحفر (9). ذلك أن « بَّابلو شغوف بالجسد الممتلئ ذي الخلفية العريضة كما في لوحته «المستحِمّات» أو في لوحته «المستحمات ينظرن إلى طائرة». ويظهر شغفُه بالصدر الضخم ذي النهدين المُندفعَيْن مثلما في لوحته «امرأتان تجريان على الشاطئ»» (10)، مثلما جاء في الرواية التي أحاطت بكافة الأدبيات الدَّارِسَة للبورتريه، الذي عمل الروائي على منحه لونا من السرد العارف، المفعم بالمعطيات التاريخية والفنية المُنْبَنِية على الاطلاع الدقيق والواسع. من ثمة، لم تفُتْه الإشارة إلى أن ذلك العمل لم يقنع أحدا إلا المُصَوِّر le peintre والموديل، حيث «ظل بيكاسو يكرر تعليقا على ذلك الافتراض: هو لا يشبهها الآن، وسيأتي وقت فيتشابهان» (11)، موضحا توجه بيكاسو بشكل عينيها نحو الفراغ الذي يميز أعين الأقنعة الأفريقية، حيث «كان بيكاسو قد اختار الفنانين البدائيين مرشدين له حين قرر إنجاز البورتريه، وبتمثله للقناع الأفريقي حرَّر الوجه الإنساني» (12). في حين، بات الموديل يوجه السرد للكشف عن النظرة الفاعلة في إغراء الفنان، من خلال الخصائص التي شخصها الروائي بلمسة بصرية على لسان السارد وهو يتأمل ورقة البطل محمد المكشوفة حول جيرترود، الورقة الواصفة التي تبدأ بالحجم: «جسم كبير(...) جسد أبيض شمعي البشْرة. لزج ببريق عذب لا يراه الآخرون. بياض يتيح للنمش أن ينتشر بحرية ووضوح (...) هناك تناسق بين استدارة الوجه الجرماني الصارم وامتلاء الجسد. ويعطي الوركان المشدودان الإحساس بكونهما نقطتَيْ ارتكاز والتقاء النصف الأعلى بالنصف الأسفل (...) النهدان مشدودان بحَلَمَتَيْن تعلو إضاءتُهما البُنِّية الفاقعة وكأنها ستقودك إلى ظلام الحجرة عائدة بك إلى سن الرَّضاعة» (13). إذا كانت هذه القراءة التشكيلية الفاحصة تخص الجوانب العضوية في الجسد، فإن العودة إلى تبئير الوجه – في عملية ذهاب وإياب – هو ما يُكمِّل رسم الهوية الشخصية للموديل: «كانت، قد بدأت تلُوح بعض التجاعيد في أعلى وجهها وعلى طرفيْ العينين، تجاعيد أخرى دقيقة تكاد لا ترى إلا عبر انعكاس الضوء والظل أو عند تركيز النظر عن قرب في قسمات الوجه الوامض المكتنز على مستوى الخدين وأسفل الذَّقْن. ولكن العنق مازال ممتلئا، يُغري الناظر بأن يتَّكِئَ عليه ليَتنعَّم. عنقٌ رحب يُتَعذَّر أن يدَعَ النظرة محايدة» (14). هوامش * يتعلق الأمر في الأصل بالمداخلة التي ساهمت بها في «لقاء الكتابة والتشكيل- يد تصافح أخرى»، نظمته جمعية ملتقى الثقافات والفنون، الخزانة الوسائطية بالمحمدية، 05 يناير 2013 1- عبد الأحد السبتي، «المؤرخ والادب»، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 04-01-2013 2- في مذكراته A Moveable Feast تحدث إرنست همنغواي عن هذه العلاقة الشاذة وعلاقته بجيرترود أثناء إقامته بفرنسا 3- فاطمة الزهراء المرابط، «نقاد يلملمون صورة الأمريكية جيرترود في مدينة أصيلا»، يومية المساء، 22-03-2012 4- ابن مصمم الأثاث المشهور لويس ماجوريل، حل بمراكش في 1919 وعمل فيها على إقامة الحديقة المعروفة اليوم بحديقة ماجوريل التي تم افتتاحها في 1947 لاستقبال الزوار، فيما أرخ لعلاقته بمراكش في جل لوحاته 5- حسن نجمي، جيرترود، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2011، ص195 6- Ibid، ص113 7- أمبرتو إيكو، «من وظائف الأدب»، ترجمة عبد الرحيم حزل، الثقافة المغربية، وزارة الثقافة، ع 20-21، فبراير 2003، ص 245 8- علي أبو حيدر حرقوص، نحت وتأويل، دار الهادي، بيروت، ط1، 2009، ص38 9- أنظر عمله «النحات والموديل»، مجموعة فولار، حفر، 1933 - فوّاز طرابلسي، غيرنيكا بيروت، كتاب الكرمل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1987، ص76 10- حسن نجمي، جيرترود، Op-cit، ص 213 11- Ibid، ص 217 - في رواية مماثلة: لم يعجب البورتريه الكاتبة في البداية، بعد أن أضاف بيكاسو تعديلات على اللوحة فوضع مكان الفم خطا رفيعا، ورسم العينين على شكل لوزتين. أعجبت الكاتبة باللوحة هذه المرة، لكن أصدقاءه أخبروه أن المرأة في اللوحة لاتشبه جيرترود ستاين بتاتا، فرد عليهم قائلا: «سوف تشبهها في المستقبل». وقد كان معه حق على ما يبدو، فقد أصبحت تشبه البورتريه كثيرا عندما تقدمت جيرترود في السن. - نقلا عن سلوى ياسين، يومية الأخبار، 13-12-2012 12- Ibid، ص 220 13- Ibid، ص 149-150 14- Ibid، ص 244