تظل الرواية «مختبرا» إبداعيا جديرا بإدماج العديد من الأنماط الأدبية والفكرية والعلمية والأخلاقية، بناء على كفاياتها التوليفية والتلاؤمية. وفي ارتباطها الوثيق بالحضارات الإنسانية، فهي تكتب التاريخ الإنساني بخاصيتها الخيالية، باعتبار «الحقل الأدبي هو الذي ساهم بشكل أقوى في تحديث الوعي التاريخي» (عبد الأحد السبتي ). علاوة على علاقتها العضوية بالسينما والمسرح، تمتلك الرواية آليات استيعاب مختلف الإبداعات المرئية، وخاصة الفنون التشكيلية منها (التصويرla peinture ، النحت، الفن المعماري)، بإعادة صياغة الأفكار والأساليب والمفاهيم الفنية وتطويعها لغويا، في اتجاه تعيين صانعي الآثار «التصويرية» وإبراز حمولاتها الدلالية والجمالية وسياقاتها التاريخية، باعتماد قدر من أدوات النقد الفني (تاريخ الفن، علم الجمال، علما النفس والاجتماع، ثقافة وعلوم الصورة)، حسب سعة ثقافة الروائي البصرية. إذ يبقى النقد الفني - في نهاية المطاف- لونا أدبيا بامتياز. مثل هذا النموذج الروائي يتشخص في رواية «جيرترود» لحسن نجمي (المركز الثقافي العربي، 2012 )، التي تقوم على معطيات وحيثيات واقعية تنهل من مجال تاريخ الفن المعاصر الذي استطاع الكاتب أن ينفتح على هوامشه ويَحْفَرَ فيه منافذَهُ الخاصة لتوليف سَيْرٍ سَرْدي ذي خُصوبة «تخييلية بيوغرافية» محكمة بتوجيه سيرورته التي تمليها حقائق المدن والفضاءات والأمكنة والأروقة والصالونات الفنية وأسماء الفنانين التشكيليين والكتاب ومختلف المبدعين العالميين وميولاتهم ومواقفهم الفكرية والأسلوبية وفق سياقاتها المذهبية والتاريخية. ضمن سلسلة الأحداث هذه، تبقى الأمريكية جيرترود شتاين (1898- 1946) المقيمة في باريس منذ 1913 تمثل قطب الرحى في تحريك وتفعيل هؤلاء المشاهير، نظرا لمكانتها الاعتبارية، بوصفها كاتبة وناقدة فنية وأدبية حولت بيتها إلى أشهر صالون فني يستقطب كبار الفنانين والكتاب من عيار بيكاسو وماتيس وهمنغواي وأبولينير في ذلك العصر. فيما عُرِفَت بعلاقتها السحاقية مع أليس توكلاس التي عاشت بصحبتها كعشيقة ومديرة أعمال. لعل القيمة الرمزية لهذه الشخصية، وارتباطها بعوالم الفن خاصة، هي ما دفع الكاتب لمنحها البطولة الرئيسَة، كي يستمر في إبحاره البصري، انطلاقا من رحلتها مع قرينتها أليس إلى طنجة الدولية، قِبلة المبدعين العالميين وقتذاك، وهي الزيارة الموثَّقة في سيرة جيرترود «السيرة الذاتية لأليس توكلاس، 1934»، حيث ستُثمر رحلة 1912 تلك العلاقة العاطفية العابرة في طنجة بين الكاتبة الأمريكية ومحمد الطنجاوي، لكن سرعان ما تتطور العلاقة عبر سير الأحداث، بعد أن يقرر محمد «البطل اللامعروف» تحقيق دعوة جيرترود والالتحاق بها في باريس ويصبح من أفراد أسرتها، إلى أن تلحقه الخيبة فيعود إلى البوغاز. عبر هذا الرِّباط الإنساني يتسامى التخييل مع تدخل السارد على لسان حسن الكاتب (الصحفي) الذي رافق محمد في آخر حياته بطنجة، وربط بدوره علاقة مع ليديا الدبلوماسية الأمريكية بالرباط، حيث قدمت له المساعدة لتنفيذ وعده بكتابة سيرة محمد وعلاقته بجيرترود من جديد، بناء على بعض الصور والمخطوطات والوثائق التي أودعها إياه صديقه محمد قُبَيْل وفاته، وبعد أن خصه بالحكي عن هواجسه وسرائره الدفينة. هذا التقابل العلائقي بين محمد وجيرترود وبين حسن وليديا، المحبوك بحس معياري رفيع، يشكل البنية التكاملية لإعادة نحت صورة وحياة ودواخل محمد المذكور بطريقة عَرَضية فقط في سيرة الكاتبة الأمريكية من جهة، ولخلق الأرضية اللائقة للتوغل حثيثا في إثارة الأسئلة الجوهرية والمستفزة حول علاقة الذات بالآخر، وعلاقة الشرق بالغرب ضمن رؤية منفتحة من جهة أخرى. الرؤية المنفرجة التي تتوسَّل بالتأمل اليقظ والمجادلة الاستكشافية المدعومة بثراء ثقافي تتخذ فيه المرجعيات البصرية أهمية بالغة، وهي المقصدية الأساس التي تبناها حسن نجمي لتصريف ثقافته الفنية النابعة من اهتمامه المستدام بالمجال التشكيلي. في جولته البصرية الشيقة، عمل الكاتب على تأكيد اعتبارية المغرب الفني من خلال أعمال فنانينا الراحلين أحمد الشرقاوي وجيلالي الغرباوي ومحمد القاسمي، التي نصَّبها على جدران صالون ليديا، إضافة إلى عمل جاك ماجوريل الذي عاش في المغرب. كما أشار إلى أوجين دولاكروا، الذي تربطه أواصر فنية بالمغرب، حيث نزل في طنجة وأقام في مكناس ضمن بعثة عسكرية في عهد السلطان عبد الرحمان بن هشام (النصف الأول من القرن التاسع عشر). فيما جعل من هنري ماتيس إحدى الشخصيات الفاعلة في الأحداث، إذ يلتقي مع محمد، بَدْءًا من الحديث عن الموديل «حميدو» ولوحته التي أنجزها ماتيس إبان إقامته في فندق فيلا دوفرانس بطنجة في 1912، إلى أن يقوم بتحذير البطل الطنجاوي: «هذه الشابة مزاجية جدا. إنها تحب وتكره في نفس اللحظة (...) قد تتخلى عنك الأمريكية في أي لحظة كما لو كانت تفرغ من واجب!»(ص195). إن اعتبار محمد من «أسرة الأدباء» و»كرسام وأحيانا كنحاة سيراميك» يجعل ربط صلة الصداقة بفنانين من عيار بيكاسو وبراك ودولوني وخوان غري وموديغلياني وغيرهم من المبدعين أمرا مستساغا، داخل شبكة الصداقات التي تتيحها جيرترود، المغرمة ب»غابة اللوحات» التي تقتنيها، موضحة بصددها بأنْ لا حياة لها من غير تلك اللوحات: «لقد حنَّطْت روحي في هذه الأعمال، وسأبقى حية طالما ظلت هي حية!» (ص113). عبر صالون جيرترود وحركيتها وعلاقاتها المكثفة برموز الفن والأدب يقحمنا الروائي بِنَسْجِهِ البديع ولغته الشاعرية والأنيقة في صلب أجواء باريس عاصمة الفن في بداية القرن العشرين، حيث عرفت ذروة الأساليب التشكيلية الموصولة بسيرورة تاريخ الفن المعاصر، الذي نَتَلمَّس حقبته القوية في الرواية، باعتبار «عالم الأدب يُجيزُ أقوالا ليس بالإمكان الشك فيها، وهو، بالتالي، يعطينا نموذجا مُتَخَيَّلا بقدر التخَيُّل الذي تُريدونَهُ له، للحقيقة. وهذه الحقيقة الأدبية تنعكس على ما ندعوه حقيقة تأويلية « بتعبير أمبيرتو إيكو(ترجمة عبد الرحيم حزل). يبقى الفنان الإسباني التكعيبي بابلو بيكاسو من بين الأبطال الأساسيين في الرواية، حسب تقديري، إذ يتم ذكر اسمه بكثافة ملحوظة من خلال سطوته الفنية كشخصية مثيرة ومنتجة للأعمال والأفكار والمواقف، ومن خلال البورتريه الذي أنجزه لصديقته جيرترود عبر أكثر من ثمانين وِضْعَة pauses، وهو البورتريه المطبوع على غلاف الرواية بوصفه نصا مرئيا ينتظم ضمن المكونات المحورية في الرواية (وليس كعتبة فقط)، وباعتباره أهم قطعة فنية تمتلكها البطلة الأمريكية التي كتبت عن أعمال بيكاسو وقدمته إلى كبريات صالات العرض. في حين أصبح اسم بيكاسو يعني الكثير بالنسبة لمحمد، «فمنذ أن جاء إلى شقة جيرترود وهو يسمع بهذا الاسم مترددا على الشفاه (...) وطبعا، فمعظم جدران الشقة كان يغطيها بيكاسو» (ص138). من ثم، فإن لقاءه مع بيكاسو ظل «رأسماله الوحيد». + (تشكيلي وناقد فن)